الفساد غير السياسي!

جواد البشيتي

الفساد، قديماً وحديثاً، إنَّما هو ثمرة طبيعية وحتمية لعالمٍ يسوده الفقر والجوع والعوز والاستبداد. إنَّ الشجرة تدلُّ عليها ثمارها؛ و"ثمرة الفساد" تدلُّ على شجرة هذا العالم؛ ولن يكون ممكنا أو مجديا أن نزرع "مضادات الفساد" في تربة لا تصلح إلاَّ لزراعة الفساد.. الفساد الذي يشمل ويعتري كل أوجه ونواحي حياتنا.

ونحن كلما كافحنا فيروسات الفساد بمضادات حيوية ظهرت فيروسات أقوى، تحتاج مكافحتها إلى مضادات حيوية أقوى وأنجع..

الفساد، لغة، هو التلف والعطب والخلل ومجاوزة الصواب والحكمة.. ويمكننا أن نرى مظاهر الفساد في كل شيء.. في الحكومات والحكام، في العقول والمشاعر، في الأفكار والعقائد، في الأكل والشرب.. حتى في "الجوهر" من العلاقة الإنسانية يكمن شيء من الفساد.

لقد تحول الفساد إلى أسلوب عيش، وطريقا إلى كل ما نريد تحقيقه من أهداف في حياتنا، وكأننا لا نستطيع العيش إلا به وفيه.

الأمثلة لا عد لها ولا حصر؛ ولكننا سنورد بعضا منها، ومن النوع غير السياسي حتى لا نظل ننظر إلى هذا المرض العضال بالعين السياسية فحسب.

الفساد نراه قائما مستفحلا في جوهر العلاقة الإنسانية الطبيعية الأزلية بين الرجل والمرأة، فعلاقة كلا الطرفين بالآخر جفَّت فيها منابع "الحرية الإنسانية"، وصار "التكافؤ" فيها أقرب ما يكون إلى "التكافؤ السلعي" في اقتصاد السوق الحرة؛ أمَّا ذلك التكافؤ الإنساني الحضاري.. التكافؤ الفكري، أو التكافؤ في الحقوق والحريات الإنسانية، فقد صار يشبه ظلا فقد جسمه.

"المجتمع غير الحر"، يمكن أن يسمح بشيء من "الحرية السياسية"؛ ولكنه يقف متطرفا في رفضه لرفع منسوب الحرية الإنسانية في العلاقة بين نصفيه. يقف سدَّا منيعا في وجه كل محاولة لتطبيع هذه العلاقة، وردها إلى أصولها الإنسانية الطبيعية، وكأنَّ دماره يكمن في تطبيعها وأنسنتها.

المرأة تظل معبودة الرجل، في مجتمعنا، ما قبلت أن تظل له عبدة له. أمَّا إذا ما وعت بعض حقوقها الإنسانية، وشرعت، بالتالي، تدافع عنها فإنها تصبح، في نظره وفي نظر مجتمعه، الشيطان الرجيم.

المرأة تَخْتَزِن في داخلها طاقة عالية من مشاعر وأحاسيس الأنثى والإنسان؛ ولكنها لا تجد، بسبب قمع الرجل والمجتمع لها، تصريفا إنسانيا طبيعيا لهذه الطاقة، فتكون العاقبة هي التصريف غير السوي، الذي يصيب مقتلا من إنسانيتها، ويمسخ عقلها وشعورها، ويصيب بالفساد سلوكها.

ويكفي أن يتشوه "الإنسان" الكامن فيها حتى تتشوه علاقتها بالرجل، أي بنصفها الآخر، فالرجل الذي تريد لا مكان له في إرادتها. إنَّ مكانه في إرادة المجتمع.. في إرادة الأب والأخ. ويكفي، أيضا، أن يضمر "الإنسان" في داخل كيان المرأة حتى يصيب التشوه والفساد أنوثتها، فرجولة الرجل نفسه، فنرى ظاهرة "الإسترجال" عند بعض النساء، التي ما كان لها أن تنشأ لولا قلة الرجولة في بعض الرجال. نساء من ورق، ورجال من ورق. هذه هي العاقبة!

المرأة التي يبحث عنها الرجل ما عادت "المرأة الإنسان"، والرجل الذي تبحث عنه المرأة ما عاد "الرجل الإنسان". أمَّا العلة الأولى فتكمن في أن المجتمع ذاته فقد إنسانيته، وفسدت علاقته بالقيم والمبادئ الإنسانية، التي، مع ذلك، يحرص كل الحرص على أن يظل متلفعا بها، فليس أدل على استفحال الفساد من أن يصبح ظاهرنا غير باطننا، وباطننا غير ظاهرنا.

هذا الفساد في العلاقة بين "الظاهر" و"الباطن" فينا نراه، أيضا، في العلاقة بين "الرئيس" و"المرؤوس"، أكانا في قمة المجتمع أم في قاعدته.

علاقة المرؤوس برئيسه لا تستمد مقوماتها إلاَّ من النفاق والكذب والتملق والتزلف، فنرى المرؤوس في سعي دائم إلى إقناع رئيسه بأن فيه من العبقرية والموهبة والفضيلة ما يندر وجوده في البشر كافة. كلاهما يحتاج إلى هذا الفساد الأخلاقي في العلاقة على الرغم من أن المرؤوس لا يُصدِّق ما قال، والرئيس لا يُصدِّق ما سمع!

وهكذا نراهم، جميعا، يسعون في الأرض فسادا، وكأنَّ الفساد هو شرط البقاء في عالم انتفت فيه المقومات الإنسانية للحياة والبقاء!