... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء
تاليف
حسين اسماعيل الاعظمي








الحلقة (5)























- نظرة عامة لحقبة التحول
- المرأة في حقبة التحول

نظرة عامة لحقبة التحول
عند حلول القرن العشرين .. كان العالم يعيش حالة الاضطراب والقلق نتيجة ادراكه للتحولات والتغيرات واحساسه بأن شيئاً ما قد حدث أو يحدث ، هذه الحالة التي اخذت تتسارع في حياة الشعوب .. فقد عاش العالم كابوس الدم الذي أهرق في الحرب العالمية الاولى .. ولم تتوقف هذه الحالات من الاضطراب والقلق عند هذا الحد … بل تسربت إلى اعماق كيان كل انسان وكل شعب من شعوب الارض .. ولحقت بها سلاسل من الثورات في كل مكان من الارض .. ثورات صامته وثورات صارخة .. وفي العراق كانت اولى النتائج التي تمخضت عن هذا الواقع .. سقوط الدولة العثمانية التي احتلت العراق والوطن العربي طيلة اربعة قرون من قرون الفترة المظلمة . وحل محلها الاستعمار الانكليزي 1917 في خضم الحرب العالمية الاولى الذي تم سقوط العثمانيين على يده .. ومن هذا المصير الذي آل إليه العراق كانت ثورة العشرين الصرخة الاولى في وجه المستعمر الانكليزي ومن ثم قيام الدولة العراقية والحكم الملكي . جوٌ محموم بالاستياء الملح كان يعتصر فكر ومشاعر الشعب العراقي .. مفاهيم ومشاكل واحزاب .. ثم جاءت انتفاضة 1932 وتبعتها ثورة الضباط الاحرار في مايس عام 1941 … ومر العراق بعد ذلك في جو من الحذر والتوقعات عبر الحرب الكونية الثانية حتى قامت ثورة 14 تموز 1958 التي أنهت الاستعمار الإنكليزي ومن ثم نهاية الحكم الملكي وقيام الحكم الجمهوري لأول مرة في العراق . وطيلة سنوات عدة، بقيت المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون استقرار حتى عام 1968 فخططوا الاعداء للإيقاع به وبجاره ايران في أول فرصة تسنح لهم، فكانت الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980 – 1988 ، ولم تمر اكثر من سنتين حتى رتبت أمريكا وبريطانيا عدواناً عالمياً جمعت فيه جيوش أكثر من ثلاثين دولة ..!!! وضربت العراق في كانون الثاني 1991 ضربة عسكرية استمرت شهراً ونصف الشهر تقريباً في أبشع عدوان عرفته البشرية تمخض عنه فرض الحصار الظالم على العراق الذي لا يزال قائماً إلى الآن !!! على شعب صامت ليس له يد في كل ما حصل ويحصل, كتب عليه أن يتحمل عن رضا المواجع من القريب والغريب دون أدنى مصلحة أو فائدة... هل من المعقول لهذه الظروف التي مر بها العراق والتي لم تزل مستمرة أن لا يتمخض عنها تأثيرات هنا وهناك فتترك بصمتها الفكرية والجمالية سلبا وإيجابا .. سواء في الاداء المقامي أو الغناسيقي ككل أو في الحياة برمتها .. وبمضي الوقت سنرى بعدئذ ان اللون الرمادي غلف بعض الالحان وان كان الصمود من متطلبات الظرف الآني .
نعود إلى بدايات القرن العشرين حيث اخذت حقبة التحول تقترب من ذروتها .. كانت هناك تحولات كثيرة تنمو .. وكان ابرز هذه التحولات ورمزها .. المرأة .. التي قادت هذه الحقبة إلى الانفتاح في شتى مجالات الحياة .. وطبيعي كانت المجابهة عنيفة خاصة من قبل الرجل .. وامست هناك حالة من الضجيج اخترقت المجتمع العراقي بين مؤيد لهذا الانفتاح الاجتماعي ومعارض له ، هذه الحالة من الدراما التي ذاع صيتها في كتابات الادباء خاصة ، كما ذاع صيت الحجاب .. حجاب المرأة .. بين ان تتركه أو تتمسك به حتى كانت كلمات الشاعر جميل صدقي الزهاوي 16 التي عبر بها عن تأييده المطلق للسفور وخلع الحجاب حين قال .

اسفري فالحجابُ ياابنه فـهرٍ
كل شيءٍ إلى التجديدِ مـاضٍ
اسفري فالسفورُ للناسِ صبحٌ
لم يقـل في الحجابِ في شكلهِ
هو في الشرع والطبيعةِ والاذ
هو داء في الاجتماع وخـــيمُ
فلماذا يقــــــرّ هذا القديم
زاهـرٌ والحجابُ ليــلٌ بهـيم
هذا نبيء ولا ارتضــاهُ حـكيم
واقِ والعقل والضمــير ذميـم


وزادت هـذه الحقبـة مـن شـدة النقاشات وطرح الاراء بين المؤيدين والمعارضين لمختلف التغييـرات والتحولات التي كانت مـن ابرز ظواهرها ولـوج المرأة عالم الاداء المقامي والغناسيقى التراثية بصورة عامـة، ومـن هنـا التقت النهضة الجديدة للغناء والموسيقى فـي العراق مـع الافكار الوطنيـة والقومية لعموم البلـد ، كما في كـل بلـد بـدأ يعيـد تكوينه مـن جديـد .. وامتزجت الطـرق فـي طريق واحد .. وتطلعت القلوب إلـى الامـل الجديـد والتفاؤل .. نحـو محاولات تطوير الاداء المقامي بصورة عامة … أليس مـن كبار هـذه الحقبة الفنان المقامي جميل البغدادي
ورشيد القندرجي ويوسف كربلائي ونجم الشيخلي وجميل الاعظمي ومحمد القبانجي وغيرهم .. وهؤلاء وأولئك على السواء ساهموا في نهضة الغناء المقامي من جديد .. كل من موقعه .. على الرغم من ان هذه النظرة الإجمالية السريعة لا تحجب التفاصيل الخطيرة الهامة التي حدثت في العراق طيلة القرون السابقة والقرن العشرين .. لأن وراء تلك الكلمات الخاطفة التي المحنا اليها .. تاريخ منوع .. واحداث مروعة اهتزت لها الجباه ورعدت لها الأقلام .. وما نذكره ألان إلاّ بعضا من هذا التاريخ ..
أصبح العراق في هذه الحقبة من التحولات المستمرة .. يبلور ويكشف ويبتكر في غنائه وموسيقاه وفنونه كلها … واستحضرت البلاد اصالتها الجمالية الخاصة بها من جديد .. من خلال إرهاصات كثيرة .. لعل من أهمها موقع المرأة في المجتمع .. هذه الخصوصية التي مثلت تجاوزاً للاستعمار السياسي والثقافي أيضاً … والسبب في كل ذلك هو القوة الملهمة في طبيعة العراقيين .. ومنـذ ان وضعت الحرب العالمية الاولى اوزارها ، وصلت حقبة التحول هذه إلى ذروة كبيرة من خلال ثورات ذاتية متعددة .. ثورات جماعية تمثلت بثورة العشرين … حركات سياسية واجتماعية وجمالية عديدة ، قادت الذوق الفني الغناسيقي في العراق … فقد كانت المرأة محوراً مهما في هذه التحولات والاتجاهات .. والمرأة التي جابهت القطيعة والتوقف بالتطلع إلى الامام والغد فمن مرحلة تعطيل نصف المجتمع والنظر اليه بازدراء واستعلاء إلى مرحلة تجنح نحو الاعتراف بكامل حقوقها وبحرية العمل وابداء الرأي و .. و .. وهكذا تكون المجابهة الحقيقية والتطورات والتغيرات المستمرة من سمات الفكر الحي والذوق المنفتح ، وقانون من قوانين الحياة …



صورة / الصورة في بيت الحاج هاشم الرجب خبير المقام العـراقي الاول في القرن العشرين الجالس في يمين الصورة وبجانبه, حسين الاعظمي – المؤلف – وخلفهما دكتور هيثم شعوبي الباحث الموسيقي وقصي جاسم حسين ( اختام قصي ).


أن حقبة التحول اتسمت ببعض السمات التي يمكننا ان نشير اليها باعتبارها حقبة زخرت بالاحداث الكثيرة والمفاجئة, وفي العراق كانت هذه السمات قد هزت الفكر والذوق والمجتمع ككل ومن هذه السمات :
1- ولوج المرأة معترك الحياة وعلى كل الاصعدة .
2- ان التحولات والتغيرات والتطورات كانت سريعة .. أسرع من قبل بسبب التطور التكنولوجي والصناعي وآثار الحرب العالمية الاولى وثورة العشرين .
3- ان هذه التحولات بمجالات الحياة كافة ، جاءت مع ألازمة الثقافية في الذوق والجمال والمعرفة التي اثارتها ظروف الحرب الدولية والثورات المحلية .
4- دخول المرأة عالم الاداء المقامي لاول مرة .
5- رافقت هذه الحقبة اقصى ظواهر الدراما الذوقية والجمالية بين طرق الاداء المقامية ، خاصة بين ما أسميته بالطريقة الرشيدية التي هي خلاصة الطرق القديمة وبين ما أسميته بالطريقة القبانجية .
6- سيطرت الطريقة القبانجية في الاداء المقامي وفي الذوق والجمال الذي لائم توجهات الذوق في هذه الحقبة ، وتربع مؤسسها محمد القبانجي على عرش الغناء في العراق بصورة مطلقة طيلة النصف الاول من القرن العشرين . ومن ثم تقهقر الطريقة الرشيدية وايقاف مدها .
7- ظهور جهاز التسجيل الصوتي وكذلك المذياع لاول مرة اللذان كانا أهم وسائل انتشار الموسيقى إضافة إلى تأسيس معهد الفنون الجميلة لتدريس فنون الموسيقى والفنون الاخرى .
8- بدأت حركة جديدة من النقد الموسيقي تظهر على السطح بواسطة انتشار الصحف .
9- التوسع الكبير في الاغاني العقلية المقصودة – أي الاغاني التي يعرف مؤديها وكاتبها وملحنها .. بعد الجمود الذي اصابها طيلة الفترة المظلمة .
10- انتشار الاتجاهات الجمالية الرومانتيكية واضمحلال الاتجاهات الكلاسيكية .
كان لامر نجاح الطريقة القبانجية في ذروة حقبة التحول ، قد قادت حركة التحديث الغناسيقي بصورة عامة والاداء المقامي بصورة خاصة ، إلى سلسلة من الابداعات الاخرى ظهرت على الساحة المقامية من قبل مؤدين مبدعين اخرين ساهموا في هذه النهضة اهمهم عبد الهادي البياتي وحسن خيوكه ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن العزاوي . وكانت الطريقة القبانجية التي استقى منها معظم المبدعين طرقهم الادائية الخاصة بهم .. هي الانعطاف الابداعي الاول في تاريخ الابداع المقامي من حيث نوعية الابداع والتجديد ، وذلك بالخروج من طوق المحلية لاول مرة في الاداء المقامي الذي مر قبل ذلك بالاتجاهات الجمالية الكلاسيكية .. وكانت لهذه الحقبة بظواهرها التحديثية في العراق .. قد انتجت الكثير من المؤدين المقاميين تحت لواء الاتجاهات الجمالية الرومانتيكية الجديدة .. وبلغت الذروة في نتاجات فنان القرن العشرين ناظم الغزالي منتصف القرن الذي اتسم اداؤه الغنائي بشاعرية وعواطف قل نظيرها وفنون من دقة الاداء التعبيري لم يسبقه اليها احد .. ان ماطرحه ناظم الغزالي وبقية اقرانه المبدعين التحديثيين كان خطيراً . إذ يستند إلى رؤية مستقبلية في هذا المجال .
قاد حركة التحديث الاولى في المقام العراقي المطرب الفذ محمد عبد الرزاق القبانجي.. حيث قدم اسهامات كثيرة لفتت الانظار بما احتوته طريقته الادائية من قوة ابتكارية كبيرة وجريئة ، في الاداء واختيار القصائد واللفظ الواضح في مفردات القصائد وكذلك جعل الغناء في الاتجاه الجمالي الجديد الذي امتاز بتعابير رومانسية خلابة تأملية إضافة إلى كل ذلك وغيره ، صوته الجميل الذي بلغ فيه مراميه وامكانيته الفذة التي قل نظيرها.. وبه استطاع ان يجسد جزء كبير من مبادىء الحركة التحديثية التي عمت عموم الوطن وفي كل نواحي الحياة … كمـا استطاع القبانجي بطريقته الفـذة أن يؤثـر على مستقبل الاداء المقامـي وتجـدد مساره واتجاهه .. فقـد سجل الكثير من المقامات العراقية لصالح الشركات الاجنبية التـي بيّنت بواسطة اجهزة التسجيل كل هـذه الميزات الجديـدة فـي الاداء .. ومـن هـذه المقامات مقام الابراهيمي ومقام المنصوري ومقـام الحجاز ديـوان ومقـام البيـات ومقـام السيكاه ومقام المحمودي ومقام الناري ومقام النوى ومقام الافشـار ومقام الكرد ومقام الحجاز كار وغيرها الكثير .. حتى اكمل تسجيل معظم أو ربما كل المقامات المتداولة في الاوساط المقامية العراقية .. ومع ان احتجاجات التقليديين ضد التحديثيين ومناصرة جمهور كبير لهم لايستهان به في البداية .. إلا ان الكثير من هذا الجمهور انظم بعدئذ إلى مناصرة الحركة التحديثية .. ويمكن ان نذكر بعض الاسماء من الذين مالو إلى الحداثة النسبية جميل الاعظمي ومجيد رشيد وعبد الهادي البياتي ويونس يوسف وغيرهم .
وبالرغم من أصالة محمد القبانجي وأصالة أتباع طريقته وبراعتهم الفنية التي لاجدال فيها .. فأننا نستطيع أن نرى في موقفهم الفني للأداء ملامح التأثر بالاجواء الطليعية من الانفتاح الفكري والفني والجمالي الذي عم الحقبة هذه .. فإذا كان القبانجي قد فهم اعماق مختلف الاساليب الادائية المقامية التي سبقته التي كانت قد وصلت إلى ذروة كلاسيكيتها .. وهو أرجح الظن بما كانت تمتلىء به الساحة المقامية .. فأن ذلك يعني ان القبانجي قد انطلق من أسس فنية رصينة بحيث استوعب كل الماضي وانطلق بهذه القوة الابتكارية في الابداع والتجديد ليكون حلقة الوصل القوية بين حقبة سابقة وأخرى لاحقة ، قادها بنفسه إلى آفاق أخرى في الخيال والمعرفة والفن .. على ان هذا التألق الذي أصاب الحركة التحديثية التي استمرت حتى يومنا هذا في ديناميكية تطورية لا تعرف الكلل ، ماانفكت تثمر عن ظهور قابليات ادائية جديدة في الاداء المقامي طيلة القرن العشرين .. هذا التألق الذي استمد قوته من أقطاب الاداء المقامي ومن التقائه مع النزوع العام إلى تأكيد الهوية الوطنية العراقية من جهة أخرى ، هذا التألق أيضاً مالبث ان اعلن تدريجياً عن ظهور المرأة في مسرح الغناء والموسيقى والمقام العراقي لأول مرة .. وأن كان انتاجها في البداية قليلاً ، لكنها اوضحت أن المرأة لم تمت ولم تنتهي وأنما عادت كأحد التيارات الجمالية والفنية المتوغلة في الفكر العراقي القديم والحديث والمعاصر .

صورة / الفنانة الكبيرة سليمة خضير وابنها وسام عام 1981, وشقيقتها المطربة الكبيرة امل خضير يتوسطهما الصحفي الكاتب عبد العليم البناء












صورة/مطرب الاجيال محمد القبانجي في وصلة غنائية مع فرقته الموسيقية في العقد الخمسيني


المرأة في حقبة التحول
مرة أخرى عزيزي القارىء اتجول معك لنتأمل موضوعاً آخر يخص تراثنا الغناسيقي – المقام العراقي -، بعـد أن كنتَ معي وأنت تقرأ كتابي الاول – المقام العراقي إلى أين ؟ – الذي صدر مطلع عام 2001 .. اكتب إليك اليوم عن المرأة وعالم المقامات العراقية ، ودنيا الاداء المقامي … كما لو كانت اصداء بعيدة لقرون الفترة الوسيطة التي أطلق عليها المؤرخون بالفترة المظلمة ، التي عاشها العراقيون من آبائنا واجدادنا وعشناها نحن بخيالاتنا وتأملاتنا من خلال مؤدي المقام العراقي على مر الزمن الماضي وكلهم من الرجال ..! تبدو كما لو كانت عودة إلى الشباب وحيويته … أن عالم المقام العراقي بل عالم الموسيقى التراثية ، ريفية ، بدوية ، صحراوية ، جبلية ، مدنية .. عالم أصيل ، فما انقطعتُ يوماً عن هذا العالم وعن هذه الحقبة الاصيلة من تراث امتنا الذي يحمل في اسمه وشكله ومضمونه ، الشموخ والرفعة … في هذه الأرض ، ضمائر آلاف الموروثات .. وفي احلام ابنائها الف أمل وأمل .. المقام العراقي .. نبض هذه الامة .. ماوقع في يدي كتاب يخصه إلا قرأته أكثر من مرة ، ولا تسجيل صوتي أو مرئي إلا سمعته أو شاهدته .. ولا مقال في جريدة أو مجلة أو كتاب إلا قرأته وتلذذت بقراءته .. جمعت الكثير من هذه المدونات ، حباً بها ، وفائدة لاهميتها التوثيقية .. تماماً كانت الفائدة كبيرة بالنسبة لي عندما درست الموسيقى والمقام العراقي ثم قمت بتدريسهما في نفس المعهد الذي تخرجت منه ( معهد الراسات النغمية العراقي ) ونفس الكلية التي تخرجت منها ( كلية الفنون الجميلة ) جامعة بغداد …
فـي البـدء كانت التأثيرات المباشرة ، كان ذلك بعد سنة 656هـ – 1258م .. نهاية عصر العباسييـن .. المغول التتـر .. الجلائريين .. تيمور لنك .. دولة الخروف الاسود ( القرقوينلو) .. دولة الخروف الابيض ( الاق قوينلو ) .. الصفويين .. العثمانيين .. الإنكليز .. قرون سبعة تناوب فيها الغزاة احتلال العراق .. كتبت فيها الاف بعد الاف من قصص المأساة والرعب .. و .. و ..
هكذا انقضت مائة بعد ثانية بعد ثالثة من السنين في غزو بلد الحضارات .. لم يكن فيها الإنسان العراقي لوحده يقاوم الغزاة .. كان العمق العربي بكل ممتلكاته يقاوم .. وبه جابه العراق كل محتليه بسلاح .. الدين .. اللغة .. التاريخ وهكذا بقي العراق رغم قساوة الظروف طيلة هذه القرون واقفاً على رجليه دون يأس أو قنوط .. أثّر وتأثر .. استمع عزيزي القارىء إلى لغة معظم الاقوام التي احتلت العراق ترى بصورة واضحة الكم الهائل من المفردات العربية في عمق لغتهم .. هذه المرحلة من تاريخ العراق التي امتدت سبعة قرون .. يقابلها في التاريخ الفني من الاداء المقامي مرحلة من مثلها ..
زلزلت الظروف زلزالها وأمست المرأة بعيدة .. ففي كل عمق عراقي وفي كل جبين .. وكل قلب ، نما شعور حر يتمرد على كل ظواهر الظلم .. بعد ان غدت الحياة حزينة حتى الاعماق وأمست المرأة بعيدة كل البعد عن مسرح الحياة وعلى الأخص بعيدة عن الموسيقى .. ومع ان العراق لم يكن قادراً على مواجهة المحتلين بصورة عملية فعالة.. إلا أنه كان مشعاً بثقافته ولم يتوقف وظل يسعى والله يقوده.
مرت القرون والمراة بعيدة عن مسرح الاحداث خاصة الفنية منها.. والمرأة عالم.. ذو آفاق لا تنتهي، امكانيات، مفاجئآت ، جمال يورث الجمال ، تعابير ادائية ذات غنىً وثراء ، رقة ، عذوبة ، تفاؤل ، وانهار تنساب بانسيابية رقراقة وشفافية معبرة , تعبر عن جلال قيمة المرأة .. ورجال اتعبتهم انانيتهم وقد اجبرهم العصر على فسح المجال لمشاركة المرأة وعطائها خارج البيت..!
لنتأمل جميعاً ، كيف حال الاداء المقامي وأخيلة الناس المستمعين ؟ وماذا يمكن ان يكون عليه من الخصب ؟ ومايمكن ان تبنى عليه من تعابير مقامية ادائية جديدة ، وماقد تبتكر وتصاغ مـن عوالم جماليـة بولـوج المرأة عالم الاداء المقامي لاول مرة في تاريخها ..!؟ من المؤكد ان هذه الصفحات لاتفي للاحاطة بكل الغنى والثراء بفن المرأة ، خاصة وهي تغني تراثاً سمته التعابير الرجولية والانفعالات الحادة ، حد الخشونة .. صدق – امانه – اخلاق – مبادىء – قيم – شجاعة – نبل – رجوله – بطوله .. حيث يمكننا ان نطلق عليه ( الفن الرجولي ..! ) .
لم ابدأ بكتابة هذا الكتاب لالقي الضوء على آفاق دخول المرأة عالم الاداء المقامي ولالفنها لذاتهما … ولاعن الجماليات الجديدة التي ظهرت من خلالها في الاداء المقامي فحسب … ولكن ، بالاضافة إلى كل ذلك يجب أن تطلع عزيزي القارىء على هذا الحدث الجمالي والاجتماعي والفني ، إطلاع قارىء محب له ، اذ يبدو لي انني اقتربت من تكوين فكرة لابأس بها حول الموضوع قدر استطاعتي وماسمح لي من وقت .. بحيث اردت ان يكون مدخلاً إلى فهم حدث مشاركة المرأة للرجل لافنها فقط .. أريد ان اثير فضولك عزيزي القارىء الكريم وتحفيزك في التعرف على عوالم اخرى تخص الاداء المقامي غير مااعتدت عليها .. اردتُ ان تطلع على اجواء التعابير النسوية وهي تؤدي تراثاً احتكره الرجل لوحده طيلة القرون الماضية … بدون هذه الاضواء لا نستطيع فهم الحدث ولا نستطيع فهم المرأة ولا نفوذ تعابيرها المقامية .. بصورة تفي بحقيقة امكانياتها وتفي بقيمة الحدث وبقيمة الاداء المقامي بصوت المرأة في القرن العشرين . لان في هذا الاداء الذي اتسم لاول مرة برقة المرأة ، نماذج مدهشة وجريئة من الابداع ، وبالطبع ، فقد تُقبلْ هذه النماذج كلاً أو بعضاً أو قد ننكرها كل الانكار ..! ولكن في حقيقة الامر اننا في كل الحالات معترفون بأصالتها .. معترفون بأنها نسوية تستحق الاهتمام والتوقف .. والموقف التاريخي يقضي .. بأن الرجل لايجب ان يلعب الدور وحده في غناء المقام العراقي وموسيقاه ، بل يجب مشاركة نصفه الاخر .. ان المرأة ومنذ زمن قارب المائة عام ادركت انها يجب ان تعيش حياتها اسوة بنصفها الاخر .. وليس هذا الموقف نتيجة تخيلات اسطورية ولكن حقبة التحول التي عمّت المنطقة .. والنهضة الجديدة لغناسيقى العراق الحديث مطلع القرن العشرين .. ومن ذلك أيضاً الموقف الفني والثقافي في الاداء المقامي وموقف الابداع الفني ونماذجه فيه .. خاصة وأننا منذ حقبة التحول هذه ، التي تميزت بدخول المرأة العراقية عالم الموسيقى من جديد .. وفنانو المقام العراقي هم منه في شأن وطريقة وابتكار وصراع … فالظروف قد ساعدت والوسائل قد تيسرت .. وعلى هذا الحال استمرت .. وما تزال .
ان الاداء المقامي برجاله ونسائه من المؤدين والمؤديات يحمل في أعماقه خزائن عظيمة من حياة الشعب العراقي … يحمل في صياح اخرس ، كل شقاء الآباء والأجداد ، كل محنهم .. كل استغاثاتهم .. كل احتجاجاتهم .. كل مصائبهم .. كل تمردهم من ظلم المحتلين في مجاهل القرون السبعة التي عاشها العراقيون منذ نهاية العباسيين … ان الاداء النسوي في المقام العراقي ، جنباً إلى جنب مع الرجل .. أداء مخلص .. وهو حقيقة الرجل العراقي والمرأة العراقية .. وسواء أثرت التكنولوجيا سلباً في بعض جوانبها أم لم تؤثر .. فأن الاداء المقامي التراثي لايمكن ان يعبر بغير الصدق والامانة ..