... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة

















كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء










الحلقة (1)






في السنوات العجاف التي مرَّت على العراق تحت مسمى واضح المعالم والاهداف (الحصار) .. خيَّم على العراق زمناً عصيباً ساد فيه الظلام والخوف وعدم الاستقرار والمعاناة المستديمة للشعب العراقي طيلة ثلاث عشر سنة من الظلم الانساني فرضته قوى الاجرام والارهاب المسيطَرْ عليها من قبل امريكا وبريطانيا تحت ذريعة امتلاك العراق للسلاح المحرم دوليا ..! وهي اكذوبة واهية وتافهة روَّجتْها كل وسائل الاعلام الموالية لامريكا وبريطانيا (اكذب اكذب حتى يصدقك الاخرون) وهم يعرفون كل المعرفة ان العراق لا يمتلك أي سلاح محرم ..! على كل حال ، يا ليت تلك السنوات العجاف بقيت واستمرت ولا هذا الاحتلال البغيض الذي حطم ودمر كل البلد ..
حقيقة الامر اصبح كل عراقي في فترة الحصار الظالم لايعرف ماذا يفعل بالضبط ، فالحياة امست شبه متوقفة تماماً ، خاصة في السنوات الاولى من هذا الحصار ، وقد بدأ الانهيار في قيمة العملة العراقية يُلوِّحُ بالمخاطر القادمة وامسى الاقتصاد العراقي في تدهور مستمر مخيف .. وفي هذه الحالة اصبحت الدولة غير قادرة تماما على رعاية شؤونها بصورة عامة ، وبالتالي اصبح دور المواطن الفرد اكبر مما مضى نتيجة الظرف الذي يمر به المواطن والدولة على السواء ..
في هذه الظروف اصبحت الحياة صعبة ومملة ، بل مذلة ايضا ..! وقت الفراغ كثير ..! كيف يتم إملاؤه .؟ تأثرت وضعفت كل البنى التحتية للبلد ، في الوقت الذي يمر به العالم الخارجي بأعــظم المراحل التكنولوجية والتطور والتقدم ..!
في مجمل هذه الظروف ، لم استوعب فكرة البقاء مكتوف الايدي دون انجاز أي شئ ولو كان بسيطا ، فكنت اقضي الليالي حتى الصباح في الكتابة ، وكانت الكتابة هذه ، ملاذي الوحيد في هذه الظروف .. ذلك على الرغم من عدم وجود الكهرباء بصورة دائمة ، فأستعين بالشموع او وسائل اخرى تضئ لي المكان لأستمر بالكتابة ومحاولة نسيان ما نمرِّ به من ظروف قاهرة .. اما في الصباح فقد كنت اقضي الوقت اما بالذهاب الى دائرتي الرسمية (دائرة الفنون الموسيقية) او بأشياء اخرى من ضمنها الكتابة ايضا ..! او بعض الاوقات اقضيها بالنوم ، على مبدأ النوم في الصباح والسهر في المساء ..!
ما دمت قد ذكرت دائرة الفنون الموسيقية ، اود ان اذكر ان هذه الدائرة كان قد اسسها الموسيقار الراحل منير بشير حال عودته من غربته مطلع السبعينات بدعوة من الحكومة العراقية زمنذاك تحت مسمى (دائرة المستشار الفني) للبدء بمرحلة جديدة للموسيقى العراقية ، بل منعطفا تطوريا حقيقيا لها ..! ثم استقر اسمها الذي ما يزال اسما لها (دائرة الفنون الموسيقية) بعد ان توسعت اقسامها واعمالها .. وطبيعي ان والدنا الروحي منير بشير اسس هذه الدائرة آخذا بمبدأ التدرج في اكمال جميع اقسامها الفنية ، وقد كنت واحدا من خمسة موظفين بدأ بهم منير بشير مشواره الاداري ، وهم بالتالي النواة الاولى واول موظفي هذه الدائرة الاثيرة ، واعتقد انني استطيع تشخيصهم ، أنا وباسم حنا بطرس المساعد الاداري والفني للمرحوم منير بشير والمصور الفوتغرافي محمد لقمان والمترجم عادل ........؟ وكاتب الطابعة غزوان ........ ؟ هكذا بدأ منير بشير مشواره في بلده العراق العائد اليه من غربة دامت سنين عديدة ..!
على كل حال ، لا اريد ان اطيل في هذا الموضوع ، واعود الى ظروف الحصار الظالم ، وهي الظروف التي اقنعتني بالعودة الى الاستمرار في الكتابة كما يبدو ، بصورة او باخرى ..! فقد استطعت خلال هذه الظروف من انجاز كتابة اكثر من عشرة كتب مخطوطة فيما يخص الموسيقى العراقية والعربية والمقام العراقي ، رغم ان بعض هذه الكتب كان تاريخ بداية كتابتها منذ اواخر السبعينات ..! وفي ختام توديعنا للقرن العشرين ومستهل استقبالنا للقرن الواحد والعشرين ، تم طبع اول كتاب لي وكان (المقام العراقي الى اين .؟) عن طريق دار النشر الاثيرة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في بيروت وصاحبها الاعلامي المخضرم الاستاذ ماهر الكيالي .. كان ذلك في شهر آذار March 2001 ، وفي الشهر الاول كانون الثاني January من عام 2005 تم طبع كتابي الثاني (المقام العراقي بأصوات النساء) وقد كان من حيث انه كتاب ، بحث وفكرة جديدة ..! وكان عن طريق نفس الدار التي نشرت كتابي الاول .. وفي شباط February من هذا العام 2007 تم طبع كتابي الثالث الموسوم (الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها) عن الدار نفسها (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) في بيروت ..
وفي هذه الايام او الشهور القليلة القادمة ، انتظر صدور كتابين آخرين في العاصمة الجزائرية عن طريق وزارة الثقافة ان شاء الله ، احدهما (الاربعة الكبار في المقام العراقي) والآخر (الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007) ..
سبق لي اعزتي القراء الكرام ، ان نشرت لكم قبل ايام مضت ، مضمون كتابي الاول – المقام العراقي الى اين ..؟ - وها انا الآن اطلعكم على مضمون كتابي الثاني – المقام العراقي باصوات النساء – آملا استقبال ردود افعالكم ونقدكم البناء لمضمونه لتعم الفائدة للجميع والله من وراء القصد ..


ودمتم لاخيكم

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعيل الاعظمي

الاردن / عمان/ جبل الحسين / ص ب 922144
00962795820110
Hussain_alaadhamy@yahoo.com










المقام العراق بأصوات النساء
دراسة تحليلية فنية نقدية
لتجربة المرأة العراقية في الغناء
المقامي






بغــداد تأليف
2002 حسين إسماعيل الاعظمي



شكر وتقدير
شخوص قريبة إلى الوجدان ، أعربت عن مكنوناتها وشمَّرتْ عن ساعديها فأسهمت مشكورة ... أود هنا أن أعبر عن شكري وامتناني للإخلاص الفريد لكل من أعانني وساعدني على إنجاز هذا الكتاب خاصة شقيقي الغالي محمد واثق اسماعيل ( أبو هدى ) لتحمله العناء المستمر في تنقيح فصول هذا الكتاب لغوياً رغم استمرار الزيادات والإضافات والتغييرات متمنياً له كل التوفيق والنجاح ، وقد كان لعائلتي الحبيبة ، زوجتي وأبنائي ، الدور الفعال في هذا الإنجاز ، حيث أعانوني كثيراً في النقل والمراجعة والتدقيق وتحمل كل المتاعب الناجمة في إعداده ، ولا انسى شكري واحترامي للناقد الموسيقي الكبير عادل الهاشمي الذي زودني بمعلومات عن حياة بعض الاعلام الذين ورد ذكرهم في هوامش الكتاب , كما أتوجه بالشكر الجزيل للصديق العزيز عامر محمد علي ( أبو دعاء ) صاحب مكتب ( سبايدر ) بالحارثية من بغداد ، الذي هيأ كل المستلزمات وتحمل كل المتاعب معي في طبع هذا الكتاب بجهاز الكومبيوتر ثم إخراجه فنياً قبل تسليمه إلى مطبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر الموقرة , وكذلك بودي أن أشكر أخي العزيز قصي جاسم حسين ( أختام قصي ) لجهوده الطيبة في تذليل الكثير من العقبات, وكذلك ايضا كثير الشكر والتقدير للرجل الفاضل المصور المخضرم امري سليم لتزويدي بكثير من الصور الفوتوغرافية التي تنشر لاول مرة ، وتذكرني أفضال رجل كريم فأسطر هنا تقديري وإحترامي للرجل الفاضل الحاج عبد المعين أحمد الموصلي الذي زودني هو الأخر ببعض الصور الفوتوغرافية التي لم تنشر سابقاً. وأخيراً وليس اخراُ ، لا يسعني في هذه الكلمات القليلات إلا أن أسجل بكل اعتزاز كل حبي واحترامي لأخي الغالي الأستاذ يقظان الجادرجي لأفضاله الكثيرة والرجل الجليل المتفضل دوماً الأستاذ الكريم عطا عبد الوهاب أمد الله في عمره ومنحه الصحة والعافية الذي كان له الموقف المشهود في طبع هذا الكتاب ، آخذاً بكل احترام ملاحظاتهما القيمة وسعيهما النبيل من أجل إصدار هذا الكتاب ، وسأيقى عاجز والله عن شكرهما ، داعياً العلي القدير أن يديمهما ويحفظهما من كل مكروه، أنه سميع مجيب ، والله الموفق .. المؤلف ..





إلى من أعِزُّ وأجِلْ .... أهدي إليه مؤَلَفي.. وأنا وَجِلْ
إلى أخي وصديقي الحبيب
يقظان كامل الجادرجي
بعض من الوفاء أمام كثرة مواقفه النبيلة




صورة لمؤلف الكتاب
حسين إسماعيل الاعظمي


بغــــــــــــــداد


شاخت على ارضـك الأوصاب والمـــــحن وكم تحملت مالم يحمـل الزمـن
وكم تجرعت صبراً في رضـا وطن ربيع عمرك في اسعـاده ثمــن
وكم رسمت على الدرب الطويل خطاً مشت على هديها الأمصار والمدن
يامطلع الفجـر فوق الرافـدين بـها نبض الحياة بومض الحب يقتـرن
يامجـد غابرنا يا زهـو حاضـرنا يا نبضنا_هاهنا_في الصدر يكتمن
ياغادة الشرق كم عين بـها فتـنت وسائر الخلق كم فـي حبـها فتنوا
جمـيلة انـت يا بـغداد رائعــة ينِدُّ عن وجهك الأهات والحــزن
مازال عطفك يندى رقـة وهـوى لما شهدت ولم يلمم بـه غضــن
كم كنت بغداد ملـتاذاً لملتــجئٍ وللحمائم من أدواحـك الوكـــن
وكم بقيـت يداً بيضـاء ناصعـة ورهن ما تأمريـن القيد والـرسن
بنت الرشيد وللفجـر الوليـد على ضـفاف دجـلة احــلام ومفتتن
تداعـب الرمل موجات مصفقـة وعندهـا يتلاقى الطـرف والوسن
بغداد أغنية الإعصار كم صدحـت بك النفوس فغاض الحـقدُ والشجن
على ترابك للمنصـور لائــحة وفوق مائـك مـن عرفانـه سفن
وفي جبينك من اصراره غضـب وفوق خدك مـن تصـعيره فـتن
وفوق جبهتك الغـراء مـن يـده وسْمٌ لرائـع وجـه مشرق حسـن
مـــاكـــــان اقــــــذر هـولاكـو و أقبــحه اذ مسَّ افـقك من انـفاسه عفـن
مما جنـت يده في حسـن طلعتها فليـس يذكـر الا وهـو يلـتعن
بغداد كلـتا يديـك الهدي والسنن والحب بينـهما كالنبـع محتضن
اطلقـت ساعـدك الجبار مستـبقاً الى الفخار فلبى صوتـك الوطن
مدى يديـك الى الآفـاق واعـدة يتبع بنانـك فـيها العارض الهتن
وشمــري لانتشــــال الفـــجر مـن شرك مدت اصـابعها مـن حوله الدجن
يا جبهة الشمس ميدان الجهاد خلا من طالعـين ومـنك البدء والأذن





قد أنكـرتْ حلبـات السبق مقتحماً وضيعت دربـها نحو السنا حصن
مازلت بغـداد عمـراً يانعاً ومـدى لكن من ضيعـوك اليوم قد جبنوا
خانوا هواك وخاسوا عهدهم ومضوا وراء ملـةِ كـفرٍ .. انـهم فتنوا
وأغمضتْ عين رعـديدٍ فقد عميتْ حتى تساوى لديها النور والدكـن
وغال مجدك سهم من ذوى رحـمٍ ومزق الأمة الشمـاء ممتهــن
بغداد ملء فجـاج الأرض نيرتـها يغفـو بـها اذن تصحو بها اذن
رعيـت بـذرة امـالٍ تعـهّدهـا شعب على حرمةِ الأجداد مؤتمن
شعــــب تـــوثـب بـــركـــانا لفــــجر غـد تخـاف ثورته الأضغان والإحن
لا يستـكين على ذل ومخمـصة وفيـه من عزه موصـوله سمن
ان المصائر في ايدي الشعوب فلا يطول ضيمٌ ولا الأحرار تمتـهن



بغـداد 1991
الشاعر
د. رشيـد عبد الرحمن صالح العبيـدي

مقدمة

من الطبيعي أن المادة الغناسيقية ، ذات القيمة الفنية الكبيرة ، من حيث الشكل والمضمون ، هي التي يمكنها اجتياز حواجز الزمان والمكان ، ولا أدل على القيمة الفخمة والمكانة العالية للموسيقى العراقية ، في قدرتها على الحفاظ على هويتها وخصوصيتها الإقليمية وبنفس الوقت قدرتها على النفاذ إلى مسامع المواطن العربي وتأثيرها على مشاعر ووجدان أجيال متعاقبة من الناس العراقيين والعرب … إن ما تتضمنه الموسيقى العراقية من روح حية على الدوام ومن ثراء وجداني ومن تمثيل لمشاعر المجتمع ، جعلها رصينة جزلــة ولا غرابة ! فهي تستند على رجولة يعشقها الناس ، وعلى رفعة يتباهى الكثير بها … وعلى نُبل أصيل وبُعد عن الإسفاف .. فقد استطاع كُثرة من الفنانين العراقيين تجاوز حدود الزمان والمكان فعلاً .. إذ لا تزال الكثير من التسجيلات الصوتية المســجلة منذ مطلع القرن العشرين وعلى مر الزمن .. تُسمع وتؤثر في المشاعر والوجدان مثل تسجيلات مطرب الاجيال محمد القبانجي وصديقه الملاية وداخل حسن وحضيري أبي عزيز وناصر حكيم وسليمة مراد وسلطانه يوسف وبدرية أنور وجليلة أم سامي وجميل البغدادي ونجم الشيخلي وعباس كمبير ويوسف كربلائي وجميل الاعظمي وأحمد موسى وعبد القادر حسون وشهاب الأعظمي وحسن خيوكه وناظم الغزالي وعبد الامير الطويرجاوي وغيرهم الكثير … وبعض من هؤلاء تجاوز المكان أيضاً حيث انتشرت تسجيلاتهم خارج حدود الوطن ليصبحوا رواداً لانتشار الغناسيقى العراقية التراثية والحديثة في أرجاء الوطن العربي .. فكان أول من عرف من فنانينا محمد القبانجي ، وكذلك المطرب المُخضرم حضيري أبو عزيز الذي كان ، أول من نال الشهرة الجماهيرية خارج حدود الوطن ، حيث انتشرت تسجيلاته في منطقة الهلال الخصيب بصورة واسعة .
ويُعتبر ناظم الغزالي الذي غزا الذوق العربي بمقاماته وأغانيه أشهر مطرب جماهيري عراقي في الوطن العربي على الأطلاق … وهكذا استمر الحال إلى فناني مُنتصف وأواخر القرن العشرين مثل يوسف عمر وسعدون جابر وكاظم الساهر ومحمود أنور وحسين الأعظمي – المؤلف – ومجموعة من المطربين الشباب المعاصرين، حتى غدت غناسيقى العراق مادة ضرورية وأمراً واقعـاً في تذوقها من قِبل المواطن العربي على وجه العموم.. ورغـم أن عشرات القرون توصلنـا بتراثنا الغناسيقي ومنه المقام العراقي، التي تُعتبر تاريخاً مجيـداً ذات جذور تمتد بعمق فـي وجـدان الأمة ، نلمس اهتمام الدولة الذي يكاد لا ينضب ، بل هو في اضطراد .. وكذلك الأمر من لدُن المتخصصين والجماهير.. ومن خلال دراستي وبحثي في مجالات عدة، يعود ذلك إلى اهتماماتي المتعددة .. بدا لي أمر، وبت مُتيقناً من صوابه وهذا الأمر يصدق على الكثير من المجالات، ومن بينها موضوع البحث، ولكي أوضح ما أنا بصدده ، فأدعي أني وقفت على حقيقة ، أن كل عصر يستوعب ويقيم هذه الموسيقى التراثية بطريقته الخاصة حسب معطيات البيئة من حيث الزمن وثقافتها ، وفي هذه الحالة تكمن النظرة العصرية ، التي هي هوية العصر من جانب آخر ، .. وإذا استقرأت أذواق كل عصر على حِده للمست بوضوح أن الاتجاهات والميول والثقافة والتأثير والتأثر.. و.. و… من شتى المشارب .. كلها ستصب في مجرى واحد ، أو قل ستلتقي في مصب واحد .. مع أن الروافد تتأثر ببيئتها الخاصة .. ستلاحظ أن جميع التقييمات مهما كان نوعها تجمع على إنسانية وقيمة هذا التراث .
أن المواطن العراقي ، مُعتد بشخصيته ، مُعتز بها ، يمتلك تراثاً مهيباً يمتد عمره إلى أعماق التاريخ .. وأمته رفعت راية الآداب والعلوم والفنون .. وكانت موئل الثقافات ومصبها .. فهو يمتلك خزيناً هائلاً يكمن في ضمير الأمة ، من الأنغام والتعابير السامية الراقية العذبة ، ولما كانت الاتصالات بائسة في أوقات ممتدة ، والأعلام يعتمد عليها ولا ريب ، انتبه البعض على امتداد الوطن العربي إلى أهمية الوسائل التي تخدم الفنون وتغذيها وتوصلها إلى أقاصي المعمورة ، فعملوا على انسيابية تراثهم ، أما في العراق فقد تأخر الأمر .. لأمر ما .. ولكن هذا الأمر قد تغير بعد انتصاف القرن العشرين .. فقد انتبه العرب إلى جلال قدر الموسيقى العراقية ولم يعودوا يمروا عليها مرور الكرام .. فكان العراق وما يزال ببغداده الحبيبة وبشماله الجميل وجنوبه الخلاب .. مهد الحضارات وموئل الانغام والفنون . بيد أن المواطن العربي وخاصة المتذوق للغناء والموسيقى ، ورغم ما اتيحت له من فرص التعرف والاستماع إلى موسيقى وغناء العراق ، يفتقر إلـى الكتابات الكافية ( وهو ماتفتقره المكتبة العربية ) إلى الدراسات الخاصة حول فن المقام العراقي أو التراث الغناسيقي العراقي على وجه العموم .. وعليه فأنني آمُل أن يتيح كتابي هذا فرصة الاحاطة بجانب مـن جوانب تطور الاداء المقامي في العراق على مدى العصور المتعاقبة ، وهذا الجانب الذي لم يعتنِ به احد ولم يلتفت إليه كاتب .. ارتأيت أن ألج من مدخله ما استطعت .. وأعني هنا ( المرأة العراقية بتجربتها مع غناء المقام العراقي) فمن الثابت لدى المتخصصين والمتضلعين بالفن الرجولي - المقام العراقي – إن الفن النبيل هذا يبتعد عن الاسفاف في اللفظ والمعنى وأن عليَّة المجتمع في مقدمة من يعشقه .. وأنه ينأى بذاته عن الميوعة والخلاعة، فلم نجد مطرباً للمقام العراقي رافقته راقصة على سبيل المثال ، وأخيراً وليس اخراً ، فأن المرأة كانت تهاب هذا الفن ولاتقربه، وليس مرد ذلك إلى طبيعة صوتها فقط ، بل إلى أمور أخرى سيأتي البحث عليها بالتفصيل. ولكن ماأن حل القرن العشرون، ( حقبة التحول ) نحو الانفتاح في كل مجالات الحياة.. حتى ولجت المرأة.. ولكن باستحياء وتردد فكان سيماؤها البطىء والدلال، وقد نبذت الانهزامية وعدم الثقة وراء ظهرها..
أن ضخامة وتنوع تراثنا الغناسيقي العراقي، خاصة منه المقام العراقي. يجعل من محاولتنا الدراسية هذه أمراً تتخلله الكثير من صعوبات الاحاطة بكل جوانب التجربة النسوية في الغناء المقامي في بغداد على وجه الخصوص وفي مثل هذا الحيز … ولهذا ارتأيت التوقف عند ابرز المغنيات المقاميات ذوات التأثير الجماهيري في بغداد تحديداً – كجزء أول .. اللواتي كان لهن الاثر الواضح على تطور التجربة النسوية والتي اتفق معظم النقاد والكتاب حول أهمية هؤلاء المغنيات بالنسبة لهذا الفن .. فكان اختياري تحديداً سبع مغنيات يُمثلن اجيال زمنية متعاقبة متسلسلة حسب مرور الزمن وعلى امتداد تطورها .. حيث يمكن كذلك من خلال تجربة المرأة في غنائها للمقامات العراقية ، التعرف على هذه النماذج من الفنانات المغنيات وهن بالتحديد وحسب الترتيب الزمني لظهورهن .. صديقه الملاية ، سليمة مراد ، سلطانه يوسف ، زهور حسين ، مائدة نزهت ، فريده محمد علي ، سحر طه .
أن تجربة المرأة العراقية في غناء المقام العراقي أو الأغاني ذات المضامين التعبيرية المقامية , تضم العديد من المغنيات الاخريات اللواتي أثرن في الجماهير بصورة متفاوتة, اللائي لم يتناولهن بالتحليل كتابي هذا مثل بدريه أنور وأنوار عبد الوهاب وهناء .. وبعض المطربات المقاميات من المحافظات الشمالية وعلى الأخص محافظة كركوك ومحافظة الموصل .
وبودى هنا ان اشير الى ملاحظات السادة النقاد الموسيقيين الذين كتبوا مقالات نقدية حول كتابي الاول (المقام العراقي الى اين؟) مشكورين لاهتمامهم بالكتاب حيث اشاروا الى اني اقحمت المطربة سليمة مراد , مثلا ضمن المطربات المقاميات في حين انها لم تكن كذلك , على اعتبار انها غنت الاغاني ولم تعرف انها مطربة مقام , رغم غنائها لجمل قليلة من مقام البنجكاه جاءت في سياق اغاني سلم مقام الرست ( باسلوب مقام البنجكاه ) .. وكذلك تحفظوا حول بعض المطربات الاخريات اللائي ادخلن ضمن قائمة مطربات المقام.. وفي هذا الصدد بودي ان اوضح بعض الالتباسات التي قد تحتاج الى تذكير.. لاننا عندما نتحدث عن أي مطربة للمقام العراقي , سواء من الرجال او النساء .. ونفرغ من كلامنا عنه شخصيا.. وبم تاثر او اثر وعن نشأته وبيئته و.. و.. يصب حديثنا جله في خدمة هدف محدد.. وهو المادة الفنية والتي نعني بها ( المقام العراقي ) ذاته من حيث الشكل والمضمون.. عناصره ومكوناته .. علما باننا يجب ان نتذكـر ان مفهوم مصطلح ( المقام العراقي ) لا يقتصر على المقام وحده الذي نغنيه باسلوب فالت من الايقاع أي اسلوب الارتجالات الغنائية الآنية المنتظمة ضمن مفهوم الاصول التقليدية للمقامات... ونقصد بذلك الشكل, الفورم Form, بل ان المقصود بمصطلح ( المقام العراقي ) كمفهوم عام , مع انه مفهوم تقليدي بنفس الوقت ( مقام مع الاغنية التراثية المعبرة عن المقام الفالت نفسه ) أي ان كل المكونات والاسس التي يرتكز عليها غناء المقام بمعية الاغنية يندرج ضمن شكل ومضمون المقامات او المصطلح المعروف ( المقام العراقي ) .. وهذه الاغنية المنبثقة من روح المقامات تلك التي نجد فيها الخصوصية والهوية والمضامين المقامية وهي من نفس السلم والتعابير والتي درجنا على تسميتها ( البستة ) بل حتى الاغنية المؤلفة ما دامت تحمل مقومات الخصوصية المقامية والعراقية وهي ذات الاغنية التي نسميها ( الحديثة ) .. والجواب لاخي الناقد او السائل .. اذ اننا يمكننا الحديث عن المقام وعن الاغنية المرافقة في وقت واحد مع بعض الخصوصية لكل منهما .. لان الاغنية المرافقة ملحنة اصلا من الالحان والتعابير المقامية فهي تناسب المقام المغنى الذي رافقته .. فلو تكلمنا عن أي منهما بمعزل عن الاخر فاننا بحقيقة الامر لا نزال ضمن المفهوم العام لمصطلح ( المقام العراقي ) , ولهذا السبب ومن هذا المنطلق إن إعتُمِدَ هذا التفسير .. فمن الممكن ان نتحدث عن اغنية مقامية عراقية او مغني او مغنية لا يغنون المقام – الفالت من الميزان – بل يغنون اغاني تعبيرية منبثقة من روح المقام.. ولعلنا سنجد في الاستشهاد الاتي راحة لنا جميعا لتوضيح ما سبق.. فمثلا اغنية سليمة مراد ( هذا مو انصاف منك ) وهي من سلم مقام الرست ( بنجكاه ) فلو استمعنا لهذه الاغنية, ولا يجب الاستماع فقط بل الاصغاء لما بين الحروف ولما بعد رنين الصوت وتعابيره والى عمق غناء هذه المغنية الكبيرة .. فاننا سنكتشف ان هذه الاغنية من مقام البنجكاه من حيث مضمونه بل وحتى من حيث شكله وان يكن موزونا من خلال الاغنية ذات ايقاع الجورجينة الثقيل ... فنلاحظ مسارات لحن ( التحرير وغناء ابيات القصيدة لمقام البنجكاه مجسدة في مذهب الاغنية ومن ثم نلاحظ ميانة مقام البنجكاه وهي من سلم مقام الحجاز مجسدة في كوبليه الاغنية .. وكثيرة هي الاغاني التي تنهل من منهل روح المقام ومضمونه ولا تتغافل عن الشكل فلا تهمله بل تجتهد أن لا تبتعد عنه الا لِماما.
وبغض النظر عن هذه الملاحظة يبقى القصد , ان أي اغنية ما دامت مأخوذة من روح المقام , او من روح المضامين التعبيرية للمقام العراقي كخصوصية ادائية فهذا يعني باننا لازلنا ضمن دائرة مفهوم مصطلح ( المقام العراقي ) .. فان تكلمنا عن المقام لوحده , فهذا يعني اننا نتكلم عن مصطلح المقام العراقي وان تكلمنا عن الاغنية لوحدها فهذا يعني ايضا اننا نتكلم ضمن مصطلح المقام العراقي ايضا , فالمقام واغنيته كل لا يتجزأ.
ومن ناحية اخرى , فانا لم اتكلم في هذا الكتاب عزيزي القارئ .. عن أي مطربة او مطرب بصورة مطلقة .. لان العراق غنيّ بتعدد بيئاته واختلاف تضاريسه ومناخه وجغرافيته ككل , ففيه انواع كثيرة من الغناء منها الغناء الريفي والغناء البدوي وغناء الاديان الموجودة في العراق وكذلك القوميات والاقليات . وغيرهم .. بل تحدثت عن المقام واغنيته المقامية بصورة عامة والغناء البغدادي بصورة خاصة .. فلم أأت على ذكر .. او لم الق الضوء على نتاجات مطربين او مطربات اخريات امثال ( احلام وهبي , هيفاء حسين , غادة سالم ..) وبنفس الوقت لا يمكنني اغفال الحان من مقام الجَمّال غنتها المطربة الراحلة لميعة توفيق..
يا مليح اللّمــا وحلـو التفني وجــميلا جـماله قــد فتـنِّ
حيث ابدعت المطربة لميعة بهذا المقام بحق .. صوت جميل ونغم اصيل شجي .. ورغم هذا الابداع , غير انها محسوبة ضمن المطربات الريفيات فلم اشأ اقحامها في كتاب يخص المقام العراقي .. وربما في الجزء الثاني لهذا الكتاب إن شاء الله .. الذي سأضمنه اسماء المطربات الاخريات اللواتي مر ذكرهن في سياق الحديث مثل ( انوار عبد الوهاب , هناء, رند دريد ) ومطربات تركمانيات وكرديات ايضا , أي ان الجزء الثاني سيتناول في فصوله المحافظات الحبيبة , ولدي بعض المعلومات عن المطربة كلبهار ونسرين ولو كانت معلومات كافية لادرجتها ضمن الجزء الاول هذا الذي بين يديك عزيزي القارئ . وساعمل على استمرار البحث والجهود المفيدة أملا للحصول على معلومات وافية عن موضوع الكتاب وإعطائه حقه ما استطعت إلى ذلك سبيلا..
فقد كان لهؤلاء المطربات إسهاماتهن في رفد وتطور تجربتهن التي صبت في مجرى التطور الفني على وجه العموم في القطر.
وأخيرا ينقسم هذا الكتاب إلى بابين يحتوي اولهما على فصلين والباب الثاني يحتوي على ثلاثة فصول .. فالباب الاول يتضمن المقدمة وفصلين من الفصول، اولهما أتطرق فيه لعرض عام لتاريخ المقام العراقي والتعريف به ، وثانيهما أتناول فيه الحديث عن نظره عامة لحقبة التحول ، وهي الحقبة الواقعة بين أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين ، وكذلك الحديث عن المرأة في هذه الحقبة وظهورها لاول مرة كأمرأة مؤدية للمقامات ومارافق ذلك من دراما … قاومت وصمدت حتى اخذت موقعها وعززت نجاحاتها في الساحة الغناسيقية والغناء المقامي على وجه الخصوص .
اما الباب الثاني فانه يتضمن ثلاثة فصول، فالاول يتضمن الحديث عن ابرز المغنيات المقاميات في النصف الاول من القرن العشرين والفصل الثاني يتضمن الحديث عن زهور حسين فقط باعتبارها ظهرت في منتصف القرن العشرين والفصل الثالث يتضمن الحديث عن ابرز المغنيات في النصف الثاني من القرن العشرين. وذلك من خلال عرض نتاجاتهن والقاء الضوء عليها من ناحية نقدية وتعريفية.
بقي أن أقـول، بأنني قد اعتمدت في اعداد هذه الدراسة التي اصبحت الان كتاباً خاصاً بالتجربة النسوية في الغناء المقامي الذي هو الان بين يديك عزيزي القارىء والحمد لله.. اعتمدت على جهودي الخاصة فـي الاطلاع على الكتابات النقدية رغم انها نادرة والتي ترتبط بشكل مباشر بهذا الغنـاء التراثي مثـل كتابات النقاد الموسيقيين هلال عاصم وسعاد الهرمزي وعبد الوهاب الشيخلي وعادل الهاشمي وغيرهم ومن ثم اللقاءات الشخصية مع بعض المعنيين فـي هـذا المجال والبحث والتقصي والسؤال ، وكان لسماع التسجيلات اكبر الاثـر لكتابـة تحليلات هـذه الدراسة باصوات المطربات موضوعة البحث بتأني وتؤدة .
ابقى بأمل كبير في أن يسهم كتابي هذا في ملء جزءٍ من الفراغ الذي تشكو او تفتقر اليه المكتبة العربية والعراقية في دراسة بعض جوانب المقام العراقي الذي يُعد من ابرز واهم الفولكلور الغناسيقي العربي .
واخيـراً اود القـول ، ان هذا الكتاب ، كنت قـد شرعت بكتابتـه عام 1988 ورغم اني اكملت كتابة معظمه عام 1989 إلا أنني بقيت اضيف له كلما سنحت لي الفرصة بالحصول على بعض المعلومـات أو المصادر وخاصة الرسائل التي وصلتني من بعض الفنانـات انفسهن .
اما بالنسبة الى اللغة الادبية التي كتب بها هذا الكتاب , فاني قد جعلتها اسهل واوضح من اللغة التي كتبت بها كتابي السابق ( المقام العراقي الى اين ؟ ) الذي طبع عام 2001 في نفس هذه المؤسسة الموقرة ( المؤسسة العربية للدراسات والنشر ) وذلك نزولا عند بعض وجهات النظر النقدية التي طرحت بهذا الشان خاصة منها ما نشر في الصحافة .. املا ان تلبي لغة تعبير هذا الكتاب ما يطمح اليه القارئ العزيز وهو غاية ما اتمناه .


حسين إسماعيل الأعظمي
المؤلف
بغداد 2002