... سلسة كتاباتي ...
كتاباتي المطبوعة
كتاب الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها
دراسة تحليلية فنية نقدية لاحدى طرق الغناء المقامي البارزة في القرن العشرين
تاليف حسين اسماعيل الاعظمي / بغداد 2002
الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت شباط February 2007
الحلقة (4)


الباب الاول
الفصل الاول
- المقدمة
- التعريف بالمقام العراقي
- التقديم

التقــــديم/تكملة
ويمت غناء المطرب المقامي الكبير رشيد القندرجي ، قائد الاتجاه الكلاسيكي في هذه الحقبة في الغناسيقى المقامية , إلى فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .. وهي الفترة التي شهدت تحولاً ملموساً تجاه الغناء المقامي كنوع غناسيقي.. كما مر بنا.. ذلك التحول الذي مهَّد لبروز كبير للمقامات الدنيوية مع الآلات الموسيقية في القرن العشرين وقد أُعد لها , بعد السبات العميق الذي مرَّت به الموسيقى العراقية منذ سقوط العباسيين منتصف القرن السابع الهجري .. فقد بدأ في هذه الفترة النظر إلى المقام العراقي على انه من اهم انواع الغناء والموسيقى ، وهو ما كان يتنافى مع النظرة الكلاسيكية التي كانت وما تزال سائدة حتى ذلك الوقت من قبل المجتمع المحافظ والتي كانت تعتبر الأداء بدون الموسيقى ارقى الفنون الادائية على الاطلاق وذلك بسبب انتشار او اقتصار هذه الاداءات في الشعائر الدينية ، فعندما كان سيد درويش- الفنان المصري الكبير- تلميذاً للملا عثمان الموصلي بعض السنوات في حلب وسنوات اخرى في القاهرة عندما قام الموصلي بزيارة إلى القاهرة ، فقد اعطى الموصلي لتلميذه سيد درويش الحاناً كثيرة كان قد لحنها الملا عثمان اصلاً كأعمال لحنية دينية يردِّدها المنشدون في الشعائر الدينية بدون آلات موسيقية ، ومن ثم جعَلَها السيد اعمالاً دنيوية غنائية موسيقية حيث وضع لها اطاراً موسيقياً , محافظاً على اللحن الاصلي , ومحوِّراً الكلمات للاغراض الدنيوية مثل اغنية – زوروا قبر الحبيب مرة- اصبحت زوروني كل سنة مرة .. وطلعت يا محلا نورها .. وعلى دلعونا على دلعونا .. وغيرها الكثير.. 42*
لم يكن المسلمون في العراق ، وهم الغالبية العظمى للسكان فيه ، يمارسون العزف الموسيقي على المستوى الاعلامي او لم يكونوا في الواجهة خلال قرون الفترة المظلمة حتى حقبة التحول من بدايات القرن العشرين ، فقد كانوا يأنفون ذلك ويبتعدون عنه ولكنهم يفعلون ذلك في بيوتهم فقط لاسباب عديدة منها الالتزام الديني للدين الاسلامي الذي يحذر من ممارسة الموسيقى البذيئة والانغماز فيها , خاصة في امكنة مبتذلة وكذلك ابتعد الناس المسلمين عن ممارسة الموسيقى خوفاً من تدخل الحكام المحتلين والمستبدين واتباعهم والاعتداء عليهم , فآثروا الابتعاد تماماً فقد ظل هذا المجتمع محافظاً جداً ومتزمتاً في مواقفه من ممارسة الموسيقى واقتصرت الاعمال الادائية كنتاجات دينية تمارس في الشعائر الدينية فظهرت الكثير من الالحان كمسارات لحنية يمكن ان ترافقها الدفوف الايقاعية فقط عند ادائها في المناقب النبوية وغيرها من الشعائر والمدائح والتهاليل والاذكار ومنها الحان الملا عثمان الموصلي الدينية .. ولهذا فقد كان دور مغني القوميات خاصة التي يعود اصلها الى قومية الغزاة والمحتلين في شأن ممارسة الغناء والموسيقى مع هذه الالحان والاداءات المقامية واضحاً ومشهوداً .. فقد ابتعد المسلمون العرب على وجه التحديد تدريجياً عن هذه الاجواء الدنيوية منذ بداية الفترة المظلمة تقريباً ، وظلت الساحة فارغة لغيرهم , واصبح هؤلاء في الواجهة والمسلمون العرب خلف الكواليس , وانكب هؤلاء مكتفين بالاداءات الدينية التي من خلالها حوفظ على المسارات اللحنية المقامية التاريخية والتقليدية .. دون التعامل مع الآلات الموسيقية سوى بعض آلات الايقاع .. وبدأ بعد ذلك دورا غناسيقيا مقاميا جديدا منذ اواخر القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين لليهود العراقيين ..
وفي النصف الاول من القرن العشرين يكاد ان يكون عازف الايقاع حسين عيد الله الموصلي أول عازف من العرب المسلمين ينضم إلى الفرق الموسيقية التي يشكل اليهود العراقيين الغالبية فيها .. ان دور اليهود العراقيين كبير في تواصل حلقات التاريخ الغناسيقي للبلد منذ اواخر القرن التاسع عشرحتى بدايات النصف الاول للقرن العشرين .
وارتبطت التطورات الجديدة في ذروة هذه الحقبة في غناء المقام العراقي بانتعاش حركة التسجيلات الصوتية ، اضافة إلى التطور الذي طرأ على اللغة الادائية في اداء الغناء المقامي والذي اسهم محمد القبانجي بدور كبير فيه ، وحاول ان يتغلب على العوائق التي كانت تقف امام التعبير المقامي عن المشاعر بالاقتراب من استخدام الاساليب الادائية الرومانسية , او باستخدام الاسلوب المقبول لدى المجتمع . وظهر هذا بوضوح في معظم تسجيلاته المقامية التي سجلها في العقد الثالث من القرن العشرين للشركات الاجنبية القادمة إلى بغداد لمثل هذا الغرض فقد سجل اسطوانات (كرامافون ) عديدة , ضمَّنها عدة مقامات واغاني كانت غاية في الوضوح والروعة والتعبير عن تحولات المرحلة , ويمكننا ملاحظة ذلك عندما نستمع إلى مقامه المبتكر من قبله – الحجاز كار – والمغنى بهذا الزهيري ..
ادفن غرامي بلب احشاشتي وادم
وابجي دمه والدموع ادموع بالوادم
ان كان لني اضل ابحسرتي وادم
اهرب عن ديار قومي هايم يونس
وشلي بدار الخلية المابها يونس
احزان يعقوب عندي ووحشة يونس
والام ايوب تتبع حسرة ادم
او تستمع إلى مقام المدمي بهذا الزهيري ولاحظ عزيزي القارئ والمستمع تعابير الحزن التي يتصف بها هذا المقام , ولكنه حزنا شجيا متاملا ..
يا صاح ربعي جفوني اوزودوا وني
علعود روحي عكبهم ما طرب وني
يا حادي العيس يا غالي الجدم وني
خليني اودع حبيب الكلب دار اله
وادموع عيني تكت شبه المزن دار اله
خايف تراني على ظعن الولف دار اله
من حيث دمعي تبعهم للغرك وني
وهما من المقامات التي لفتت إليها الانظار , والتي ظهر على منوالها العديد من المقامات المسجلة بصوت محمد القبانجي واتباع طريقته في هذه الفترة من بداية القرن العشرين , فقد برزت فيها بوضوح الناحية البنائية في حبكة المسارات اللحنية للمقامات العراقية ..
اما استخدام القندرجي في مقاماته لغة ادائية تتسم بالبساطة والسهولة والحيوية وفق التركيز والاختصار حيث لم يسهب في مسارات لحنية لا داعي لها , وخلت لغته الادائية من أي تكلف يذكر .. وقد سمحت هذه اللغة الادائية الواردة في التسجيلات الصوتية المقامية لرشيد القندرجي التي اخذها من سابقيه من المغنين , بوصف كل ما يتعلق بحياته في تلك الحقبة الزمنية .. ورغم التركيز على الجانب الشكلي للمقام العراقي والتنبيه إلى الالتزام به فان القندرجي من خلاله يسجل مشاعره ومعاناته وهمومه .. وان ذلك لم يحل دون التصوير المتسع والصادق للحياة ككل التي يعبِّر عنها رشيد القندرجي كما يراها... وقد توخى الصدق في هذه التعابير مع ان الجانب الذاتي كان ظاهرا بوضوح في تسجيلاته الغنائية للمقام العراقي , ويبرز رشيد القندرجي كراوٍ يتأمل ما يجري من الاحداث , وهو لا يخفي تعاطفه مع المآسي التاريخية لبلده خلال الفترة المظلمة , ويتعجب منها .. فلم يقتصر اسهامه في محاولة استيعاب وتأكيد كيان المقام العراقي كمعبِّر عن كل هذه الهموم , بل اسهم رشيد القندرجي ايضا ايضا بالكثير في غنائه المقامي الذي ساعد على التمهيد والتواصل الذوقي والجمالي لغناء المقام العراقي , وهذا ما نلمسه بوضوح في كل التسجيلات الصوتية للمقامات العراقية والاغاني التي تركها لنا .. ولعل مقام الجبوري احد هذه الامثلة المؤدى بصوته بهذا الزهيري ..
لا زال خيل السعود بروض مجدك عذر
بامرك وطاعك اكبل دانجيك ابعذر
ايام سعدك تعز الناهيات ابعذر
وتعف عن حال عبدك ان خطا وان زل
انت ابن ادم وابوك امن النعيم انزل
اهل الوفا ما يكصون الجدم لو زل
اخطا العبد واعتذر والحر يقبل عذر
وعلى الاجمال , يمكن اختصار القول , بان تجربة الغناء المقامي في حقبة التحول , قد حققت انجازات فنية لعبت دورا في دعم الفن المقامي في التواصل التاريخي وتنميته فيما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين , فقد تحرر الغناء المقامي في هذه الحقبة بصورة تدريجية من المذهب الكلاسيكي وقطع المغنون المقاميون المبدعون شوطا في الاتجاه الرومانسي من خــلال تسجيلاتهم المقامية , كما طرأ تغير واضح ايضا باللغة الادائية بعد هذه التسجيلات المقامية , اذ اتجهت إلى آفاق اوسع من ذي قبل حيث لم يكن متسع لهذه الآفاق , ولكن الرشيديين والاسبق منهم حققوا بواسطة مقدرتهم على ان يوقظوا بغنائهم المقامي الرغبة في الاستماع المستمر للمقام العراقي وهكذا يسهم الجميع بما فيهم القبانجيون في عملية التواصل الجمالي والذوقي والتاريخي بين قرنين من التاريخ الغناسيقي العراقي .. ..
وترتبط مراحل تطور الغناء المقامي وتأسيس الطرق الغنائية المقامية في القرن العشرين , ارتباطا وثيقا بالسير العام للتطور التاريخي والوطني للعراق .. فقد كان للاحداث الوطنية والقومية والدولية تأثيرها الكبير , ليس على الغناسيقى والمقام العراقي فحسب , بل على الحياة برمتها , فكان ان مسَّت هذه التأثيرات الغناء المقامي ومذاهبه , الجمالية والذوقية والتاريخية ..
فالعراق الذي بدأ منذ السنوات الاولى للقرن العشرين ينخرط أكثر فأكثر وبالتدريج في دائرة الحياة الدولية العامة محاولا ان يعيد لنفسه مكانته الخاصة في التاريخ الحضاري بين الشعوب المختلفة , فهو لم يستطع ان يبقى في منأى عن تيار الاحداث والتاريخ الدولي رغم مرور سبعة قرون من ظلام – الفترة المظلمة – وقد كان لاحداث الحرب العالمية الاولى (1914-1918) اثرها البالغ على الوعي والواقع الاجتماعي في العراق الذي شمل مرافق الحياة واخصها الغناء والموسيقى .. اضافة إلى ذلك فقد كان لاحداث ثورة العشرين (1920) تاثيرا ايجابيا مباشرا على الشعور الوطني العام والوعي الثقافي وبالذات بين فئات الشعب الواعية والممثلة بالطبقة المثقفة من المجتمع .
ومن ناحية اخرى , فقد كان الوضع الاقتصادي والسياسي المضطرب الذي كان يسود العلاقة بين ابناء الشعب والمستعمرين الانكليز الجدد .. والذي اخذ بالتفاقم , سببا في ازدياد اضطرابات الشعب بعد نهاية الحرب العالمية الاولى , ازديادا لم يسبق له مثيل , واصبح التناقض شديدا للغاية بين الشعب العراقي والانكليز الحاكمين مما اسفر ذلك عن حدوث أول ثورة في العراق الحديث عام 1920 ضد المستعمر الانكليزي , وهكذا برزت في العراق من جراء هذه الظروف تغيرات وتطورات عديدة , فظهرت الاحزاب والافكار والتكتلات الدينية والدنيوية ونشطت حركات التحرر والدعوة إلى الاستقلال ..التي تزعمها خيرة شباب الوطن التي كان من اهم اهدافها طرد المستعمرين وحكم العراق من قبل ابنائه . وتأسست الدولة العراقية والجيش العراقي واقيم الحكم الملكي لاول مرة .. وقد كان لهذه الاتجاهات الوطنية انعكاساتها في فن المقاميين الذي جاء تعبيرا فنيا وثقافيا عن هذه الاتجاهات كما شارك الكثير من فناني المقام العراقي مشاركة فعلية في الحركة التطورية المقامية . وهكذا نرى ان الجانب الغناسيقي والمقامي على وجه التخصيص قد ارتبط بمراحل هذه التطورات في هذه الحقبة من التحولات بشتى مجالات الحياة , ففي النصف الاول من القرن العشرين تأسست طريقتان مهمتان في تاريخ الغناء المقامي .. الطريقة الرشيدية والطريقة القبانجية .. وكل منهما مثلت تيارا واتجاها جماليا وذوقيا وفنيا وثقافيا..
وعليه جاءت نتاجات هذه الحقبة من غناء المقام العراقي من قبل المغنين جميعا , الزيدانيون منهم او الرشيديون او القبانجيون تعبيرا عن هذه الظروف التي يعيشها ابناء الوطن وتناولوا وصف هذه الهموم وحياة الاضطراب , وكان ابرزهم محمد القبانجي الذي صور في بعض مقاماته مدى الحنق والكراهية من جانب الشعب تجاه التواجد الانكليزي في العراق . حيث غنى القبانجي بعض القصائد الشعرية التي كتبها شاعر العراق الكبير معروف الرصافي في هذا الصدد مع بعض الابوذيات التي تمثل الخضوع والخيانة من قبل الحكومات التي عاصرت الاستعمار الانكليزي مثل هذا البيت الشعري للرصافي والابوذية لحمدي السيار 43*..

عبيد للاجانب هم ولكن على ابناء جلدتــــهم اسود
النوايب مرتهب منــــــها ولاجن
وقومي لا دره بحيـــــهم ولا جن
عبيد للاجانـــــــب هم ولا جن
على اخوتهم اسود بكل قضـــــية
وفي نفس المنحى الوطني كتب الشاعر عبدالكريم العلاف بيتا من الشعر مع الابوذية ..
بلد يزاحمني الغريب بوسـطه والاهل اهلي والبــلاد بلادي
سعيد الــــلي قضى عمره بلاداي
وعايش دون خلــــق الله بلاداي
الغريب اصـــبح يزاحمني بلاداي
والاهل اهلي وبلادي هي ليــــة
وفي نكسة حزيران 1967 انتفض القبانجي وعلا بصوته في مقام الجمال والاغنية التي ذاعت شهرتها في الافــاق (صلي وسلِّم بالحرم) رغم انه كان معتزلا الغناء على المستوى الاعلامي ..

ياجيرة الحي اين الدار تؤويــــني
واين اخوان اوطان تنـــــاديني
ما كنت اعلم ان الدهر يشجينـــي
حتى شربت دمعي من تلاحيـــــني
ارى الظلوم بروح الغدر منــــتصرا
على خداع وظلم في فلســــــطين
ويصمد العرب في بلواهــــم ابـدا
ما دام ايمــــــــانهم بالله والدين
ياجيرة الحي والايـــام آتــــية
بالنصر حتما من الــــمولى بتمكين
يارب طهر ربوع الانبـــــياء وما
قد حل في القدس من جور الصــهايين
واحفظ لنا قبلة الاسلام حافظــــة
مهد المســـــيح محجا للملايين
وانصر الهي جيوش المســلمين على
من كان يطعن في عيــــسى وياسين
الاغنية
صلي وسلم بالحرم وارفع على القدس العلم
ارض القدس للمسلمين المسلمين الاولين
صلي , صلي , صلي وسلم بالحرم
**********
صلي صلاة الغائبــين وادع دعاء المؤمنـــين
وانظر لرب العالمــين يغضب على كل من ظلم
صلي , صلي , صلي وسلم بالحرم
**********
يارب ابعد شــرهم واهتك الهي سترهم
لابد نسحك صـــدرهم احنا العرب اهل الهمم
صلي , صلي , صلي وسلم بالحرم
**********
وخلال الاغنية يستمر في غنائه لمقام الجمال بشعر الزهري ثم يعود الى الاغنية .
نار المظالم علت واللي حرم حاله
وهل الذي خالفت روح العدل حاله
واللي قوي ينتصر يوم الوغى حاله
ايد التريد الغدر ربك يصفيهه
سلاحك اوصبرك وايمانك يصفيهه
لتشيل هم اودرد ربك يصفيهه
الغاصب فلا ينتصر ما يدوم الــــه حاله
يعـود للاغنية
ابعد شرور المعتدين الناقمين الحاقدين
جونه حثاله مشردين ما عدهم دين اوذمم
صلي , صلي , صلي وسلم بالحرم
**********
ياعرب لموا جمعكم وخذوا يخوتي بثاركم
هيئة امم متفيد كم بالوحدة والقوة الامم
صلي , صلي , صلي وسلم بالحرم
**********
وقد ربط الكثير من النقاد بين ظروف المرحلة ونتاجات المغنين المقاميين المعبرين عنها .. اضافة إلى ذلك فإن المقام العراقي وهو يؤدى باصوات المغنين المقتدرة , يحوي الكثير مما يمكن الحديث عنه , من ابداعات ادائية , واساليب غنائية ولغة ادائية وطرق غنائية .. والتي تضفي بالنتيجة على غناء المقام العراقي روح الفن والحيوية . ويقترب حديثنا هذا من مقام الحجاز ديوان المؤدى من قبل المغني الكبير رشيد القندرجي بالقصيدة ومطلعها ادناه ..
( خفف السير واتئد ياحادي انما انت سائق بفؤادي)
وكذلك يقترب حديثنا من حيث المضمون من مقاميه الاوج المغنى بمطلع القصيدة ..
( بها غير معذور فواف خمارها وصل بعشيات الغبوق ابتكارها )
ومقام العجم عشيران المغنى بهذه القصيدة التي مطلعها ..
( دع عنك لومي فان اللوم اغراء وداوني بالتي كانت هي الداء)
فمثل هذه المقامات الرشيدية التي نلاحظ فيها روح الفن الغنائي وحيويته .. وبطريقته الخاصة المتبعة وبلغة اسلوبية مؤثرة في الكثير من المغنين , يعكس رشيد القندرجي الواقع الاجتماعي في حقبته بظروفه المعاشة وجمالياته وذوقه وتياراته الفكرية .. وهكذا يجد كل ذلك مجسدا في مقاماته الاخرى المسجلة بصوته كمقامي الصبا المغنى مرتين وباسطوانتين وبقصديتين مختلفتين الاول بقصيدة لعنترة بن شداد وهذا مطلعها ..
( الا يا حمامات اللوى عدن عودة اني إلى اصواتكن حزين)
ومقام الصبا الثاني بقصيدة مطلعها..
(هذا الصبوح وسارع بالاخلة ...............................)
وبصورة عامة , لم تخلو التسجيلات الصوتية في غناء المقام العراقي في هذه الحقبة من بدايات ظهور جهاز التسجيل الصوتي , من تســجيلات تحمل اخطاء فنية , فلم تكن مستويات الفنانين سواء المغنين او العازفين في مستوى واحد , ولكن هكذا كل بداية , فالفترة التي سبقت ظهور التسجيلات الصوتية , لم تكن فيها مجالات كافية لتجمع المغنين وبلورة نشاطاتهم وتطوير امكانياتهم بصورة مركزة كالفترة التي بدأت فيها هذه التسجيلات بالظهور ومن ثم تطور النتاجات الغنائية وتبلورها فنيا رويدا رويدا , وخلال مسيرة الإنتاج وباستمرار وانتباه الفنانين إلى ان هذه التطورات ستخلِّد لهم اصواتهم مما شدَّ من ازرهم وبدأت تطلعاتهم وطموحاتهم تأخذ مسارا جديا أكثر من أي وقت مضى , مما ساعد على تاكيد النظرة إلى الاهتمام بموضوع شكل المقام التقليدي بصيغة تمثل تراكمات تاريخية في مسيرة هذا الغناء , وبدأ الاهتمام في تنمية القابليات الفنية لترك نتاجا غنائيا جيدا ذا مستوى يلائم تطلعات الحقبة .. وسيبقى رواد هذه الحقبة من الفنانين المغنين مجالا مستمرا للدراسات الفنية ممن قدموا نتاجات مقامية في فترة تعتبر من اكبر المنعــطفات التاريخية في التغيرات والتحولات ..
***********************
تكملة/هوامش الباب الاول الفصل الاول
• 42* انظر كتاب – المقام العراقي – للحاج هاشم الرجب في طبعته الثانية 1983 ببغداد .. وكذلك كتاب – دليل الانغام لطلاب المقام – تاليف شعوبي ابراهيم خليل في طبعته الاولى ببغداد 1982 .. ايضا انظر كتاب – الالات الموسيقية المرافقة للمقام العراقي – للدكتور صبحي انور رشيد في طبعته الاولى ببغداد 1984.. كذلك كتابي – المقام العراقي الى اين ؟ في طبعته الاولى ببيروت 2001 ص 124 .. و – المقام العراقي باصوات النساء – في طبعته الاولى ببيروت 2005 ص45 .. وكتب اخرى ..
• 43* - هذين البيتين من الشعر مع الابوذيتين ماخوذة من كتاب – محمد القبانجي – لمؤلفه سعدي حميد السعدي الصادر في بغداد , تشرين الثاني 2005 ص262و263

يوم الجسر
قصيدة شهيرة للشاعرة الكبيرة د.عاتكة وهبي الخزرجي
قالتها في فاجعة جسر الشهداء الذي يربط الرصافة بالكرخ , ويقع في نهاية - جسر المامون – وينتهي بساحة الشهداء , وعلى هذا الجسر سارت جموع الطلاب سنة 1948 بمظاهرة صاخبة ينادون باسقاط (معاهدة بيفن – صالح جبر) وفتح اعوان الاستعمار النار على هؤلاء العزَّل إلا من رايات الاحتجاج ومن اصواتهم التي هزَّت المشاعر , فسقط على الجسر عدد من الشهداء والشهيدات , وفي هذا الحادث الفاجع نظمت الشاعرة عاتكة الخزرجية احاسيسها الملتهبة متفاعلة مع تلك المشاهد الوطنية التي شملت الجماهير الساخطة , وعلى اثر هذه الاحتجاجات وما اعقبها من تأزم اضطر الوصي على عرش العراق ان يقيل وزارة صالح جبر ..

ما بـ (العراق) ؟ أصفـــــوةٌ امجادُ
تودي بهــا السُّفهــاءُ والاوغـــادُ ؟
ما فيـــك , يا وطني ؟ اشِرذمةٌ طغت
تبغي السِّيــــــادةَ فيك وهي تُسادُ ؟
ماذا ؟ ايرجو الخـــــائنون ولاءنا
وخضوعنــــا ؟ ألِمثـــلهم ننقاد ؟
انحبُّ من بــــاع البــلاد بمنصبٍ
فيه الصَّغــــارُ وفيه الاستعبـــاد ؟
انحبُّ من ضربَ البـــــلاد ببعضها
فاذا بهـــا شُعلٌ , وثَمَّ رمـــــاد ؟
انحبُّ من اورى الضَّغــــــائن بيننا
فاذا القلــــوب بطيِّهــــا الاحقاد
انحبُّ جـــلاّداً تخفَّى هـــــاربا
إذ هـــاله الاجــرام والإفســاد ؟ 1*
بغداد , مهـــلاً , لا ترُعْــكِ فجيعةٌ
هي من جـــراحك بلْسمٌ وضِمــــاد
فدمــــاءُ فِتيتِــك البريئة قد محتْ
صفحـــاتِ عــارٍ كلُّهُنَ ســـواد
نادوا بحقك في الحيـــــاة وجاهدوا
وكذا حيـــاة المخلصين جهـــــاد
نادوا بحقك فاستثـــــــار نداؤهم
غضب الذُّنــــابى الخـانعين وكادوا
لم يَثْنِهم كيـــدٌ , ولم يعـــبثْ بهم
غدرٌ , ولم يُـــرْهِبْهمُ الايعـــــاد
وسروا الى سوح العُـــلى أسداً , على
طَلَعـــاتهم تتـــلألأ الامجــــاد
متظـــافرين على هواك , وهل سوى
هذا الهـــــوى زادٌ لهم وعَتــاد ؟
بغداد , يومُك في الجهـــــاد ملاحمٌ
غُـــرَرٌ بهـــا تتَرنَّمُ الآبــــاد
هيهــــــات يمحوها الزمانُ مواقفا
ضَجَّتْ لهـــا في تُربهـــا الاجداد
سيظلُّ , يوم الجسر, اروعَ صفـــحة
بفَخـــــارها تتَيمَّنُ الاحفــــاد
شهداؤك الابـــــرار احياء , على
قَسَمــــاتِهم نورُ الهدى الوَقّــــَاد
يتباشــــرون مُجَلْجِلين هتـــافَهم
عــاش العــراق , ومـات الاستبداد
بغدادُ , لا تُذري الدمــــــوعَ لفتية
ذهبت وطـــــــاب لمثلها استشهاد
ودمُ الشهــــــادة ان اريق , فانما
بهـــديره تتحـــطم الاصفــــاد
فالأُسْدُ تـــــأبى ان تعيش وان ترى
بعــــرينهـــا تتحكَّمُ الاوغـــاد
واذا تثـــور على الطُّغـــاة , فانما
بزئيـــرهـــا تتَزلْزَلُ الاطـــواد
بوركت يا بغـــداد , من بلـــدٍ , به
تُفْـــدى النفوس , وتُبْتَنى الامجـــاد
ارْجَعتِ عهـــدَ الغــــابرين بوقفةٍ
شمَّـــــاءَ فيهــــا تُبذلُ الاكبـاد
وجلوتِ للاجيــــــال غضبة حرةٍ
عـــــربيةٍ ضِيمت فكــــان جِلاد
وكتبتِ في سِفْر الزمـــــان قصيدةً
صَخَّـــــابةً , فيهــــا الدماءُ مِداد
شهداءنـــا ! لا , لن تُطلَّ دمــاؤكم
هَـــدَرا , فإنَّا في التِّراتِ شِــــداد
سنَهبُّ نبغي الثـــــــأرَ هبَّةَ ثاكلٍ
لوحيـــدها , اذ نــــــاله الانكاد
في ذمة التــــــاريخ ابطالٌ مضتْ
وبذمة الحـــقِّ الهضيــم جِهـــاد

هامش ,1, هرب نوري السعيد وصالح جبر من العراق اتقاء غضبة الشعب الذي كان يغلي غضبا على الرجلين اللذين سعيا لعقد المعاهدة ..
(الآلوسي , جمال الدين , بغداد في الشعر العربي , مط المجمع العلمي العراقي , بغداد 1987 , ص257و258و259و260)