راح الجندي الامريكي التابع للقطاع الخاص، يبحث عن عراقي او عراقية، اثناء توجهه الي مطار بغداد، فغداً سوف يعود الي الولايات المتحدة لتمضية اجازته، وهناك لن يجد مناسبة للقتل. الي ان ابصر من بعيد سيارة قديمة تسير ببطء كي تبقي علي مسافة كبيرة من المركبة التي يستقلُّّها. العراقيون تعلـّموا بالتجربة ان الاقتراب من مواكب المستعمرين واعوانهم، ُيعرضهم للهلاك.
عندها طلب من شريكه ان يتمهّل قليلا، حتي يستطيع نيل صيده بالمسدس. وفجأة انطلقت رشقات الرصاص، فاخترقت زجاج السيارة القديمة، وأدت الي انحرافها واستقرارها في جُرْف الي جانب الطريق. هل مات العراقيون الذين كانوا بداخلها، ام ُجرِحوا؟ لا تستوقف مثل هذه الاسئلة اسراب كلاب الحرب التي انتشرت منذ 2003 في العراق.
هذه القصة ليست خيالية. لقد كشف عنها عنصر تطوّع في شركة امن متعاقدة مع قوات الغزو الامريكي في العراق، وتحقق من حدوثها مراسلون امريكيون قبل ان تتناقلها بعض الصحف والمجلاّت في الغرب. ويبدو ان وقوع مثل هذه الاعمال الشواذ ليس استثنائيا، فتواترها مستمر دون توقف.
واغلب الظن ان طلقات الاسلحة والانفجارات وما يعقبها من سكوت وجمود، تمنح المرتزقة فترة من الانتشاء والسُكْر، امام الفراغ الذي يفرضونه من حولهم. وكانهم مدفوعون بغريزة وحشية تجعلهم لا يحتملون رؤية آدمي يسعي الا وعاجلوه بنيرانهم، كما لو كانوا مصابين باضطراب ذهني افقدهم الاحساس والعاطفة وحرّرهم من ضوابط الاخلاق الانسانية.
وحتي المظاهر التي يخرجون بها، فانها لا توحي بانهم اشخاص عاديون. يتجلي ذلك من مرأي وجوه تحجبها نظارات كالقناع، ذات لون قاتم، وآذان تتدلي منها الشرُط ُ، وصدور منتفخة بالاجهزة المخفية تحت بزات واقية من الرصاص، واجساد شُكت اليها من الاكتاف الي الافخاذ، اصناف الاسلحة والذخائر. انهم صورة للفرد الذي انتجته ثقافة المجتمع الصناعي، و وليده المعتوه ، مجتمع ما بعد الصناعة (Miguel Benasayag :Le mythe de l'individu). بمعني انه لا يمكن التعرف علي مثل هذا الفرد، قياسا علي مواصفات الشخص الانساني الذي لا يمكن اختزال حياته، بالعيش المنمط ضمن اطار حياوي (بيولوجي). فالحياة وجود، والوجود تعدد وتحوّلٌ وتعبيرات متغيرة ومتبدِلة وعطاءات دائمة. كان الهنود الحمر يقولون للذين جاؤوا من اجل اضطهادهم وابادتهم نحن لا ُنقهر لاننا موتي* ( عن نفس المصدر) تاكيدا علي رفضهم العيش علي حساب الحياة بما هي : الارض وما دبّ عليها، والانهر والحقول، والنخيل، والثقافة، والبنون والآباء.. والرفاق والناس جميعهم.
ولكن ادراك هذا المفهوم للحياة يتطلب حكمة وتواضعا وتسامحا. وهذه ميزات لا يتصف بها المجتمع الراسمالي المعاصر حيث تتجه العناية الي صناعة افراد، ليسوا في الواقع سوي اجزاء متشابهة فيما بينها، بالامكان دمجها لتصير كلا شموليا، وظيفته بسط الهيمنة وارساء السلطة. وبكلام اوضح، لا فرق بين الجزء وبين الكُلِ الا من حيث الكمية فقط. وبناء عليه يجوز القول استطرادا ان الفرد الامريكي في شركات الامن العاملة الي جانب قوات الغزو في العراق، يحمل في ثناياه ذهنية واخلاقية، الادارة الامريكية التي ضمته وجعلته جزءًا من اجزاء جهازها الاستعماري.
والمعروف ان هذه الادارة، التي غزت العراق بجيش قوامه 168 الفا من الجنود، تعاقدت بالاضافة اليهم، مع عدد من الجيوش الخاصة التي لها، مثلها مثل المؤسسات التجارية والخدماتية وجود شرعي في الولايات المتحدة. ومنها الجيش الذي ذاعت شهرته، بعد ان اقدم عناصره في 16 ايلول (سبتمبر) 2007 علي اقتراف جريمة في ساحة من ساحات بغداد راح ضحيتها 28 عراقيا مدنيا. والظاهر، وباعتراف العراقيين المتعاملين مع المحتل انفسِهم، ان هذه الجريمة ليست الاولي من نوعها، وليست ايضا الاكثر فظاعة.
والجدير بالذكر هنا، الدور الذي قامت به هذه الجيوش الخاصة، في الحملات المتتابعة من اجل اكتساح الفلوجة وغيرها، وكذلك ضلوع عناصرها في تنفيذ عمليات سرية، ومداهمات ليلية. هذا من ناحية ومن ناحية ثانية تشرف هذه الجيوش ايضا علي السجون. وتتولي طواقم منها استجواب وتعذيب الاسري والمعتقلين، بدليل ان صور افراد من هذه الطواقم بدت في مشاهد التعذيب التي كشفت عما يجري في ابو غريب.
ولكن اكثر ما يهمُُّ في هذه المسألة، هو الحصانة الكاملة التي مُنحت لكلاب الحرب الامريكيين، العاملين في العراق. (يبلغ تعداد افراد الجيوش الخاصة التي تقاتل الي جانب قوات الغزو الرسمية 137 الفا وهم من جنسيات مختلفة، ومن بينهم 21 الفا من الامريكيين، وهؤلاء ُيعرفون في اوساط التحالف القائم في الولايات المتحدة بين العسكريين وبين رجال الاعمال، بكلاب الحرب ). فبموجب مرسوم اصدره الحاكم الامريكي في حزيران (يونيو) 2004، وكما نصت الفقرة 17 منه، يتمتع جميع مستخدمي الادارة الامريكية بالحصانة امام القوانين والمحاكم العراقية. وهذا يعني بوضوح ان الامريكيين، من جنود ومرتزقة، لا يتحملون مسؤولية ما يرتكبونه في العراق من اخطاء ومن جرائم، فهم اذن غير مسؤولين، يفعلون ما يشاؤون. ينجم عنه، ان الامريكيين يضعون انفسهم في منزلة اعلي من منزلة العراقيين. وما يدفع الي ذلك الا ّ القناعة ُ بعدم المساواة بين البشر، وبتفاوت درجات انتماء الشعوب والاقوام الي الانسانية.
والاخطر من هذا كله هو ما ادلي به الحاكم الامريكي المدني في العراق (السفير) عقب وقوع جريمة ساحة النسور في بغداد، من ان كلاب الحرب تعرضوا لاطلاق نار قبل ان يردوا . مما يوحي حسب هذا الرجل، بانهم كانوا في حالة الدفاع عن النفس وبالتالي فان ما فعلوه مبرر. وهذا منطوق ُيجوِّز عمليا قتل المدنيين، ردا علي هجمات المقاومين، ويعتبرهم رهينة عُرضة للانتقام وغرضا للابتزاز. او بكلام آخر، يوازي هذا السفير بين الاحتياطات التي يتخذها المرتزقة حفاظا علي سلامة شخصه، وبين حق العراقيين في العيش، فيُغلـّب بالطبع الاولي ايا كان الثمن. ولكن هل للعراقيين في عرفه، حق في الدفاع عن انفسهم وفي صون كرامتهم؟ الجواب هو بالنفي، بمعني ان ذلك في نظره ارهاب، فهناك من لهم كل الحقوق اينما تواجدوا، وهناك من ليس لهم حقوق حتي في مضاجعهم.
كثر الحديث في عام 1991 تاريخ انطلاقة سيرورة تهديم العراق وتشتيت شعبه، عن الحرب النظيفة وعن الاسلحة الذكية. ولكن القصد من الضجيج الاعلامي الذي ملأ الدنيا آنذاك، كان في الواقع اخفاء العراق تحت طبقة كثيفة من الضباب، حتي يتسني تدمير محطات الكهرباء، ومصانع تكرير المياه، والجسور وغيرها من المرافق الحيوية. اذ يجب الاّ يغيب عن البال ان معدّلات وفيّات الاطفال، كانت في العراق قبل 1991، مماثلة لما كانت عليه في البلاد المتقدمة.
والغريب ان احدا لم يعد يذكر الحرب النظيفة، بل علي العكس لا يجد المتحدثون الرسميون باسم الادارة الامريكية، والسياسيون الغربيون سواء القدامي منهم او الجدد، حرجا في ايجاد الذرائع لمواصلة الحرب ضد العراقيين، وللتحضير من اجل توسيع رقعتها كي تشمل بلادا اخري، بالرغم من شيوع الاخبار عن وقائع تؤكد طابعها القذر والهمجي، وبالاخص ما رشح عن الاماكن التي الغي فيها القانون بكل بساطة، كغوانتنامو، والسجون السرية، وابو غريب.. والعراق حيث تسود شريعة الغاب.
فمن المعلوم ان عدد العراقيين الذين ُيقتلون شهريا، يتراوح بين الالف والثلاثة آلاف، وان النازحين واللاجئين والمهاجرين من سكانه يقدُرون بما يزيد عن اربعة ملايين نسمة. وفي المقابل ُيطـْبِق الصمت ُ الكامل تقريبا، علي احتمال ان تكون فرق المرتزقة وراء الكثير من التفجيرات في الاسواق وفي الساحات العامة، وحيث يتواجد وقود الفتنة بين المذاهب والملل.
اذ من البديهي القول ان المستعمرين يسعون الي ترعيب العراقيين والي ارهابهم، فيتحجرون في بيوتهم لا يغادرونها الا ّ ما ندر. ووضعٌ كهذا مؤات لمراقبة الناس وللتحكم بهم، لا سيما وانه يفاقم من قابليتهم الي الوقوع في حبائل الحملات النفسية، فاذا بهم يظلمون انفسهم ويظلمون بعضهم البعض.
عشرات العراقيين يسقطون قتلي يوميا. وحكومات الغرب والشرق، تعرف ذلك وتعرف ايضا ان الادارة الامريكية تريد السيطرة علي العراق بأي وسيلة من الوسائل، حتي لو اقتضي الامر اشعال حرب اهلية، تقود الي تقسيم البلاد الي دويلات عرقية وطائفية. ومن نافل القول ان الاجهزة الامنية الامريكية في العراق، ومن ضمنها جيوش المرتزقة وكلاب الحرب تعمل علي توفير الظروف الملائمة لارساء هذه السيطرة الامبريالية علي قواعد راسخة، وهذا ما يستتبع بالضرورة انهاك العراقيين وجعلهم شراذم.
و لا مفر في خلاصة هذه المقاربة في امر المؤسسات العسكرية الخاصة التي يتسلـّط افرادها علي اهل العراق فيقتلون منهم العُزّل، من السؤال عن موقف رجال الدين الذين عانقوا حكام العراق الامريكيين وتطوّعوا في خدمتهم. ولكن ما يتوجب التاكيد عليه، هو ان حكومات الغرب في هذا العصر، تميل الي اضطهاد الشعوب، وكان العالم انقلب الي زمن الاستعمار والابادة الجماعية.
كانت الدهشة تاخذ العروبيين امام تصرفات المستعمرين الاسرائيليين في فلسطين، وادعائهم في الوقت نفسه، باسم الامانة لذكري ضحايا النازية، الحرص علي احترام الانسان، ولكن بعد سقوط بغداد، ظهر جليا، الخداع والكفر والعصبية والعنصرية، وسقط الانسان.
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fn...و&storytitlec=