... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة

















كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء










الحلقة (2)














- تقـــديم
- تعريف موجز بالمقام العراقي


تقــديم
مما لاشك فيه ، أن لكل أمة أصيلة من الأمم ، فنونها وتقاليدها وعاداتها ومعتقداتها وظواهرها التراثية المتأصلة الجذور … التي تتصل في أعماق التاريخ .. تعرف بها وتحمل سيماءها ، هذه الجذور التي تنغرس في الدواخل وتترعرع بين الثنايا .. هي حصيلة حياة مجتمع بأكمله وتراكم حضاري انتجته آلاف الاجيال المتعاقبة لتلبي احتياجات الجماعة والفرد .. الفطرية .. والروحية .. والعقلية .. وغيرها .
ان فن الموسيقى والغناء في أي عصر من العصور ، هو انعكاس لحياة المجتمع وتعبير عنه … صور صادقة ، لها قيمتها في نقل هذه التأملات والانفعالات والتطلعات من زمن إلى اخر ومن جيل لاخر .
فالموسيقى والغناء بصورة عامة … والأغنية الفولكلورية التي يُطلق عليها في المقامات العراقية أسم ( بسته ) .. أغنية بسيطة ، تعبر عن مشاعر المجتمع من خلال المغني بآنية وتلقائية خاصة .. تحوي كل ظروف البيئة وتعبر عنها .. ولما كانت هذه البيئة تعرِّف الغناء والموسيقى اذ تعطيهما شكلاً ومضموناً تعبيرياً خاصاً . فقد كان لهيبتها وجلالها التأثير البالغ في نفوس وجماليات وذوق المجتمع حيث تميزه عن غيره من المجتمعات الاخرى … على أساس أن الأنسان أبن بيئتهِ .. ولذلك نرى أن فنان التراث عموماً يحس دوماً بأنه على دراية بشيء جليل ، يمتلك من الذوق رفيعه ومن الشهامة فروسيتها ومن الرجولة فحولتها .. فعندما يمارس الفنان تراثه ، يحس بالتحليق حيث يضيف لمسة ملائكية تتلظى بين جوانحه لتتوهج بين ثنايا صوته فيخرج كالماء الزلال الرقراق يقطر نداً وشفافيه .. ولذلك نخلص إلى القول أن الفنان البيئي الأصيل يمتلك الورقة الرابحة في أداء تراثه .. وعليه فأنه يمكننا أن نتحدث عن اغنيتنا التراثية وموسيقانا الاقليمية كعراقيين التي توسع منحاها الانتاجي منذ بدايتها الجديدة اواخر القرن التاسع عشر وتطلعات القرن العشرين .. بأنها تتساوى من حيث القيمة والمهارة بما يناظرها من اغانٍ اخرى لشعوب اخرى ، انطلاقاً من كون كل شعب من الشعوب يحتفظ بكيان شامل يتناظر فيه ويتساوى مع الشعوب الاخرى مهما كانت الاختلافات الثقافية وقيمتها .. وفي هذا الصدد يؤكد الموسيقار الهنكاري الباحث بيلا بارتوك بأن خصائص البيئة تتساوى مـن حيث القيمة الثقافية لـدى الشعوب بصورة عامة نسبياً … أن مفردة ( نسبياً ) هنا تعني الكثير في هذا المفهوم .. لأننا إذا نظرنا إلى تراث الشعوب فسوف نراه حتماً يتفاوت من حيث الخصوصية والقيمة النوعية والتحليلية لكل تراث على حده .. فهناك ما هو غني شكلاً ومضموناً وهناك ما هو فقير .. نظراً للاختلافات الطبيعية بين الشعوب من حيث تاريخها وحضارتها وثقافتها وظروفها بصورة عامة .. في حين اننا عندما ننظر إلى الموضوع من زاوية اخرى ، زاوية التناظر والنسبة التي نظر اليها بارتوك فان الموضوع يتساوى من حيث هذه القيمة ، لان كل شعب يمتلك تراثاً بطبيعة الحال ، يعتبر هو اغنى مالديه وكذلك شأن الشعوب الاخرى ، فان تراثها الاقليمي الخاص يعتبر هو اغنى مالديها ، وهكذا الامر نسبياً … فمن الناحية التحليلية والنوعية لنظرتنا إلى تراثنا الغناسيقي بصورة عامة ، نشعر بأنه استغرق وقتاً طويلاً للوصول إلى القيمة النوعية التي عليها الان … وقد يمكننا القول ، انها قيمة جيدة من حيث النضج في الشكل والمضمون . فقد عانى العـراق











صورة / مسرح المتحف البغدادي , 23/3/1973 , يظهر فيها من اليمين , المطربون خالد القيسي , صلاح السراج , عبد الله المشهداني , محمد العاشق , نجم عبود , حمزة السعداوي , حسين الاعظمي – المؤلف – وهو يؤدي احد المقامات , عبد الاحد جرجيس على الة القانون وباقي الموسيقيين .


من تراجيديا كبيرة خلال القرون الماضية وبالتالي فقد عانت الثقافة الغناسيقية الامرّين وكذلك الكثير من التقييدات الاساسية .. إلا أنه من المناسب دراستها وتحليلها بعمق لانها تكوِّن الفحوى الاساسي التي يمكننا من خلالها أن نطور غناءنا وموسيقانا .
كثيراً مما قيـل ومما يُقال .. أن الظروف بوجهها العام .. التي مر بها العراق الحديث ، سواء على المستوى المحلي أو الدولي ، لم تؤدِ إلى تأثر ثقافتنا الموسيقية بثقافة البلدان حوالينا .. !! اشك في هذا .. !! فمن الحق أن يقال ، أن الفنانين الغناسيقيين العراقيين التفتوا إلى الاهتمام بموسيقاهم الإقليمية ، بسبب الاتجاه المحافظ الذي كان يسود الاوساط الفكرية والذوقيـة لدى المجتمع العراقي على وجه العموم . مما يفضي إلى حال لا يمكن بسهولة ان توفره له الظروف في تلك الحقب للتأثر والإطلاع بصورة مباشرة على نتاجات وثقافات البلدان حواليه ، ولكن بالرغم من كل ذلك كانت هناك مؤثرات نسبية ازدادت بعد التطور التكنولوجي الذي اخذ مداه السريع حتى غدت اغنيتنا الاقليمية والفولكلورية تأخذ حصتها بصورة أكثر مباشرة من التأثير والتأثر ، وأصبحت تكتب وتلحن وتؤدى على ضوء الثقافة المحلية الأساسية والثقافة المكتسبة الجديدة التي زادتها الظروف الدولية كمّاً ونوعاً في التأثير والتأثر … ولكننا بالرغم من كل الظروف التي عشناها خلال القرن العشرين ، لازالت موسيقانـا تمتاز بمرجعها الاقليمي رغم تجديد وتطورالشكل ، إلا أن مضمونها بقى يوحي إلى الان بأن منطلقاتها الأساسية من المضامين التعبيرية العراقية وهكذا احتفظ الفن الغناسيقي العراقي بأصالته وهويته الخصوصية .. وهذه تجربة فذه بالقياس إلى انصهار الكثير من تعابير ومضامين موسيقى اقاليم كثيرة في تعابير هجينة لاتمت بصلة مباشرة بمراجعها الاقليمية الخاصة بها ، إذ لم تستطع هذه الثقافات الغناسيقية الاقليمية للبلدان والشعوب مواجهة هذا المد من التوسع في اجهزة الحفظ والنشر والتسجيل والاتصال .


صورة / مسرح المتحف البغدادي, نيسان 1974, يظهر فيها من اليمين المطربون, حسين الاعظمي -المؤلف- وهو يغني مقام الخنبات, علي أرزوقي, حسن البناء , عبد الرحيم الاعظمي , حمزة السعداوي , عازف الجوزة محمد صالح عمر وباقي الموسيقيين.

ان تاريخنا عريق بلا شك .. وثقافتنا عميقة الغَور .. وغنائنا وموسيقانا سحيقتا القِدم، واغنيتنا العقلية المقصودة موجودة منذ أزمان قديمة ، وتاريخ الموسيقى العربية تحدث عن ذلك الكثير ، ولكن الفجوة العميقة التي حصلت وعزلت نسبياً الكثير من ماضينا عن حاضرنا من حيث التـطور التاريخي التدريجي لموسيقانا ، كانت الفتـرة المظلمة التي
اعقبت سقوط العباسيين ( 656هـ – 1258م ) سبعة قرون كاملة ، عانى فيها العراق شتى الوَيلات ، ومع ذلك فقد بدأت الحركة الفنية الوطنية في التحديث من جديد تتحرك نحو تحولات وآفاق جديدة . واخذت بالنمو تدريجياً منذ اواخر القرن التاسع عشر تحت تأثير فنان فرد يعتبر من العلماء العبقريين المحدثين، ليس في العراق فحسب، بل في الوطن العربي باعتبـاره رائداً من رواد النهضة الموسيقية العربيـة الحديثة، أنه الرجل العبقري الحافظ الملا عثمان الموصلي8 ( 1854 – 1923 م ) الذي ترك نتاجاً غناسيقياً غزيراً في الشكل والمضمون ، احتوى على مقومات الحداثة الإقليمية التي لم تسعها البيئة العراقية حسب ، بل سيطرت على الكثير من الالحان العربية الاخرى التي حصل على معظمها تلميذه الفطن سيد درويش 9 الذي سعى للبحث عن مشاكل الحداثة في الأغنية العربية وأضاف لها الكثير . وكذلك امتزج الكثير من الحان الملا عثمان في أداءات القدود الحلبية التي ماتزال تؤدى إلى يومنا هذا .














صورة / الفنانين الكبيرين الممثل محمد القيسي ( من اليمين ) مع صديقه ناظم الغزالي




صورة / الفــــنان الكـــــبير ناظـم الغـزالي مع مطــــرب الاجيـال محــمد القبــانجي في لقـطة تـــاريخية 1957


قد نتوجس من مضامين اغنيتنا الاقليمية ، وهذا من حقنا .. ! وهو ما نحذر منه الفنانين الغناسيقيين ، خاصة الايغال بهذه الاقليمية والتلذذ بها على اعتبار انها ممتلكات خاصة للتمتع والتلذذ بجمالية حب الوطن وحب البيئة والمحيط .. و.. و ، وهو أمر غاية في الاهمية ورائع لكننا نخشى الايغال لئلا تحدث هوّة قد لا يمكن تخطيها بسهولة بين الفنانين وروح عصرهم .. فلا بد أن يكون شكل ومضمون أغنيتنا أو غناؤنا بصورة عامة متوازٍ في التعابير التي يمتلكها الفنان الغناسيقي من بيئته ومحيطه وتاريخه وبين تطور المجتمع العلمي والفني والجمالي لبلورة أصالة جديدة أساسها أصالتنا الحقيقية المُستقاة من ماضينا لنعبر بواسطتها عن حاضرنا ومستقبلنا ، ولابد أيضاً أن تكون لغة المؤدي أو الملحن أو الكاتب لغـة مثقفـة وجميلـة ورنانـة وشاعرية مواكبة للحياة المعاشة للواقع المعاش ، بل لابد أن نصنع الواقع بأنفسنا لبناء المستقبل الزاهر لموسيقانا .. أن الحضارة تعني القانون والنظام .. وتعني الوعي والادراك العقلي بقيمة الحياة وتطوراتها ، وقد يعترف الفنان الواعي بتعقيدات الحياة المعاصرة فيعمل على تجاوز هذه التعقيدات … ان الحافظ الملا عثمان الموصلي مجّـد الواقـع لأنه انطلق من تراثه وتاريخه وثقافته الوطنية ، ومجّد الحياة لأنه عبّر عنها بكل وعي ودراية ، وبذلك تصبح الحضارة مرادفة للحق بالحياة ، كما أنها مرادفة لأخلاق الفن السامية ..

صورة / رائد النهضة الموسيقية العربية الحديثة الملا صورة / مطرب المقام العراقي الكبير اسماعيل الفحام
عثمان الموصلي

غالباً ما يؤكد الدافع الفني نفسه ، في الحان ونتاجات هذا العبقري العملاق الملاعثمان الموصلي … فكثيراً مايصل إلى الذروة في التعبير عن الحياة وعن الحضارة وعن الوطن في نتاجاته ، أي أنه ثبّت الأسس العقلية وأعادها واظهرها في النتاجات الغناسيقية الحديثة في العراق الحديث .. فلا بد إذن .. أن تسمو هذه التطلعات بصورة متحضرة .. ولذلك نرى أن المؤلفات والنتاجـات الغناسيقية بصورة عامة ، الممتلكة للمقومات مارة الذكر ، ناجحة لأنها توضح الأشياء كما هي ، ولأنها تكون في هذه الحـالة بعيدة عن التخريب الجمالي والتعبيري والعلمي ..
إن التأكيدات كثيرة حول ما يُسمى بالأغنية الحديثة ، أي الأغنية العقلية المقصودة ، مؤديها وملحنها وكاتبها .. كلهم معروفون لدى المجتمع ، أي أنها من زاوية أخرى نتاج فردي رغم إنها تستقي تعبيراتها من المجتمع ، تأكيدات على أنها نشأت في المدينة .. وهذا أمر منطقي ومقنع .. لأن أهم ما تمتاز به المدن هو ديناميكية التفكير والحضارة العقلية والتطور والتغير والتحول ، أي حركة الحياة الديناميكية 10 المستمرة والمتنوعة المتصلة .. لذلك نرى أن تراث الموسيقى الريفية والبدوية وباقي البيئات الأخرى ، أكثر وأعمق أصالة وأكثر نقاءً من تراث المدن وكذلك فهو أبطأ استجابة للتغيير أو التطور.
ومن ناحية أخرى هناك ادعاءات أخرى تقول ، أن الأغنية الحديثة قد هجرت الخصوصيات البيئية والإقليمية في شكلها ومضمونها ، وهو ما نحذر منه أيضاً … ومع إنها تبقى ادعاءات تنقصها الدقة في بعض مفاصلها, ومع ذلك فان اغنيتنا الحديثة تتباها بالقول (أن منطلقاتي عراقية) ..



صورة / المطربة الكبيرة عفيفة اسكندر في شبابها صورة / المطربة الكبيرة زكية جورج في شبابها


صورة / المطربة الكبيرة انصاف منير في شبابها صورة / المطربة الكبيرة وحيدة خليل في شبابها



صورة / المطربة الكبيرة بدرية انور في شبابها صورة/المطربة الكردية الكبيرة نسرين شيروان صورة/المطربة الكبيرة صبيحة ابراهيم في شبابها

وعلى الأجمال ان الكثير من فنانينا الغناسيقيين لا ينتجون غناءً أو موسيقى بتعابير أدائية هم غرباء عنها على وجه التقريب، فليس هناك هوة سحيقة لايمكن ردمها تفصل بين الفنان ومتطلبات عصره .. فقد تخلص بعضهم من عقدة الاعجاب بالغريب .. واستطاعوا ان يتفاعلوا مع نتاجات فناني بلدهم ومادة تراثه الغناسيقي .. ونتج عن ذلك ظهور فنانين كبار يشار لهم بالبنان ، ومثال ذلك ( الفنانون الوطنيون ) الذين درسوا علوم الموسيقى الحديثة والمعاصرة وانطلقوا بوطنيتهم بهذه العلوم .. حيث لا يهدف هؤلاء الفنانون إلى توثيق ما يجري من تطلعات موسيقية في الخارج ، بل أن تطلعاتهم وافكارهم وثقافتهم كرسوها لتوثيق الفترة التطورية المعاصرة والمعبرة عن واقع ظروف العراق ، بلدهم ووطنهم ، وذلـك يعزى للأصالة الكامنة في نفس كل من هؤلاء الفنانين الدارسين الواعين لظروف المرحلة الراهنة ومتطلباتها, أي إنهم يقدسون التراث ويرون إن عليهم المحافظة عليه وتسليم الراية الى الجيل القادم بكل أمانة.
إن الغناء بصورة عامة .. وغناءنا العراقي على وجه التخصيص ، من أغنية حديثة مستقاة من مختلف بيئات جغرافية العراق سواء أغنية بغدادية أو أغنية المدن بصورة عامة أو الأغنية الريفية أو البدوية أو أغنية البيئات الأخرى . إذا كان هذا الغناء مضمونه يعتمد الخيال، دون أن يعكس حقيقة المرحلة المعاشة ، فأنه لن تكون هناك كبير فائدة في قياس متطلبات وهموم حياتنا المعاصرة ومخاطرها المتوقعة في المستقبل خاصة ونحن نعيش في عالم مجنون في تطوراته التكنولوجية المذهلة . وعلى هذا أطلق الفنانون العراقيون الدارسون والواعون لظروف بلدنا الناهض ، العنان لأنفسهم وإمكانياتهم ومخيلاتهم في هذا السبيل .. وتعتبر هذه التطلعات الأصيلة جزء من الأغنية والموسيقى المعاصرة ، ليس في العراق حسب ، بل في كل الوطن العربي وخارجه ، وهكذا نرى هذا الواقع وهذه التطلعات موجودة في النتاجات الموسيقية والغنائية وقد توضحت اكثر في النصف الثاني من القرن العشرين .



صورة/- المؤلف- حسين الاعظمي ( الملتحي ) يتوسط منتسبي بيت المقام العراقي في كركوك عند زيارته لهم مع فرقته الموسيقية حيث القى محاضرة يوم 26/7/1998 واقام حفلة مقامية في اليوم التالي 27/7/1998غنى فيها حتى الصباح وسط جمهور كثيف من اهالي كركوك


صورة/العازف والمطرب الكردي الكبير عيسى برواري صورة / المطرب الريفي الكبير عبد الأمير الطويرجاوي

أما فيما يخص المقام العراقي، فمنذ حوالي أكثر من ثلاثة قرون والمهتمين بشؤون المقام في بغداد خاصة وكركوك والموصل والمحافظات الشمالية الأخرى يتداولون مصطلح ( المقام العراقي ).. وبمرور الزمن بدأت تعقد حوله المناقشات والندوات والمؤتمرات وتنفق عليه الاموال.. وقد استطاعت جهود الرواد الأوائل لهذا اللون الغناسيقي أن تؤتي ثمارها وتحقق كثيراً من غاياتها فاجمعت لهذا التراث مجموعة قيمة من الافكار والابداعات والاراء والمحاولات الفردية والجماعية كوّنت لنفسها ذخيرة نفيسة من المبادىء الاساسية لأصول 11 وشروط 12 المقام العراقي التي توَّجت بتأسيس معهد الدراسات النغمية العراقي عام 1970م, الذي أخذ على عاتقه دراسة المقام العراقي والموسيقى العراقية أكاديميا ولعل الأمر الذي يعنينا من هذا كله، هو ان الاهتمام لا يمكن ان يكون وليد المصادفة، ولا هو ثمرة اجتهاد شخصي لباحث فرد مهما بلغ علو همته في الغناء والموسيقى والبحث والحماسة في الدفاع عن هذا اللون المميز … لابد إذن أن يكون لهذا الاهتمام استجابة طبيعية لحاجة واقعية لها وجودها الملموس على المستوى الاجتماعي والقومي والوطني، حاجة يمكن ان تبرر هذا التشجيع من جانب الدولة وأجهزتها الإعلامية، مع الجهود المخلصة لبعض الباحثين الأفراد … ( وعليه فأن فناني الطليعة في العراق الحديث، خلال النهضة الموسيقية الحديثة مطلع القرن العشرين، قد ساهموا مساهمة فعالة في إعادة الزهو والسرور إلى الموسيقى خاصة.. ولابد من ذكر حقيقة طيبة.. هي أن هذا ألانبعاث الجديد لنهضة الثقافة الموسيقية عندنا، قد ساهمت به نساء فنانات بصورة مؤثرة … برهنّ على انهنّ قويات في المجتمع.. حيث كانت النتاجات الأولى في الغناء والموسيقي قد أدى كثيراً منها من قبل نساء مطربات أمثال صديقه الملاية وبدريه أنور ومنيره الهوزوز وسلطانه يوسف وبهيه العراقية وماري الجميلة وأمينه العراقية وعليه فوزي وجليله العراقية وطيره حكيم وزنوبا وعزيزه العراقية وروتي وغيرهن الكثير … وستبقى الاغاني خالدة على مر الزمن لامتلاكها كثير من مقومات النجاح.. خاصة في عنصرها الجمالي نسبة لحقبتها الزمنية.. الذي كان يعبر عن روح البيئة المحلية الذي كان ملائماً لذوق المتلقي انذاك.. وقد كان الملحنون الاوائل قد بذروا البذرة الاولى التي اثمرت عنها هذه المرحلة الثقافية التي تمخضت عنها حركة جديدة بالاستقاء من التراث والاستفادة منه فائدة مباشرة سواء في المقامات العراقية أو في الالوان الغناسيقية الاخرى مثل الغناء الريفي والغناء البدوي أوغيرهما .. حيث تكشف لنا ذلك خلال الاستماع إلى تلك الابداعات التي ظهرت في هذه الحقبة … وهذه الحقائق تبرهن لنا ان نجاح هذه الطليعة من النساء المطربات قد خلّف نساء مطربات اخريات كجيل ثانِ وثالث .. فكانت سليمه مراد وعفيفه اسكندر وصبيحه ابراهيم ولميعه توفيق وزهور حسين ومائده نزهت وهيفاء حسين واحلام وهبي وغيرهن … ورغم ان هذا الخط المستمر من ظهور النساء المطربات كان يبهت تارة ويظهر تارة اخرى وذلك بسبب القيود الاجتماعية ونظرة المجتمع إلى الفنانين .. مما جعل المرأة تحتاج إلى كثير من الجرأة لتقديم نفسها فنانة للشعب.. لذا فقد كانت المرأة عموماً اقل احتمالاً للنجاح واكثر تعرضاً للخيبة واليأس.. ومن الحق القول أن هاتيك النساء.. كن هن البداية والمحرك الفعلي الأول النشط والمقاوم للركود الثقافي... اللاتي ظهرن في العقود الأولى للحركة التحديثية للموسيقى والاستمرار بها ومجىء الاجيال الاخرى التي نهجت نفس الخط التطوري وأصبح للجيل الأول منهن خليفات وأتباع.. فقد كانت هي البداية وهي المحرك الفعلي الاول للركود الثقافي في مسيرة الفن الغناسيقي الذي استمر على ركوده طيلة زمن قارب السبعة قرون، وبتطور الزمـن فـأن الاجيال التالية لجيل الفنانات الرائدات قد اصبح أخف عبئـاً وأكثر ثقة مـن السلف، وأصبحت معالجة بعض القيود الاجتماعية الصارمة قبـلاً ، أمراً أكثر مرونه .. حيث بدا عند النساء المطربات يزداد بمرور الزمن.. )13



صورة / حسين الاعظمي – المؤلف – اثناء تسجيله مقام الحويزاوي في ستوديوهات تلفزيون بغداد مع الفرقة المركزية عام 2001