... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء
دراسة تحليلية فنية نقدية لتجربة المرأة
العراقية في الغناء المقامي
تاليف
حسين اسماعيل الاعظمي





الحلقة (7)




















الفصل الاول






- صديقــة الملايــــة
- ســـــــليمة مــــراد
- سلطـــــانة يوسـف

صدّيقه الملايه
(1900-1970 م)
إن طبيعة صوت هذه المرأة ، ينحو منحى الغلاظة نوعاً ما ، وتحسُّ به احياناً وكأنه يحاول الالتحاق بركب الصوت الرجالي ، مُفتخراً بهذه الميزة التي قد تنفر منها امرأة غيرها .. ولعل من المناسب ان نذكر ان هذه الغلاظه … ان أجيز هذا التعبير .. خدمت المطربة الراحلة صديقه الملايه في غنائها وتعبيرها إذا ماتذكرنا ان غناء المقام العراقي يميل نحو الانفعال الحاد في تعابير ادائه لامر يتعلق بالتزاوج بين ظروف المنشأ والتكوين بمساعدة روافد عدة … ومن ناحية اخرى ، لابد ان نذكر أيضاً ان غلاظة صوت المطربة صديقه الملايه لم يكن تكويناً فيزيائياً أو فسلجياً لصوتها ، أي ان هذه الغلاظه في صوتها لم تكن اصيلة وانما جاءت بعد الاجهاد المضني والمتعب لصوتها عند ممارستها الشعائر الدينية بكثرة في مقتبل عمرها وكذلك كثرة السهر واقامة الحفلات الليلية الكثيرة بعدئذ واسباب اخرى .. مما اضفى على صوتها حدة اقتربت من حدة التعابير الرجولية . وينظر إلى هذه الحالة ، على ان صوت صديقه قد تضرر من جراء اجهادها لصوتها .. لكنها كانت مفارقة .. فرُب ضارة نافعة .. لان التجربة النسوية في الاداء المقامي ابتدأت من صديقة الملايه وبواسطة تعابيرها الغنائية التي جاءت بصوتها الغليظ الذي كان له وقعاً مؤثراً في المجتمع المقامي من الرجال خاصة .. الامر الذي ساعد على تهدئة ثورة الرجال التقليديين من قضية دخول المرأة عالمهم المقامي …! وبذلك حصلت صديقه الملايه على مناصرة عدد لابأس به أخذ بالتزايد من الجمهور الذي كان حتى ذلك الحين رافضاً الاستماع إلى المقام العراقي بصوت أمرأة .. وعليه فقد اصبحت صديقه الملايه بدايه طيبة للتجربة النسوية في غناء المقامات العراقية وبسببها امكننا الحديث عن هذه التجربة التي طال انتظارها زمناً طويلاً .
ان ظهور صديقه الملايه فـي الغنـاء المقامي ، كان امراً جمالياً وفنياً واجتماعياً اقتحم ذلك السكون الذي استمر قروناً من الزمن , ذلك الغموض الذي اكتنف الوجود النسائي الهارب .. الهارب من كل شيء .. حتى من نفسه .. من تطلعاته .. من اهوائه الانسانية !! .

صورة / المطربة الكبيرة صديقة الملاية

تمتعت المطربة الرائدة صديقه الملايه ( فرجة بنت عباس ) وهو اسمها الحقيقي ، في العراق بشهرة واسعة وريادة شامخة للصوت النسائي في غنائنا وموسيقانا العراقية .. منذ عشرينات القرن العشرين في مدينة بغداد العاصمة .. وكان من اهم اسباب هذه الشهرة وهذه الريادة .. دخولها المجتمع المقامي وغنائها لبعض المقامات العراقية أسوة بالرجل الذي احتكره لوحده .. الامر الذي جعل هذه الشهرة وهذه الريادة للمطربة صديقه الملايه تجابه بالاعجاب من قبل الجماهير بصورة عامة من ناحية ، وبالتحفظ والحذر من قبل الوسط المقامي وبعض من الجمهور التقليدي الذي ناصرهم من ناحية اخرى .. ولما كان الأمر كذلك .. فأن الواقع لابد أن يكون له مبررات وأسباب توحي بمصداقية هذه الحالة .. فبالنسبة إلى جماهير الشعب بصورة عامة .. الذين رأوا ان صديقه الملايه قد اقتربت في تعابيرها الغنائية من مغازلة مشاعرهم وهمومهم العاطفية رجالاً ونساءً .. ليس في مقاماتها فحسب ، وأنما أغانيها أيضاً .. لذلك فأنهم يعتبرونها فنانة شعبية ناجحة .. أما بالنسبة إلى رأي الوسط المقامي وبعض من ناصرهم من الجمهور الذين يتميزون بواقع غنائي تقليدي صارم ينبغي على الجميع الالتزام بشكله ومضمونه كمادة غناسيقية تراثية وبعض من ناصرهم من الجمهور .. فأنهم يرون ان صديقه الملايه رغم انها اقتربت من التعابير الانفعالية الرجالية في غنائها لبعض المقامات التي يتميز بها الغناء المقامي على مدى تاريخه .. وهو امر مقبول بالنسبة لهم .. إلا أنهم يعتبرون مساهمتها بتحرير الاغنية التراثية مـن عفويتها وخروجها عـن الاصول الشكلية في غناء الاغنية ( البسته ) ، أمر غير مفضل بالنسبة لهم .. خاصة انها انتجت اغانِ مقصودة كتبت ولحنت لها وغنتها بصوتها بعد المقامات التي ادتها .. ياللغرابة ..!! ان هذا التفسير إذا كان مناسباً لنا عموماً .. فهذا يعني ان صديقه الملايه تكون إذن ، قد ساهمت أيضاً في تنبيه الجماهير إلى أن الاغنية المؤلفة والملحنة من قبل شعراء وملحنين معلومين في المجتمع ثم غنتها بصوتها .. سائرة في الاتساع بصورة ملحوظه .. خاصة عندما غنت اغنيتها الشهيرة ( الافندي ) .
ومهما كان هذا الواقع ، ومع مايبدو عليه من تباعد ، فأن صديقه الملايه مطربه لها قيمتها المشهودة في الساحة الغنائية ، ولايمكن تجاهلها أو المرور بها مرور الكرام .
صديقي المُطلع ، لو تفضلت وتتبعت فحوى تعابير هذه المطربه الأساسي لوضعت إصبعك على عوامل بيئية واجتماعية تتمازج في بودقة هذه المرأة ، لتظهر لنا تعابير غريبة آنئذٍ ، غير أنها مقنعة ، ترجونا أن نعطيها الفرصة ، وأن نصبر من جانبنا حتى نستمع بتجرد .. اما عن العوامل ، فهي مجمل الأحداث الحالمة والأصوات التي سبقتها أو عاصرتها بكل ما تمتلك هذه الأصوات من هبة سماوية ملفتة للنظر أثرت بدرجة ما بمطربتنا موضوعة البحث .. وإذا ماعرضنا إلى العامل الثاني ، وهو الأسى الذي يفرض نفسه ، فأن الأحزان عموماً تنبثق من منافذ عدة لتؤثر في مكامن النفس البشرية ، ومن أعماق الوجدان لتصطبغ بنبرة الصوت ، بأنين موجع يهز الجوارح .. أما العامل الثالث فأعني به القيود الاجتماعية الصارمة التي عاشتها المرأة .. والقيود هذه وكـأنها عبارة عن نفاذ الاوكسجين من وسط شاسع عن كائن محدد بذاته .. ينظر إليه الجميع نظرة استصغار وأن لم يكن ازدراء مرفوض ككل شيء تقوم به ..! وأن حاولت احداهن التعبير عن مواهبها وقٌبِلَ منها فذاك يكون من المنطلق الغريزي ليس إلا ..

صورة / الكاتب الصحفي الكبير رشيد الرماحي في لقاء مع المطربة صديقة الملاية

ان الاصوات الحالمة والأسى الذي يفرض نفسه ، والاحزان جميعها تضاف إلى تجربة القيود الاجتماعية الصارمة التي عاشتها المرأة .. وكل ذلك بمثابة الفحوى الأساسي لتعابيرها الاصيلة في هذه الحقبة من بدايات القرن العشرين .. ان أغنية - الافندي – أو أغنية - للناصرية , وغيرها تثير بنا هذه الخيالات والتأملات..
لقد تمكنت صديقه الملايه ، ليس فقط من وضع حجر الأساس بل ومن تثبيته ، لعنصر المرأة في مشاركتها الرجل بغناء المقام العراقي – ووضع الخطوط العريضة لهذه الجذور، ومن ثم توالي الاجيال النسوية ..
ان الشيء المثير الذي يمكن للجمهور المستمع الحصول عليه من مقامات مثل مقام الحكيمي ومقام المحمودي ومقام البهيرزاوي أو أغاني مثل الأفندي وللناصرية ويا صياد السمج أو غيرها .. هو الشعور بالصوت الذاتي .. التعبير الذاتي .. للشعور بالأنا .. الشعور بالخصوصية .. كل ذلك يبرز بقوة كتعبير واقعي عن حقبة التحول التي اتسمت بالاتجاهات الجمالية الرومانسية الحالمة .. وبالتالي اتاحة الفرصة للفرد للاعلان عن امكانياته الذاتية لاول مرة في تاريخه .. ففي العديد من أغاني صديقه الملايه ، تعبر فيها عن تجاربها ، لتظهر شخصيتها بقوة وثقة بنفسها .. تصاحبها لغة غنائية فنية جديدة يمكن وصفها بأنها جميلة جاءت بصوت أدهش الكثير بادىء الأمر .. أهو جميل حقاً ..!! انه صوتها , كان وسيلة للتعبير عن غاياتها وأصالتها كعراقية التي تصدر عن غناء وموسيقى العراق في كل عصوره التاريخية ..

صورة / المطربة صديقة الملاية وهي ترتدي العباءة العراقية في لقاء صحفي اخر

اعتقد ان الكتابه عن المطربة القديرة صديقه الملايه .. عملية لاتخلو من صعوبة ، بحيث لايمكننا ذكر كل الدلائل التي تشير إلى كل حياتها وسيرتها الفنية .. وان مايعرف عنها .. انها مارست الاداء الديني في بدايتها في جمع من المنشدات من اقرانها مكوّنة فرقة انشادية دينية لأقامة المناقب الحسينية والشعائر الاخرى من الافراح والاتراح وهي تقودهم حيث توصف بالملاية ولطول الفترة التي قضتها في هذه الممارسات الادائية اضافة إلى الحفلات الليلية فيما بعد والايغال في اجهاد صوتها رغم صقله كما يبدو فقد خشن هذا الصوت واصبح يقترب من غلاظة صوت الرجال كما مر بنا .. وقد كانت هذه التجارب التي مارستها صديقه الملايه وعلى الاخص الغنائية التي بدأتها عام 1918 في الملاهي وتوقفت عام 1926 حيث تفرغت لتسجيل الاسطوانات التي كانت تمثل اقتحاماً كبيراً لمسرح الغناء الذي كان يقتصر على الرجال من المؤدين في الاعم الاغلب وفي الحقبة التي تمثلت ببدايات القرن العشرين واتساع تطور العلوم الصناعية – حقبة التحول … ورغم ان المستمع احياناً عندما يستمع إلى بعض أغاني صديقه الملايه يتملكه شعور بالدهشة عن سبب الضجة والشهرة التي احيطت بها ..!! إلا أنه من العدل ان نتذكر .. ان اقل مايمكن الحديث عن هذه المطربة القديرة .. هو كونها أول مطربة .. أو من المطربات الاوائل اللاتي ساهمن في فتح ابواب كانت موصدة أوشبه ذلك في وجه المرأة حتى هذه الحقبة .. ومن الطبيعي ان تكون هناك مطربات قبل الملايه يمتلكن مواصفات معهودة ولكن اهمية الملايه تكمن في اصرارها على تحدي الذات ولوجها المقام العراقي وتحدي الواقع القاسي فاختارت الولوج في هذا المنحى الصعب ذو النفق المغلق كما يراه الجميع …. وعليه فأن تجربة صديقه الملايه ومن عاصرنها كجيل أول ومن جئن بعدها كأجيال ثانية وثالثة … ساهمت بصورة كبيرة عن كشف الهوة التي تفصل طموحاتنا الذوقية والجمالية والفكرية عن حدودنا الجمالية والفكرية هذه التي اوجدتها ظروف ابتعادها وعدم مشاركتها الحياة مع الرجل . ولذلك نرى ان معظم نتاجات المؤدين من الرجال أو النساء في حقبة العشرينات من القرن العشرين ، تكشف لنا على ان هؤلاء قادرين على اكتشاف شخصياتهم الفنية الحقيقية وقادرين بذلك على اكتشاف القوى الكامنة للبيئة وتعابيرها الخاصة .. لذا فقد كانت نتاجات صديقه الملايه ومثيلاتها تفيض بأوصاف خيالية ومشاعر جياشة إلى حد الصدق المطلق وإلى حد الخصوصية التامة ..
يمكن للمتلقي سماع بعض مقامات وأغاني صديقه الملايه ليكتشف الخزين الموجود في تعابيرها الجميلة، إلا أن الامر يستدعي أيضاً الانتباه والملاحظة والتفكير ليكتشف من خلال تعابيرها الادائية هذه ، بغدادية وعراقية هذه التعابير …
لقد ساهمت صديقه الملايه في معالجة هموم المجتمع من خلال نتاجاتها الغنائية ، بصورة متكافئة بالانتقال من الغزل والحنين والعتب والحزن والنجوى والالم والامل والتفاؤل .. و .. بمحاولة اشباع عموم المجتمع اشباعاً نفسياً ومعنوياً . وفي كل النواحي تشير الدلائل إلى أنها ابنة هذا المحيط وهذه الثقافة وهذا المجتمع بكل محتوياته .
لقد تم التأكيد على التكافؤ في العديد من أغاني صديقه الملايه وعلى طابع الالحان التي تبدو لنا جميعاً انها تواءمت مع جميع كلمات الاغاني التي أدّتها أو المقامات ، أو بالاحرى هي التي استطاعت مواءمة الحانها الموضوعة من قبل ملحني حقبتها مع كلمات هذه الاغاني الموضوعة من قبل الشعراء المعاصرين .. وعلينا ان نلاحظ في أغنية الافندي التي يغلب على طابعها اللحني والشعري ، الحب والغزل في حب الافندي صبري – الحبيب المنشود – تعبير غزلي لتلك الحقبة التي سمحت بهكذا مضامين من تعابير الغزل..

صورة / مسرح وتياترو دو لا فيل – باريس 13/1/1997 , المؤلف – يؤدي وصلته الغنائية وبجانبه صديقه عازف القانون المستشرق الفرنسي جوليان فايس , وهو يرتدي الملابس الفولكلورية البغدادية


نوطة اغنية الافندي



صورة / الصورة في اواخر الثمانيات في قاعة الاورفلي ببغداد بعد امسية المقام العراقي , يظهر فيها من اليمين الناقد الموسيقي د. علي عبد الامير , الكاتب والشاعر حسن عبد الحميد والفنانين , مهلب الرجب , حسين الاعظمي – المؤلف – جميل جوزي , باهر الرجب , قصي جاسم الطائي , وسام ايوب , صهيب الرجب .


وهكذا نرى الامر في اغنية اخرى مثل اغنية للناصرية.. التي يبرز فيها تذلل الحبيب لحبيبه والتوسل والحب المفعم بالمشاعر الصادقة..

اغنية للناصرية
نوطة اغنية للناصرية

وعندما تستمع إلى أغنية يا صياد السمج – نلاحظ فيها محاكاة البيئة ومميزاتها والعتب على الحبيب إذ تتهمه بالتمييز الاجتماعي .






وعندما تستمع الى اغنية يا صياد السمك – نلاحظ فيها محاكاة البيئة ومميزاتها والعتب على الحبيب اذ تتهمه بالتمييز الاجتماعي.

اغنية يا صياد السمك
نوطة اغنية يا صياد السمك

وهكذا نتتبع مساهمة صديقه الملايه المغنية وملحنيها وشعرائها في معالجة بعض ظواهر الحياة المعاشة ومشاكلها الاجتماعية …
ومن انغام مقام المحمودي غنت صديقة الملاية هذا الزهيري

يامن بسهم الجفا جوجاي خليته
برياج خلة شبيه الصـبر خليته
خلة جفيته بدار الغـرب خليته
عاهدتني بالعهد ما عاشر وليف سواك
اليوم الك ربع فـــانو صافين سواك
ان جان هذي مودتنـــا وهذا سواك
ارضى بلاكن عهودك وين خليته
ومن انغام الصبا هذا الشعر مع الابوذية

لا السيف في الشرق يرضيني ولا القلم
اذا سيف الحر في كلاهما منثلــم
سيف الحر والقلم ما ينفع مصيبة لان غارات الدهر عل الحر مصيبة اذا صبت الهدف كللي ما اصيبة اغمدة بالياس والالــم بيديـــة
*****
وليلي ما يشوف الراح من هام عليل وما كطعت النوح من هام لون يوصل اليّ كتاب من هام ا يطيب وما يضـل كل الــم بية

وفي مقام المدمي غنت صديقة المقام المدمي هذا الزهيري
تميت احوم على شوفك بس اروحن ورد
وابغي وصالك واروم من المراشف ورد
محتوم ذكـــرك علينه بالفروض ورد
من حيث باسمك تتم فروضنا والدعـى
رضوان حسن الحواري بوجنته وادعى
والورد قدم لوايح وشتكى وادعـــى
ويكول انت الورد وشلون تشتم ورد

ان كل منحى من تعابير ومقاصد هذه الاغاني وهذه المقامات يعد انجازاً جيداً للمطربه صديقه الملايه نسبة لحقبتها الزمنية .. ويوحي كل نتاج من نتاجاتها بالتطور عن الحقبة السابقة لها . التي تقودنا بالتالي إلى الأمل والتفاؤل ..
* * * * *
من المشاكل في بلدنا والوطن العربي أيضاً ، التي يواجهها الباحثون والكتاب والنقاد الموسيقيون عند الحديث أو الكتابة عن نتاجات فنانينا السابقين ، مشكلة جمع الدلائل والمعلومات التي تخص كل فنان .. إضافة إلى فقر المصادر الاخرى عن حياته ونشأته وكل ما يحويه الموضوع من إشارات تستحق الذكر .. فكيف يتسنى للباحث أن يعرف أو أن يحصل على معلومات كافية عن الفنان ، وكيف يتأكد من صحة الادلة غير المكتشفة من قبله والتي قد تساعده في القاء الضوء على موضوع البحث ؟ ومن ثم تساعده على إعادة التقييم في بحثه !!! إضافة إلى أن هناك تساؤلات اخرى تبقى بلا إجابة شافية ، هكذا واقع معاناة الباحث .. لا تواريخ .. لا دلائل .. لا معلومات كافية عن فنانينا السابقين .. وبالتالي يخضع البحث في أكثر تفصيلاته إلى التحليل والتدقيق وذكاء وفطنة الباحث بصورة عامة .
إذا أردنا أن نفكر بصورة تجريبية لأجل التأكد من صحة بعض المعلومات المتوفرة لدينا عن الفنان التي تستند اليها مناقشة الباحث وتدقيقه ، عندها يجب أن يكون كل باحث متنبهاً إلى ابعاد هذه المعلومات من نواحي كثيرة . لأن أية تفصيلات يصل إليها الباحث قد تكون تفصيلات مهمة وفريدة في ذاتها .. هذه هي الإمكانيات المتاحة التي يسير عليها الباحث ويضع تحليلاته المحدودة ، كشأن دلائل معظم الفنانين الآخرين من السابقين أو المعاصرين لصديقه الملايه .. ولذلك يستند هذا الكلام إلى التفسيرات المحددة لتلك الدلائل ضمن إطار الافتراضات المحدودة .. وبالتالي فأن الموضوع ينتهي في معظم الأحيان إلى كونه مرتبكاً أو بحاجة إلى مراجعه ، لذلك فقد أربكت الكثير من الجهود البحثية عن فنانينا.. ليس لكونها محدودةً أساساً فحسب ، بل لعدم الوصول بها إلى حد القناعة التحليلية، وفشلت الكثير من هذه البحوث لهذه الاسباب .
تبرز التعابير كأبرز مالدى الباحث الموسيقي ليتحدث عن أي فنان عندما يستسلم إلى فقر معلوماته الاخرى التي يحتاجها كون أن هذه التعابير واضحة عبر النتاجات الادائية المتوفرة لدى الباحث فهي شيء محسوس أكثر مما هي رمز تاريخي أو معلومة نظرية عن الفنان قد تكون غير دقيقة .. وهو الارجح في أغلب الاحيان .. ففي كل أغنية أو مقام أدّتهما صديقه الملايه مثلاً ، توجد تلميحات وأيماءات عن واقع الحياة التي عاشتها في حقبتها الزمنية ، سواء في ادائها أو اللحن أو الكلمة المغناة .. وكذلك يوجد تأكيد على امكانيتها الفنية في الاداء والتعبير بصورة عامة وربما تفصيلية ما إستقرأته مرة اخرى واستعطفته الهمها تعبيراً مزدوجاً وحباها بنوع ما من الخلود .. وبطبيعة الحال لا يسعنا الا ان نؤكد أن كل لحظة تمر من عمر الزمن هي مهمة جداً بذاتها .. كذلك أن أي تاريخ مهما كانت درجة أصالته وأصالة مضمونه يكون مختلفاً عن غيره من التواريخ من نواحي عديدة .. وعليه فلغة التعبير التي جاءت بأداء صديقه الملايه لأغانيها ومقاماتها تختلف بصورة واضحة وجلية عن تعبير أي مؤدِ أو مؤدية من المعاصرين لها من الناحية الفردية رغم تشابه الجميع ضمن تعابير الحقبة الزمنية في خطها العام . فالذوق يختلف من شخص لاخر..
ان الكتابة عن التاريخ الفني وابطاله الفنانين ، أمر مثير ومريب في نفس الوقت .. لأننا بصدد اعادة ترتيب للمشاعر والعواطف الاساسية التي عاشت قبلنا رغم أننا نستفيد منها كتجربة مع الافتقار الى معلومات رصينة تفيد التحليل ولا تستبدله او تنهيه فهي الدلائل المادية الغنية على ما نذهب اليه.. لذا فعلاقة الباحث مع بحثه ان اختص باستقرار للمشاعر والعواطف ستكون اصعب من جهة وارقى من أي منحى , خاصة اذا مس الباحث بشفافية ورِقّة وحنان هذه السمات الانسانية الخلابة , على ان يكون الصدق والموضوعية والدقة رائدة .
أن أغنية – الافندي صبري – لصديقه الملايه التي تعتبر أشهر أغانيها بل وأجملها جميعاً .. غنتها في العشرينات .. وهي مثال جيد لجودة أساليبها الادائية وافكارها .. ومن الطبيعي ان تكون هناك أغانِ اخرى قد تمر دون ان نلاحظ اهميتها ، إلا إذا استمعنا اليها بصورة دقيقة وكذلك إذا كنا على معرفة بكل أو معظم نتاجات صديقه الملايه .. مثل مقام الحكيمي ومقام البهيرزاوي ومقام المحمودي أو الابوذيات أو الاغاني .. حيث نرى ان كل هذه النتاجات تؤكد الناحية المعبرة عن الخصوصية العراقية والبغدادية وتؤكد على نواحي من فيض العاطفة والشعور التي تعيدها الان وكأنها موجودة بيننا بكامل تفصيلاتها .. ومن ناحية اخرى فأن نتاجات صديقه الملايه تؤكد كما ارى وقدر مااستطيع ان اعتمد عليه من معرفتي وقيمي الثقافية التي امتلكها بخصوص المستوى الادائي لهذه النتاجات والاسلوب الادائي وحبكته بصورة عامة .. تؤكد على فرضيات محيطنا الذوقي والجمالي في تلك الحقبة أو بعدها .. وبالتأكيد فأن الروح التعبيرية لدى صديقه الملايه عن عراقيتها وبغداديتها هي ابرز مانلاحظه .. وقد نندمج كثيرأ جداً اثناء سماعنا لنتاجات صديقه الملايه لانها لاتزال تعبر عن همومنا العاطفية رغم قدم هذه التسجيلات ..!! وبالتالي فأننا نشعر بالامتنان من هذه النتاجات التي تثير احاسيسنا وعواطفنا ووعينا بحقبتنا ومحيطنا .. فهي تؤدي إلى إثارة المتعة والرهبة والدهشة والحيرة والأمل دون ان تثير اليأس فينا ..
أنه لشيء مستحيل ان نحلل نتاجات فنية غنائية وموسيقية ونتحدث عن جميع الاغاني والمقامات التي أدتها المرأة العراقية في صفحات قليلة كصفحات هذا الكتاب .. إذ يحتاج الأمر إلى كتابة مجلدات عدة لنفي بغرض هذا التحليل .. بل من المستحيل أيضاً .. أن نحلل نتاجات واحدة منهن في بحث تكون فيه صديقه الملايه واحدة فقط من عيناته ..!
على كل حال .. ان بعض مميزات الاداء المقامي المعاصر ذات مساس مباشر بالاداء المقامي مطلع القرن العشرين باعتباره تراثاً وطنياً …. فقد كانت صديقه الملايه قد صبّت جل اهتمامها في تلبية طموحاتها الفنية وتدعيم موقفها الشجاع بما فيه من مصارحة اجتماعية عامة وكذلك معارضة فنية من قبل الوسط المقامي باعتبارها رائدة التجربة النسوية في الاداء المقامي ، واستطاعت في النهاية من اختراق هذه الحواجز ، حيث لم تكن تعنيها اشياء غير قناعاتها ، واحجمت عن جميع المشكلات متحدية كل المحيط .. فقد كان بمقدورها ان تؤثر في الاداء المقامي بصورة ملحوظة .. وقد اثرت .. وأن اداءها للمقامات في هذه الحقبة يمكن ان يعتبر اسهاماً ممتازاً .. وقد كان .. لانها استطاعت أن تبين في أقل تقدير .. قدر من الفن لاغنى عنه .. فيه حركة جديدة نشطة من واقع رتيب إلى واقع جديد من النمو .. فليس هناك بُعدٌ او فجوة في العلاقة عن موضوع الاداء المقامي التقليدي .. فلا هي لجأت إلى استعارات لمجرد التجميل في الاداء المقامي .. ولاهي حاولت ان تتغلغل في فكر وشعور الرجل لذات الفكرة .. وليس معنى هذا ان المطربة صديقه الملايه كانت تبعد كل المحسنات عن اسلوبها الادائي عندما يكون نتاجها نفسه جميلاً .. ولكن الموضوع هنا يستلزم اظهار قيمة الحدث وقيمة اختراق الحواجز ونجاح التحدي والامكانية الفنية العالية .. ويكون هذا الحدث اكثر وضوحاً وفهماً عندما توضع أمامنا الدراسة التاريخية المريرة التي مر بها العراق خلال القرون السبعة المنصرمة ... ان أغنية الوطن .. هي أغنية الارض .. أغنية الرافدين .. أغنية دجلة والفرات .. انها تنبع من المرأة العراقية كما تنبع من الرجل سواء .. من هذه الجذور العظيمة .. من دلالات كبيرة .. أنها مثل شجرة معطاء تحيط بالمكان وتملئه خيراً وفيراً ..
صورة / خبير المقام العراقي الاول في القرن العشرين الحاج هاشم الرجب يتوسط الصورة , عن يساره عائدة الخطيب , وعن يمينه عبد الرحمن خضر ويقف خلفه من اليمين , حمزة السعداوي , مع مجموعة من طلبة معهد الدراسات النغمية العراقي ويظهر المؤلف واقفا في اقصى اليسار ويظهر ايضا باسل كامل وفاضل خيوكة وميسان عارف ومحي ود. صباح عبد النور وجمال عزيز ومحمد عبد الجبار وهيثم شعوبي ومحمد زكي عام 1975.