القطعة الساخرة الرائعة التي أسوقها بعد هي من تراث الأديب المصري الساخر العظيم "محمد عفيفي" رحمه الله، وهي بعنوان (الأناقة ونحن):

كنا - نحن كاتب هذه السطور - في عشريننا، كنا ننتهي من ارتداء بدلة الخروج فنقف أمام المرآة لننظر إلى النتيجة، لنرى إن كان هناك عوج في الجاكتة، أو انحراف في الكرافتة، أو رعونة في البنطلون، توطئة لتقويم ما نجد من نقص أو اعوجاج.
وكنا - حيث نقف مفنونين أمام المرآة - نمد يدا فنضعها في جيب البنطلون لنرى أثر هذه الحركة على الجاكتة، ثم نمد يدا أخرى ونضعها في جيب الجاكتة لنرصد أثرها على البنطلون، واقفين أمام المرآة مرة بوجهنا ومرة بجنبنا، ومرة بظهرنا وفي يدنا مرآة إضافية صغيرة نستعين بها على أخذ فكرة واضحة في المرآتين عن مشهدنا الخلفي. كل ذلك بالطبع ليس تضييعا للوقت، وإنما سعي وراء التأكد من أننا نستمتع بتلك الخاصية الكسائية التي يسمونها بالوجاهة، مدفوعين بإحساس راسخ بأننا قد نخرج بغير استكمال الخاصية المذكورة فتحدث لنا في الطريق مصائب كثيرة، بل ربما حدثت المصائب للطريق نفسه.
ومع ذلك _ بيننا و بينك - نصارحك القول بأننا لم نفترق عن المرآة المذكورة قط وقد خلت نفسنا كل الخلو من شك أليم في تحقيقنا لصفة الوجاهة، ذلك الشك الذي نعامله كالميكروبات السامة ونستخدم كل ما أوتينا من الكرويات الحمراء والبيضاء في قتله فورا وحالا وعاجلا، ناظرين إلى المرآة التي سولت لنا مثل هذا الشك في رثاء شديد لها، قائلين لنفسنا أنه مهما كان من أمر فالمرآة لا تزال اختراعا جديدا ينقصه الصقل.
ثم مرت الأيام - ما أسرع ما تمر - وكان كل يوم منها يعطي حقنة مقوية للشك سالف الذكر، حتى وقفنا ذات صباح أمام المرآة فإذا بصوت في أعماق نفسنا يقول لنا في صراحة لم نعهدها في أي صوت آخر:
- يا أستاذ... حضرتك مبهدل!
ذلك الإخطار الذي ظنناه موجها لغيرنا فقلنا متسائلين:
- إحنا؟..
- أيوه أنتم... بهدلة تامة وما فيش أي أمل في الوجاهة...
فاجتاحتنا مدى دقائق دوامة عنيفة من اليأس الأصفر في بحر من المرارة السوداء إلى جانب عدد من العواطف الأخرى ذات الألوان المختلفة، إلى أن غلب علينا الفهم و الإدراك بعد حين فما لبثنا أن قلنا للصوت الذي كلمنا في استسلام:
- أنت عاوز الحق يا صوت؟.. كل كلامك في محله..
و للفور - بدون أدنى تردد أو أسف - قررنا التخلي عن كل محاولة في سبيل تحقيق الوجاهة من يومها إلى الأبد.. فما الفائدة؟
إن ثيابنا - لسبب ما - تختلف عن ثياب سائر الناس، وخذ الكرافتة مثلا.. إن كل الناس يربطون الكرافتة حول عنقهم فتظل مربوطة هناك، في النقطة التي حددوها لها تحت تفاحة آدم مباشرة، متدلية في منتصف فتحة الجاكتة في خط عمودي مستقيم، منتهية إلى النقطة التي تهدف إليها كل كرافتة عاقلة ألا وهي توكة الحزام، وهذا بالطبع إذا كان اسمها توكة.
وليس ذلك حال كرافتتنا، إذ لا نذكر لأننا عقدنا عقدتها يوما تحت تفاحة آدمنا إلا وفوجئنا بها بعد لحظات تحت إحدى أذنينا غير بعيد من قفانا، كأن عنقنا مدهون بالفازلين أو كأننا ركبناها - قاتلها الله - على مجموعة من رمان بلي، فإذا ما تابعناها في تدليها و جدناها تدور حول صدرنا متجهة إلى ظهرنا لغرض لا نعرفه، مع تقلص في طرطوفتها والتواء إلى أعلى ورفض تام للاستقامة، كأننا لم نلبس كرافتة و إنما لبسنا لعبة من لعب الأطفال التي يسمونها بعفريت النسوان.
والجاكتة في معاملتها لنا لا تقل في تمردها عن الكرافتة، إذ نلبسها و نقف أمام المرآة فلا ندري لماذا يخيل إلينا أننا لا ننظر إليها معلقة على شماعة. ففي أحد جانبيها انشمار غريب إلى أعلى، وفي الجانب الآخر تهدل يكاد يصل إلى مستوى الركبة، كأنها مصابة بعقدة النقص وتريد أن تثبت للناس أنها ليست جاكتة وإنما بالطو.
وسيبك أنت من الجاكتة واهبط معنا قليلا إلى البنطلون، لكي نقدم لك فيه كائنا لا نذكر أننا لاقينا له شبيها بين الكائنات في شدة التأثر بقوة الجاذبية الأرضية. إذ نربطه بالحزام و نسير بضع خطوات فنحس به ينزلق على خصرنا و يتدلى مع كل خطوة، ونشمره فيتدلى من جديد، وكل مرة نشمره فيها يجذب القميص معه إلى أعلى، فنعيد دفع المذكور إلى موضعه وهكذا دواليك، الأمر الذي ربما دفعك إلى التساؤل لماذا لا نشتري لنا حمالة بدلا من الحزام، وهو ما نفعله باستمرار طوال السنتين الماضيتين.. حمالة جديدة نشتريها كل شهر بسبب ما يكون قد أصاب القديمة من التهتك لشدة مقاومتها للجاذبية الأرضية.
والشراب أيضا يزعجنا، بسبب ميله الغريب إلى الانسياب من ساقنا و التسلل إلى قلب الحذاء، متحولا هناك تحت أصابعنا من شراب إلى كرة شراب، وهذا إلى جانب قدرة غريبة في حذائنا على جمع أتربة تجعل تلميعه جهدا ضائعا، مع ولع مرضي في بوزه بالالتواء على نفسه و التطلع إلى أعلى كأنه يريد أن يرى من الذي يلبسه.
هذا عدد من قطع الملابس عرضناه عليك كيلا تلومنا على ما تخلينا عنه من محاولة تحقيق الوجاهة في ملبسنا، وهناك بالطبع قطع أخرى نلقى منها مثل ذلك و أكثر، ولكن الحديث عنها كما ترى يحتاج إلى أن نعطيك موعدا خاصا، وهو حديث نعفيك منه لما نظن أنه سيسبب لك (اللهم إلا إذا كنت سيدة) من حرج كبير.