... سلسلة كتاباتي ...








كتاباتي المطبوعة














كتاب
المقام العراقي بأصوات النساء
دراسة تحليلية فنية نقدية لتجربة المرأة
العراقية في الغناء المقامي
تاليف
حسين اسماعيل الاعظمي





الحلقة (11)




















الباب الثاني


الفصل الثالث


- مائدة نزهت
- فريدة محمد علي
- سحر طه









مائدة نزهت
( 1937- م )
إذن حان وقت وصولنا في كتابناهذا بالكتابة عن الفنانة الكبيرة مائدة نزهت , وهذا يعني إننا وصلنا في الكتابة الى قمة فن الغناء النسوي في المقام العراقي , وكما ترتبط اسماء قمم اخرى في الغناء العراقي عامة, في اذهاننا واحاسيسنا , باسماء فنانين اعلام مثل ناظم الغزالي ومحمد القبانجي , حضيري ابو عزيز , يوسف عمر , داخل حسن , ناصر حكيم , سعيد عكار , وولده جبار عكار ... يرتبط اسم الفنانة مائدة نزهت بأذهاننا واحاسيسنا ... ولا عجب من ذلك ... فأن التنوع البيئي في العراق يزيد من غزارة غنائنا وموسيقانا في نبوغ تعابيرنا ورقيها وابداع في الشكل ورهافة في المضمون الغنائي وبحيوية ندر ان نجدها في بلد اخر .
فلقد كان لتفاعل المطربات المقاميات في مقاماتهن واغانينهن مع فن غناء المقام العراقي. ان خلفت المرأة لنا فناً وفكراً مقامياً عراقياً مثيراً. وهو ما فتيء منذ زمن قارب المائة عام مرت على التجربة النسوية فيه . وليس من ضعف في شأن الغناء المقامي بصورة عامة ، اننا نجهل عنه الكثير ، ولكن لا يستقيم لنا عذر ان بقينا على هذا الجهل... لأن فنون الشعوب متقاربة او متفقة في منابعها وافاقها الاساسية ... لكن تختلف في تعابيرها البيئية الخاصة ، وفي الاجمال فأن كل الفنون تنبع من ثقافة العقل والقلب ، حيث يبقى التراث الفني يؤثر في وجدان الشعوب التي ينتمي اليها ذلك الفن.
ولم تكن المهمة هينة ويسيرة للفنانة مائدة نزهت في تجربتها الغنائية المقامية التي بدأتها بوقت متأخر من مسيرتها الفنية واستمرت بها عشر سنوات تقريبا وهي السنوات العشر الاخيرة في مسيرتها الفنية حيث اعتزلت الفن تماما عند انتصاف العقد الثمانيني من القرن العشرين ... وانهت مسيرتها الفنية بها .... قمت بتعليمها بعض المقامات التي وصل عددها حوالي عشرة , نتواجد يوميا ضمن الدوام اليومي في فرقة التراث الموسيقي العراقي كموظفين فيها، ونشارك ضمن هذه الفرقة الرسمية في ارقى المهرجانات في العالم وعلى ارقى المسارح العالمية ... وقد سجلت مائدة نزهت هذه المقامات بصوتها في الاذاعة والتلفزيون في بغداد وهي المطربة المتمكنة من فنها الادائي بصورة تلفت النظر اليها.. ان مسيرة السيدة مائدة نزهت الفنية... مسيرة دائبة الصعود... وهي سجل موثق لجهودها ومواهبها الفذة في الاداء الغنائي.
ومن ناحية اخرى ، تعتبر الاغاني التي ادتها مائدة نزهت من افضل ما ادّيَ من غناء فني في (حقبة التجربة) التي كانت من نتائج التغيرات التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية في العراق . بل من افضل ما ادي في القرن العشرين في فن الاداء الغنائي . ومع ان مائدة كانت قريبة من جمهور الشباب... غير انها سرعان ما ثبّتت نفسها كفنانة في ذهن ومشاعر جمهور واسع على وجه العموم وخاصة من طبقة مثقفي المستقبل الذين لهم صلة قوية بجزئيات الاحداث اللاحقة في الداخل العراقي ... فلم تكن الحرب العالمية نفسها السبب الوحيد الذي اثر في نتاجات حقبة التجربة ... وانما تعدى ذلك الى ظروف العراق الوطنية والقومية التي مرت خلال النصف الاول من القرن العشرين ومنها اغتصاب فلسطين عام 1948 من قبل اليهود الصهاينة ... كل هذه الظروف ترسخت في ذهن ومشاعر جيل حقبة التجربة وهي الحقبة المحيطة بانتصاف القرن العشرين .
لقد كان هناك مطربون ومطربات اخريات ممن انتجوا اغان جميلة تعبر عن جماليات وفن هذه الحقبة مثل ناظم الغزالي وعفيفة اسكندر وسليمة مراد وصبيحة ابراهيم ورضا علي واحمد الخليل ولميعة توفيق وفاروق هلال وزهور حسين وعباس جميل وغيرهم الكثير باغانيهم الجميلة وشهرة بعضهم الطاغية ... وفي هذا الظرف الفني الذي يعج بالفنانين المشاهير ، ظهرت مائدة نزهت فنانة واعدة تتحدى , بعد جيل النصف الاول من القرن العشرين حيث لم يظهر اسم استطاع ان يغطي رقعة تاريخية كبيرة من الغناء العراقي مثل مائدة نزهت ،( لقد استطاعت هذه المغنية اللامعه أن تكون محوراً لنشاط كل الملحنين في كامل اللحنية العراقيه ، ومنذ عام 1954 والى يومنا هذا لم تظهر مطربه عراقيه واحده نافست مائدة نزهت في قليل او كثير , ولعل صوتها هو الوحيد بين الاصوات العراقية الذي كان له هذا الحضور وهذا الأقتران بمعايير القيمة والانجاز ، بل ان مائدة نزهت ارتبطت باغنى مرحلة من الغناء العراقي ونعني بها مرحلة – الاغنية البغدادية- فقد توهجت نبراتها الغنائية من تجسيد الكثير من الاعمال الفنية لاوسع دائرة من الملحنين ).
ان جيل هذه الحقبة ، يود ان يكتشف بنفسه الفزع والسأم اللذين جلبتهما له الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل . اذ كان يود ان يحصل على تعابير غناسيبقية تتسم بجماليات وتذوق جديد تصل به الى افاق جديدة من التفكير والتأمل والتفائل ...


صورة / في الطريق بين باريس ومدينة ارل اقصى الجنـوب الفرنسي خلال استراحة الطريق يظهر فيها من اليمين سعد عبد اللطيف , مائدة نزهت , محمد مهدي , سامي عبد الاحد , محمد كمر , حسين الاعظمي – المؤلف – المطرب عيسى برواري , المطربة كلبهار , الجالسون حسن النقيب , مرافقة الوفد الفرنسية , جبار سلمـــــان . اكتوبر 1977.

لقد ظلت هذه الظروف التي مرت بالعراق خلال النصف الاول من القرن العشرين، هي المؤثر الاساسي في كل نتاجات الغناء والموسيقى وجمالياتها الجديدة في حقبة التجربة.
وقد كان المطرب الكبير ناظم الغزالي الرائد الاول الذي اتسمت اغانيه ببناء جديد للاغنية الحديثة العراقية على يد بعض الملحنين الطموحين مثل ناظم نعيم ووديع خوندة واحمد الخليل حيث اعتبر هذا منحا جديدا ومؤثرا في بناء الاغنية الحديثة في نتاجات المطربة مائدة نزهت من خلال زوجها وديع خوندة وبذلك فقد كان ناظم الغزالي ومن بعده مائدة نزهت رائدين في هذا المنحى في البناء اللحني للاغنية الحديثة وخير معبرين عن هذه الحقبة في التفكير والجمال والذوق . نيابة عن الملحنين وكتاب الاغاني الذين عاصروا هذه الحقبة من تطور موسيقانا.... ففيما يخص الفنانة مائدة نزهت فأن اغنيتها ( اصيحن آه والتوبة) منتصف الخمسينات وهي اول الحان الفنان احمد الخليل لها ، كانت قد عبرت عن جماليات هذه الحقبة بصورة واضحة الاثر ، حتى قدر لهذه المطربة وهذا الملحن ان يشتهرا من خلال هذه الاغنية التي كانت بداية حقيقية لهما معا وبداية طيبة لابداعات جديدة في خط تطور البناء اللحني الذي كان قد هيأ له وديع خوندة واحمد الخليل وناظم نعيم .. فقد كان الجمهور الذي استقبل هذه الاغنية قد وجد صورة ناطقة لابداعات هذه الحقبة .. وهكذا فان اغنية (اصيحن اه والتوبة) تضمنت عرضا موحدا متسلسلا لما كان من نتاجات اغاني والحان مائدة نزهت واحمد الخليل قبل ظهور هذه الاغنية .
ان اللغة والتعبير والبناء امور قد وجدت مقدماتها من قبل ظهورها , فمقومات اغاني مطربي الحقبة وفي مقدمتهم ناظم الغزالي ومائدة نزهت في اغنيتها ( اصيحن اه والتوبة ) " حيث يقول احمد الخليل ( من الفنانات الكبيرات في الغناء العراقي مائدة نزهت التي التقيت بها في الاذاعة سنة 1952 وقدمت لها لحن اغنية " اصيحن اه والتوبة " حيث ادخلت فيها ايقاعات خفيفة ) ومرتكزات مطربي الحقبة من جهة اخرى تعتبر اثار للظروف العصيبة التي مر بها العراق في النصف الاول من القرن وما بعده بقليل .. فالجماليات الجديدة من نتاجات الاغاني في هذه الحقبة , كلها كانت كافية لان تهيئ للجمهور العراقي الشيئ المؤثر حقا في نفوسهم , وكان اثر هذا كله ايضا , ايحاء للانطلاق من جديد نحو حياة نتاملها وازالة للغشاوة التي مرت على الشعب العراقي .

صورة / المطربة مائدة نزهت تتوسط زميليها المطربين حسين الاعظمي – المؤلف – وعبد الجبار الدراجي , نيسان , لندن 1980, اثناء البروفات الفنية .

لقد جلب وديع خوندة معه الى بغداد عام 1957 خبرة لرؤية فكريه وجمالية عاشها في قبرص مذيعا في اذاعة الشرق الادنى الناطقة بالعربية . وكان بفطرته ذا رؤية ثاقبة في كل موهبة فنية بما في ذلك موهبته .. فمضى يكتشف ما تنطوي عليه تلك الموهبة بالنسبة اليه في جد وانتظام .. وبدأ عطاؤه الجديد الى الاجيال الجديدة بالحانة وملاحظاته وادارته لقسم الموسيقى وفسح المجال للقابليات الموهوبة الاخرى لتبدو النتاجات واضحة .
اما الانسة مائدة نزهت وهي المطربة الجديدة فقد كان حظها اوفر من الجميع في تهذيب اغانيها وهندسة مسيرتها الفنية حيث كان الثامن عشر من اذار عام 1958 موعدا لزواجها بهذا الفنان الموهوب وديع خوندة وبذلك بدات مائدة نزهت مرحلة جديدة وجدية في هندسة مسريها الفنية . ومن هذا التاريخ ايضا نلاحظ ان نشاط مائدة نزهت الفني قد بدا يستقر بصورة تدريجية . واصبح اقل من السابق , ولكنه اصبح نتاجا اكثر اتزانا وافضل رصانة واحسن تهذيبا . فحفلاتها الخاصة قد انعدمت او شبه ذلك ونشاطها الانتاجي امسى اكثر دقة وانتظاما .


صورة / المطربة مائدة نزهت تتوسط زميلها وزميلتها المطربين حسين الاعظمي – المؤلف – , وكلبهار , باريس – في حدائق كنيسة نوتردام الشهيرة اكتوبر 1977.

على كل حال , ومهما يكن من امر , فاننا نستطيع ان نلاحظ ان جميع تجارب الفنانة مائدة نزهت الغنائية كانت آية في ملائمتها لتطور فنها الغنائي , وآية في ملاءمتها لظروف حقبتها .. فالموضوعات التي كانت تطرقها لم تكن خاصة بالمرأة فحسب , وانما هي جزء من متطلبات الحقبة او هي انعكاسات لها , فاغانيها الاولى نحس فيها عمقا لمشاعرها الجياشة , وهي مشاعر طافحة بالحب , حب الحبيب وحب الوطن , خاصة بالحان احمد الخليل مثل اغاني ... اصيحن اه والتوبة – يللي تريدون الهوى – فد يوم – اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يااسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – البصرة – همي وهم غيري ... وغيرها من اغاني الملحنين الاخرين . مثل الملحن رضا علي في اغاني اسألوا لا تسالوني – ياناري – يكولولي توبي – مر يا اسمر مر – واغنية محبوبي الغايب – والروح محتارة – لناظم نعيم – او اغنية - خلهم يكولون – ياحليوة عجايب – لعلاء كامل .. واغاني اخرى – سامبا بغداد – نسمات رومبا – ورد الخدود – وينك – من يدري – قفوا هنا – تاليهة وياك – احبك لا – ام الفستان الاحمر – لوديع خوندة – او اغنية – انا الوطن – لعبد الحليم السيد – وغيرها من الاغاني التي كانت سجلا متسلسلا او تذكيراً بالحاجة للتعبير عن العقد الخمسيني من حقبة التجربة على وجه التحديد . فمن ناحية نلاحظ , هناك اسباب الراحة والمتعة في حياة السيدة مائدة نزهت في هذه المرحلة خاصة بعد زواجها من الفنان الكبير وديع خوندة .. ومن ناحية اخرى .. نلاحظ هناك مجموعة من التجارب الاولى والمتنوعة غير المستقرة التي بدات تتسم بالانتظام والحكمة بعد استقرارها العائلي . والظاهر ان الفنانة مائدة نزهت لم تكن بعيدة عن اي تحليل صائب , فهي تتمتع بذكاء وقـّاد وشجاعة في الطرح وطموح وثـّاب الى الامام فلا استبعد انها وضعت نصب عينيها اراء بعضهما في تجربة اغانيها التي اعقبت سنوات بداياتها او تجاربها الاولى .. ان هذا التناظر الواسع بين الذات والواقع وما يتركه من انطباع في شخصية السيدة مائدة نزهت , هو الذي تخلل عملية خلق نتاجات غنائية رصينة امتدت حتى نهاية مسيرتها الفنية .. ففي كل تجربة من تجاربها الغنائية , تاكيد لصحة هذه التجارب .
ولدت الفنانة مائدة جاسم محمد عزاوي في الكرخ من بغداد عام 1937 .. وهي واحدة من اربع بنات وولد واحد .. لامهم وابيهم .. حسنية – بدرية – سامية – مائدة – وخلف .. كان والدها ضابطا في الجيش العراقي .. فكان يتنقل مع عائلته حسب مكان عمله من منطقة الى اخرى في بغداد .. وفي مقتبل عمرها حفظت الاجزاء الاولى من القران الكريم عند الملا في ( الكتاتيب ) , ثم دخلت مدرسة الرصافة الابتدائية حيث شاركت لاول مرة في اداء الاناشيد المدرسية منتصف الاربعينات .. وبسبب القيود الاجتماعية الصارمة .. فقد كانت ترفه عن نفسها وتمارس هوايتها الادائية بمشاركتها الاداءات الدينية مع النساء من الاقارب والمعارف . وبسبب هذه القيود ايضا.. لم تستطع ان تدرس الموسيقى – وفي عام 1954 اعجب بها منير بشير وخزعل مهدي , فشجعاها على التقديم للاذاعة فخضعت للاختبار فنجحت نجاحا باهرا ..


صورة / من اليمين محمد مهدي , سامي عبد الاحد , حسين الاعظمي – المؤلف – مائدة نزهت , جبار سلمان , عيسى برواري , في الخلف محمد كمر وسعد عبد اللطيف اكتوبر 1977,حدائق التروكاديرو قرب برج ايفل

لحّن لها ناظم نعيم اول اغنية ( الروح محتاره والدمع يجاره ) التي كانت تجربتها الاولى فلم ينتبه اليها جمهور كاف.. ولكن تجربتها الاخرى مع الملحن احمد الخليل في اغنية ( اصيحن آه والتوبة ) تعتبر منعطفا جديدا لها رفعها الى مصاف المطربات المعروفات , الامر الذي عمق بداياتها , فقد اشتهرت هذه الاغنية واشتهر معها الملحن احمد الخليل والمطربة الواعدة مائدة نزهت ايضا.
ومن هنا نستطيع ان نحدد بداية جيدة لمائدة نزهت . اما اغانيها الاخرى التي اعقبتها فقد اثبتت نجاح وعلو كعب هذه المطربة القديرة . وخلال عملها في ستوديوهات الاذاعة فقد شاع بين الموظفين الفنيين اسم مائدة نزهت وفي النهاية اصبح اسماً فنيا اقترن باسمها – مائدة نزهت – بدلا من مائدة جاسم .. وكان ذلك منذ اول اغنية لها مع احمد الخليل – اصيحن آه والتوبة- وكان من شأن نجاح هذه الاغنية ان شجع الملحن القدير احمد الخليل لتلحين اغان اخرى نالت النجاح الباهر مثل – يللي تريدون الهوى – فد يوم اتمنى تجي يمي – دجلة والفرات – عليك الروح يا اسمر – اسال كلب اليهواك – كالو حلو كل الناس تهواه – همي وهم غيري - البصرة . وعن هذه الحقبة يقول عباس جميل في لقاء له بجريدة العراق الصفحة الاخيرة , اجراه فؤاد العبودي – ( قمت بتلحين اول اغنية لمائدة نزهت قبل ان تغني للاذاعة هي ( جاني من حسن مكتوب ) ضمن فلم دكتور حسن ربما كانت طريقها للاذاعة , بعدها غنت من الحاني يا كاتم الاسرار ) .
ولفترة قصيرة ابتعدت فيها مائدة نزهت عن الاذاعة والوسط الفني برمته بسبب بعض المشاكل التي جابهتها من قبل بعض الفنيين والادرايين في اعتراضها لعدم اذاعة اغانيها وكان ذلك عام 1955 وهي لم تزل في بداياتها.. واستمرت الحالة حتى عام 1957 بعد ان عاد الفنان وديع خوندة من غربته وعمله في اذاعة الشرق الاوسط الناطقة باللغة العربية في قبرص وبيروت , وهو الفنان الذي اصبح اول رئيس لقسم الموسيقى في الاذاعة عند تاسيسه منتصف الاربعينيات بجهود منه وقرار من مدير الاذاعة زمنذاك المرحوم حسين الرحال .. وعن طريق الملحن احمد الخليل تعرف على مائدة نزهت حيث ذهبا معا الى اهلها لاقناعها واقناعهم بالعودة الى الغناء بعد ان اقتنع الفنان وديع خوندة بصوتها فقد اسمعه احمد الخليل اغنية ( اصيحن اه والتوبة ) باستوديو الاذاعة .. وفي هذه الزيارة تمت تسوية الامر وعادت مائدة الى الوسط الفني والاذاعة لتواصل نشاطها الغنائي .. لتبدا مرحلة جديدة من مسيرتها الفنية اتسمت بالنظام والاتزان والرصانة واستمرت هكذا حتى نهاية مسيرتها الفنية , ولتستمع عزيزي القارئ الى بعض اغاني هذه البدايات من الحان احمد الخليل مثل اغنية البصرة التي كتبت كلماتها فتاة دجلة واغنية يللي تريدون الهوى التي كتبها اسماعيل الخطيب واغنية يااسمر التي كتب كلماتها الشاعر عبد المجيد الملا واغنية فد يوم كلمات طالب القيسي . واغنية كالو حلو التي كتبها ابراهيم احمد واغنية اسال كلب اليهواك لناصر التميمي . في هذه الاغاني نلتقي لاول مرة بتعابير غنائية مفرحة مبتسمة طافحة بالحب والتفاؤل . ان هذا التأمل, وهذه التعابير المفرحة المتسمة بالشجن لمطربة في عقد الخمسينات وفي حقبة التجربة يقودنا الى الاعتقاد بأشياء كثيرة .. إن مثل هذه الكلمات المغناة وهذه الالحان وهذا الاداء, تجريب وتمرين ادبي وفني لحقبة تطورية تجريبية عند منتصف القرن العشرين وما يحيطه من عقود زمنية .. الا ان الامر كان كذلك .. فهكذا حكى لنا الواقع المعاش, وهكذا روت الوقائع والاحداث .. فهذا ما جرى, فلا يجب مناقشة ماهية الحدث بقدر مناقشة الاسباب والظروف المرافقة ومسالتي التاثير والتاثر, فمائدة نزهت التي تطورت فنيا من الحزن المباشر في التعبير الغنائي الى تعابير شجية مهذبة مبتسمة, في انتقالاتها تُحسِّسْ المستمع بمقدرتها الفائقة للتارجح بين الفرح تارة لتهز اوتار قيثارة المستمع فيتمايل طربا معها, وبين الترح تارة اخرى تاخذ بيدك مواسية معلّلَة , كانت قادرة على الفرح من الحزن , التي وضعت مائدة نزهت نفسها فيه كنموذج لفناني حقبتها , أي قدرتها تتجسد في تمكنها على الانتقال الانسيابي الهادئ من الفرح الى الحزن وبالعكس دون تحسس مشوب بالتنافر, فهي لم تنتقل من حالة انسانية الى حالة اخرى بقصد استعراض ممجوج , بل ان الظرف شحّذ موهبتها فقدحت وازدهرت عن سلاسة بديعة حباها الله بها.

صورة / امام مرقد المرحومة المطربة ام كلثوم , يظهر حسن النقيب , مائدة نزهت , حسين الاعظمي , محمود مرافق الوفد , 21/10/1977 .


صورة / اثناء جولة الوفد يوم 21/10/1977 , في القاهرة , بعد ان تمت زيارة قبور الفنانين في منطقة البساتين على ضواحي القاهرة , ام كلثوم , فريد الاطرش , اسمهان , عبد الحليم حافظ , الاهرامات , قلعة محمد علي , مرقد الرئيس جمال عبد الناصر , المتحف المصري .

صورة / مائدة نزهت

وهذه إحدى أغانيها

كلمات ونوطة اغنية كالو حلو


وكذلك هذه الاغنية

كلمات ونوطة اغنية اسال قلب اليهواك

وتعتبر الالحان التي اعطاها الفنان وديع خوندة لمائدة نزهت قبل وبعد زواجه منها بقليل انعطاف جديد في مسار الاغنية الحديثة في بنائها اللحني من حيث تنوع الكوبليهات مع المذهب, وهو يبين لنا ايضا خلجات كتاب الاغاني هذه, وهكذا كانت مائدة نزهت سيدة الموقف في حصيلة النتائج التي استطاعت ان تعبر عن مشاعر الملحن والكاتب معا وهكذا كان الاتفاق التعبيري لمجموعهم.. ومن هذه الاغاني مثلا اغنية يم الفستان الاحمر التي كتب كلماتها الشاعر عبد المجيد الملا واغنية - احبك لا - التي كتبها اسماعيل الخطيب واغنية تجونة لو نجيكم من كلمات رشيد حميد واغنية تاليها وياك التي كتبتها امل سامي واغنية نسمات رومبا وسامبا بغداد التي كتبها حسن نعمة العبيدي واغنية وينك التي كتبها وديع خوندة نفسه ولنستمع معا الى بعضها .


صورة / فنانة القرن العشرين مائدة نزهت


كلمات ونوطة اغنية يا ام الفستان الاحمر

صورة / الفنانون حسين الاعظمي , حسن الشكرجي , الموسيقار منير بشير , مائدة نزهت اثناء البروفات , لندن شباط , 1980


اغنية تاليها وياك

تاليــــها ويـــــاك تــــــاليها ويـــــــاك
ولضــــــــن انساك كــــــــلبي ليـــــهواك
انت الــــي دائما تنساني تـــــــــرجع تتغير تهواني
يانار يا نار يا نار يا نار
قلبي على فراكك
اصبـــر وتحمل كل لوم واتـــــــامل ترجع فد يوم
تهين الروح تضل متروح تخــــــــلي جـــروح
طول عمري اني اهواك واتمنى اكدر انساك
يانار يا نار يا نار يا نار
قلبي على فراكك

نوطة الاغنية


صورة / معظم اعضاء فرقة التراث الموسيقي العراقي , من اليمين حسن النقيب , ابراهيم العبدالله , سعد عبد اللطيف , مائدة نزهت , سامي عبدالاحد, عبد الكريم هربود , حسين الاعظمي , صلاح عبد الغفور , الجالسون , صبحي صالح حسون , جبار سلمان , احمد هربود , بغداد 1975

لطالما استمتعت بذكريات فنيه عشتها مع السيدة مائده نزهت وقد ضمتنا فرقة التراث الموسيقي العراقي التي اسسها الموسيقار الراحل منير بشير مطلع السبعينات.. يلُفُّنا يوم وظيفي دائم طيلة اكثر من اثنتي عشرة سنة, لا نحس بثقل في دقائقة ولا غضاضه من لحظاته, فقد كنا اعضاء الفرقة جميعاً متآلفين محبين لبعضنا, واذكر ان علاقتي بالسيدة مائدة كانت قوية جداً وربما اقوى من علاقة زملائي الفنانين بها من اعضاء الفرقة, وكانت تأنس لمجالستي خاصة ونحن نتحدث عن شؤون المقام العراقي... فانت مع انسانة بمعنى الكلمة, تنبئك ابتداءً بنبلها وسمو مرتبتها و اخلاقها الجمة.. تبادلت الاخاء معها فاثمر عن تعلمها لمجموعة من المقامات العراقية قاربت العشرة مقامات.. اجادت بتفوق في تلقفها و استيعابها كاي مطرب مقامي وعى منذ نعومة اظافره على سماع و تعلم هذا الفن. لم اعان في تعليمها.. فمنذ الوهله الاولى تتلقى الاصول التقليدية لغناء المقامات لتتفاعل في مكنوناتها العميقة, وقد باشرت في تسجيلها في الاذاعة و التلفزيون كما غنتها في المهرجانات الدولية من خلال مشاركات الفرقة الكثيرة خارج العراق.
واجدني عندما اذكر حقائق, استشعر راحة كبيرة, فمن هذه الحقائق تنجلي واخرى مغبونة منسية.. ومن الحقائق ان هذه المغنية الكبيرة غنت المقامات باصولها التاريخية دون الخروج عن ذلك احتراماً لهذه التقاليد الغنائية, ولما كان الخروج عن القوالب لاي فن تراثي محفوف بالمخاطر, فهو سلاح ذو حدين .. فقد استنكره غالبية المقاميين بحجة المحافظة على الاصول التقليدية .. وهو رأي تميل اليه الكثرة ، مع ان البعض حاول التملص من هذه الشرنقة العتيقة .. اما الاضافة فهي تناظر الخروج عن التقاليد بل هي من نتائجه .. ولما كانت مطربتنا قديمة عهد بالغناء, فقد اتاح لها عمرها الفني ان تصول و تجول لتخرج و تضيف جماليات ادائية ابداعية غاية في الفن و الاتقان .. وعليه فهي اول مغنية مقامية غنت المقامات باصولها التقليدية, اي انها ادت الشكل المقامي (Form) وعبرت عنه بمضامين غنائية مقامية عراقية بغدادية. ولو اضطررنا الى الاستشهاد فمن السهولة العودة الى مقاماتها, و ليكن مقام الحويزاوي .. هذا المقام الذي سبق ان غناه الكثير من المغنين المقاميين, ولكن القلة فقط لم تستكن للروتين, وكان التقليد المهيب في الغناء المقامي, يمنع ان يؤدى مقاماً معيناً الا وقد انطلق من التقليد التام.. واول واهم مراكز التقليد هي ان تكون القصيدة المغناة ذاتها التي سبق ان غناها احد المغنين المشاهير وفي نفس المقام المعين. فمقام الحويزاوي الذي غناه المغني التاريخي محمد القبنجي, وبما لهذا المغني الكبير من سطوة هائلة على الجماهير فقد كان مقامه الحويزاوي له سطوه اخرى على مسامع و اذواق المغنين و لجماهير منذ ان سجله اذاعياً عام 1956 حسب ما قيل لي واعاد غنائه عام 1964 في مؤتمر ومهرجان الموسيقى العربية الثاني الذي انعقد في بغداد ، وهذه المرة سجل تلفزيونياً بحيث لم يجرأ اي من المغنين الاخرين ان يغنوا مقام الحويزاوي بعد هذا التاريخ الا بنفس القصيدة و نفس الاداء الذي اداه استاذنا محمد القبنجي, والقصيدة مأخوذة من كتاب الف ليلة و ليلة. ففي هذا المقام كمقاماته الاخرى كان القبنجي كطائر تاريخي من العصور القديمة يبسط جناحيه الهائلين صوب المشرق و المغرب, والكل تحت خيمته.. فمن يجرؤ على مجرد طرح رأي ولو كان بسيطاً.. !!