مدخل.. ليس الحزن أن نكتب..ولكنه الألم حين نوهمك أننا نكتب..؟
تنحت عن المرآة بعد أن أودعتها سراً من أسرارها، وأسرار اللذة التي تتملكها كلما نظرت إليها متفرسة فيها.. منقبة في كاملها، هذا الكل المتكامل، المتأهب لممارسة الحياة، هذا القوام الرشيق الذي يخفي أشياء كثيرة تذهلها كلما فكرت في أنوثتها المقبورة داخل سياج من زيف الترف..؟
بخفة يصاحبها دلال بتؤدة عادت أدراجها، إلى النافذة المطلة على شارع الحريةالمفتوحة منذ الصباح، على ستار أبيض شفاف حتى تُنعم جو الغرفة، نسائم ذلك اليوم، وهي تحُط على شر اشف فراشها الأنيق ، أناقة كل شيء في غرفتها.. أزاحت ستار النافذة جانباً.. وكان طول النهار مسدولا ،على فُتحة النافذة، فلا يرى العابر إلا ستار أبيض شفاف، تُدغدغه النسائم،وكأن أصحاب الشأن في ذلك البناء الشاهق. يخشون على ملاكهم الساكن إحدى غُرف الطابق الثاني.. الأعين المتلصصة، أو تسلل الأرواح العابثة إلى الغرفة المربعة الشكل، الواسعة، الفاخرة التأثيث، فمن عادة مترفي المدينة ، أن يؤثثوا لبناتهم وبنيهم غُرفهم الخاصة، مُحاولين في يأس إغنائهم عما يدور بالخارج من متاع الدنيا، أو ربما هم فقط يُريدون أن يُوفروا لهم كل شيء.. حتى الأحلام..؟ !
في الغرفة التي زُين سقفها، بأشكال وزخارف يتوه الناظر في مكنوناتها، بجدرانها الوردية الملساء، والأرضية المبلطة بأرقي وأنفس ما عرفه العالم من رخام، وفي الركن المنزوي يسار النافذة يضطجع سريرها اليتيم، تؤنس وحدته خزانة تُقابله في الجهة الأخرى للغرفة المزينة بمرآة، وكأنها آلة مصغرة لرصد تفاصيل الغرفة.. بينما قيدت في الركن الكامن وراء الباب مكتبة صغيرة، في حين تتوسط الغرفة أشياء رتيبة المميزة.. طاولة أنيقة.. وكرسيان متقابلان ، لايمل الواحد منهما التحديق في الآخر..؟
بدت لها المرآة التي أودعتها نظرة أخيرة شاحبة، وكأنها تود الانفلات من الإطار الذي ثبتت إليه على صدر الخزانةالعنبرية اللون .. مسحت الغرفة بنظرة شاملة، فتبين لها أنها أهملتها بعض الشيء ، وأن الطاولة التي بُعثرت فوقها أشياؤها تستعطفها، ولكن شيئا ما قد حدث في الغرفة ربما في البناء كله، من يدري؟! ربما في الدنيا كلها؟ ! فمن عادة (رتيبة)أن تمرح، وتطالع الأخبار بشغف وتقرأ بنهم، فمالها اليوم مثقلة وناقمة على غدها، ولحظتها وقد بدت فوق طاولتها بعض الفوضى.. وبدا شكها يقينا بأنها ملَتْ ، أو على الأقل سئمت وجودها داخل هذا السجن الفاخر، والمكيف لمحكوم عليه بالحياة مسلوب العواطف والآمال،مقيد الإرادة والعواطف...؟ !
رباه.... ماذا يحدث لي؟ ارتعبت وأردفت . ما هذه الهواجس الرهيبة؟
مشاهد وصور، دارت بخلدها، وهي تزيح ستار النافذة، وما لبثت أن تهالكت على إطار النافذة، الخشبي المصبوغ بلون القمح، فانحسر ثوب البيت على صدرها، فأحست بألم تُصاحبه لذة طفيفة، وقد برز الصدر الناهد إلى الأمام صارخا في ألم، وكأنه يُريد الإفلات، والتحرر ثم الهروب من وحدة سجنه المقنن.

ما أشقاك يا رتيبة لقد بدأ الجسد البض يتمرد، وتذوق الصدر الكاعب لذة الغرابة.. ضغطت أكثر بصدرها على إطار النافذة، فانسدل شعرها ليلا غزيرا على وجنتين مخضبتين بالحمرة، فأحست بخجل يداعبهما، وبحرارة ، وجرأة تسريان في سائر جسدها الرشيق، أشياء لاعهد لها بها من قبل، فتمايل الجسد النائم، اليقظ ، وانبعث من عينيها السوداوين بريقٌ نوراني فراحت تُحلق عاليا بأجنحة من بياض في فضاء دنيا سابحة، ربما هي الآن تحلم لأول مرة في حياتها الفتية.. ربما!

كان الوقت أحد أيام "أكتوبر".. السوداء. أكتوبرالرعب والموت، أكتوبر الذي رسم خريطة للدم وصارت ذكراه في العابرين جزائر البياض والطهر سوداء..آه..أكتوبرالثمل بجنائز العبث؟!
كانت السماء غامضة و مُحجمة عن الإمطار، منزوية بعيدا خلف السحب الداكناء فلا هي تُمطر، ولا هي تُبهر بالزرقة حاجزة أشعة الشمس عن المتسكعين، والمتسولين خارج ترف المدينة المعلقة، قلوبهم للدفء.. على شوك المأساة ،و فوق رصيف مُفلس، ثمة طفل يجلس القرفصاء في مواجهة شرفة رتيبة، باسطا يديه للمارة متلفظا بكلام عذب بريء، عذوبته تُقطع الأوصال أو تكاد. في الواجهة أيضا، ثمة شيخٌ يكرع في اتجاه بائع التبغ، متعمدا مسايرة الزمن وقد بدا عليه أنه وجد ضالته أخيرا، فهو لابد يقصد كيسا من "الشمة"

انشغل العابرون بسبل مقاصدهم، الخارج من البيت، والعائد إلى الحب المتفق.. على موعد، والآفل من المدرسة، الذاهب للصلاة،والسابح في خيال، والمحلقة روحهبأجنحة نورانية، والأطفال فلذة الأكباد.. أواه.

"ناولني شايا مع سيجارة( ريم)أسرع أرجوك، أريد ضبط ساعتي وتوجيه اللحظة لصالحي، أريد توفير وقتي،" قال عمار موظف البريد يخاطب نادل المقهى، كان عما ر في العقد الرابع من العمر، حسُن الهندام يوحي مظهره بالصرامة، وقوة الشخصية،وهو الذي لاتفارقه جريدة أو تنجلي عن محياه ابتسامة مشرقة، تراه يؤم المقهى في مثل هذا الوقت من كل يوم، لتصفح الجريدة، وقضاء ساعة، أو ساعتين، خارج زمن الروتين الضاربة جذوره في واقع الناس. من الجهة الأخرى للمقهى الشعبي ثلة من الناس، يرتشفون أحاديث يومية مستهلكة، وغير بعيد يعبث الدرويش إسماعيل القصبة بعلبة كبريت، غير آبه بمن حوله من الناس والحياة على حد سوى، وهو الذي قضى أيام شبابه عاقلا ، إلى أن ظروفا ما جعلته ملهاة لطيش الأولاد وظلم الكبار؟

إلى ذلك الحد من ذلك المساء، كل شيء كان يسير في الاتجاه العادي لروتين المساءات الجزائرية، كل شيء كان يوحي بقضاء أمسية مألوفة وعادية جدا والانسياب مع المجرى العادي والعبور الى سدرة الليل ، بكل الأعباء، بكل الضجيج، بكل الأحلام..

ماذا حدث بالضبط؟ سألت صاحب المقهى.. كاد يوليني ظهره ويلج سيارة الشرطة، ولكنه تراجع :
وطلب مني أن أشعل له سيجارة كانت بين شفتيه كل شيء تم في لحظات، الانفجار كان رهيبا.. أشلاء كثيرة، قطع آدمية
ومعدنية تطايرت ، ولصقت بأعمدة الكهرباء واشارات المرور وفوق الأرصفة، ولكن ماهالني بوجع، الجزء العلوي من جسد طفلة شابة.. وجدته لا يزال معلقا على سلك كهربائي.. يــــا...! ولم يكمل عبارته الأخيرة ولكنه فضل ان يلج سيارة الشرطة، ولا تزال سيجارته مشتعلة بين شفتيه. تمت: جيجل الجزائر/2000