... سلسة كتاباتي ...
كتاباتي المطبوعة
كتاب الطريقة القندرجية في المقام العراقي واتباعها
دراسة تحليلية فنية نقدية لاحدى طرق الغناء المقامي البارزة في القرن العشرين
تاليف حسين اسماعيل الاعظمي / بغداد 2002
الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت شباط February 2007
الحلقة (14)
الباب الثاني
الباب الثاني/ الفصل الثالث
- عبد القادر حسون
- شهاب الاعظمي
- الحاج هاشم الرجب
الحاج هاشم محمد الرجب
خبير المقـام العــراقي الاول في القرن العشرين
- شيء عن الرجب
- ظهور الرجب
- تسجيلاته المقامية الاولى
- بدايات الرجب
- مقام المنصوري
- تعابيره المقامية ومواهبه الاخرى
- تسجيلاته المقامية
- تقليدية الرجب
- بعض انجازات الرجب الفنية
تكملة / الحاج هاشم محمد الرجب ( 1920-2003)
ويغني الرجب مقام العريبون عجم بقصيدة معاصرة لعبد المجيد الملا هذا مطلعها.
(يامن هواه اعزه واذلـــــني كيف السبــيل الى وصـالك دلني)
ثم يعلن الرجب اعجابه بمقام البنجكاه , حيث يسجله خمس مرات بقصائد مختلفة وهي للبهاء زهير التي سبق ان غناها في مقام الطاهر
(عرف الحبيب مكانه فتدللا.../..........................)
والثاني بقصيدة لشهاب الدين التلعفري
(اغمد فصارح جفنك المسلول......./..........................)
والثالث يغنيه ب(لاتحفلن بقول اللائم اللامي...../..................)
اما المقام الرابع فيغنيه بهذه الكلمات
(قال لي صاحبي ليعلم ما بي ....../......................)
واخيرا مقام البنجكاه الخامس اذ يكررالقصيدة التي غناها في مقام المنصوري .......
(لعلك تصغي ســــــاعة واقول لقد غاب واش بيــــننا وعذول)
وفي مقام الرست الرئيسي , يغنيه الرجب ثلاث مرات بثلاث قصائد مختلفة الاول بقصيدة علي ابن الجهم ...
(عيون المها بين الرصافة والجـسـر / جلبن الهوى من حيث ادري ولا ادري)
والثاني بقصيدة ابي العلاء المعري.....
(اسيت على الذوائب ان علاها......../.............................)
اما الثالث فكان بقصيدة معاصرة لفخري محمود الاعظمي
(اشجاك خل بالفراق ام الدهر../........................)
وفي مقام الخنبات غنى الرحب قصيدة شهيرة لمهيار الديلمي..
(استنجد الصبر فيــكم وهو مغلوب / واسال النوم عنكـــم وهو مسلوب)
ونراه في مقام المثنوي يغني
(خذ من صفالك فالحياة غرور / ...................................)
وفي مقام الصبا يغني للمتنبي
(القلب اعلم ياعذول بدائه...../..................................)
وفي مقام الاوج يغني
(احدثه اذا غفل الرقيب /...................................)
وهناك تسجيلات اخرى عديدة بعضها اذاعية والاغلــبية تلفزيونية لم يتسن للمؤلف الحصول عليها ..
وهكذا نلاحظ ان الرجب يترك لنا تاريخا حافلا بالتسجيلات المقامية المهمة .. فرغم ان الحاج هاشم الرجب حاول الربط بين هذا النمط من اسلوب الغناء الكلاسيكي الذي تمتاز به اساليب غناء الطرق القديمة والطريقة الرشيدية طبعا , وبين التطلعات الجديدة لحقبة التحول وممثليها من المغنين الابداعيين الذين ظهروا فيها وعلى الاخص المطرب الكبير محمد القبانجي , وعلى هذا الاساس اعتبرت المقامات المسجلة بصوت الرجب ذات اهمية كبيرة من حيث كونها حلقة وصل مناسبة بين القديم وحركات الابداع الجديدة التي اتسمت بها حقبة التحول .. نحاول ان نبحث عن هذه التسجيلات لنستمع الى مقام العجم عشيران المغنى بهذه القصيدة لشاعرنا الكبير معروف عبدالغني الرصافي ..
رقت بوصف جمالك الاقـــوال / وراتك فافتتنت بك الـعذال
وهب الاله بك الجـــمال تجملا / حتى كانك للجمـال جمال
لو كنت في ايام يوــسف لم تكن / بجمال يوسف تـضرب الامثال
عجبا لطرفك وهو اضعف ما ارى / يرنو فترهـب فتكه الابطال
وعلاوة على ذلك , اكتسبت المقامات الرجبية هذه , وكذلك المقامات المسجله باصوات معاصريه اهميه اخرى وقوه فنيه ادائيه بواسطه تطورات حقبه التحول وكذلك حقبه التجربه من خلال التطور الصناعي المضطرد , اذ نلاحظ ان الرجب نفسه ومعاصـــريه من اتباع الطريقه الرشــيديه , احتفظوا باساليبهم الادائـية وتعابيرهم الرشيديه رغم انهم قد سجلوا مقاماتهم باصواتهم في حقبة التجربه منتصف القرن العشرين ...
رؤيته الفكرية في المضامين المقامية
فالرجب يرفض في مقاماته التساهل في تطبيق الاصول المقامية ويهاجم الانفلات من التقاليد الغنائيه المقاميه الكلاسيكيه , فهو يرسم في تعابير غنائه للمقامات لوحه تحذيريه بين الاصوليين من المغنين و المتطرفين من المغنين الابداعيين , ويحدِّق في ألمٍ وتعاطف في مصير هذا التراث الحضاري المخضرم الحاوي على الآلاف من الحقائق والتراكمات التاريخيه التي مر بها العراق ... كما حملت مقامات الحاج هاشم الرجب حلما وخيالا بتحولات وتغيرات حقبة التحول بمستقبل مشرق للمقام العراقي بغض النظر عن تطورات المغنين اتجاه سبل التغير والتحول .
ومقامات الرجب هي ايضا خير نموذج للمقامات التاريخيه والاجتماعيه , فإلى جانب الخط التاريخي الاصولي البارز في مقاماته , نجدها ايضا ذات اتجاهات اجتماعيه ونفسيه تعبر عن هموم ومعاناة الناس في ذلك الوقت , فالحاج الرجب الخبير المقامي الاول في القرن العشرين ، كان يسعى في تعابيره المقاميه وتركيزه على القواعد والاصول التقليديه للغناء المقامي , الى فهم الديناميك الادائي الذي يحرك هذا الغناء التراثي , الى الاشياء الخفيه غير المنظوره في عملية الغناء الموسيقي ...
ولنستمع الآن الى احد مقاماته وهو مقام التفــــليس المهمل من قبل الكثير من المغنين ..بقصيدة ابراهيم بن سهل ..
سل في الظلام اخاك البدر عن سهري / تدري النجوم كما تدري الورى خبري
ابيـت اهـتف بالشكوى واشرب من / دمعي و انـشق ريـا ذكـرك العطر
حتـى يخـيـل انـي شـارب ثمـل / بـيـن الرياض وبيـن الكاس والوتر
من لـي به اختـلـفت فـيه الملاحة اذ / أومـت الـى غيـره أيـماء مختصر
معـطـل فـالحـلـى مـنـه محـلاة / تـغـنى الدراري عن التقـليد بالدرر
نـجـده لـفـؤادي نـسـبـه عجـبا / كـلاهـما ابـدا يـدمي مـن النـظر
وخـالـه نقـطة مـن غنـج مقلـتـه / اتـى بـها الحـسن من أيـاتـه الكبر
حان من الـعـين نحـو الخـد زائره / وراقـها الورد فاستـغنت عن الصدر
بعض المحاسـن يهـوى بعضها طربا / تأمـلوا كيـف هـان الغنـج بالحـور
جرى القضـاء بـان اشـقى عليك وقد / أوتـيـت سـؤلك يا مـوسى على قدر
إن تعصنـي فـنفـار جـاء من رشـا / أو تغـنى فمـحاق جـاء مـن قمـر
قـدمت شـوقـا ولـكن ادعـى شططا / إنـي سقـيم ومـن لـلعـمى بالـعور
سـأقتـضي منـك حقي في القيامة إن / كانـت نجوم السـما تجـزي على البشر
أعيـا الوصـال و مـا أعيـا النسـيب / وقـد يغـرد الطيـر في غصن بلا ثمر
فكان الرجب يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الاجتماعيه أو الى المشاكل الجوهريه في سبيل تطور المجتمع , وعليه فإن الرجب يصوِّر مصير حياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الاجتمـاعية و النفسية و الاخلاقية و الدينية التي يطرحها في مقاماته و هي مركز اهتماماته و بحوثه .. و عليها يتحدد بنيان الغناء المقامي و تعابيره وخصائصه .. ولذا نجد ان المقامات المسجله بصوت الرجب تتميز بعنصر الاثاره و الديناميكيه المقبوله للاحداث التي تنبع من صراع الحياة و صراع الجمهور من المؤيدين لهذا المنحى و المعارضين له حيال الافكار و الجماليات الوارده في الطريقه الرشــيديه التي ترتبط حتى ذلك الحين بكل الاحداث و بكل خطوط المضامين التعبيريه في الغناء المقامي و التي تفسر قيم غناء كل المغنين الرشيديين .. و قد اكسبت ديناميكية ظروف الحياة وتوترها مقامات الرجب وزملائه الآخرين من الرشيديين طابعا دراميا .. و يدعم هذا الطابع من جهه اخرى بظروف العراق القاسيه وحالته المأساويـه و هو لم يزل يقبع تحت نير الأستعمار الأنكليزي ..
لاحظ ذلك عزيزي القارىء وانت تستمع الى الحاج هاشم الرجب و هو يغني مقام العريبون عجم بقصيدة لعبد المجيد الملا...

يامن هواه اعزه و أذلــــــني / كيف السبيل الى وصالك دلـــني
واصلتني حتى ملكت حـــشاشتي / و رجعت من بعد الوصال هجرتني
الهجر من بعد الوصال خطــــيئة / يا ليت قبل الوصل قد اعلمـــتني
انت الذي حلّفتــــني و حلفت لي / و حلفت انك لا تخون فخنتــــني
وحلفـــت انك لا تميل مع الهوى / أين اليمين وأين ما عاهدتنـــــي
فلأ قعدنّ على الطريق و أشـــتكي / و أقول مظلوم وأنت ظلمــــتني
ولأدعونّ عليك في غســـق الدجى / يبليك ربي مثلما ابتلــــــيتني


ان الحاج الرجب قد قدم مقامات حقيقيه كما أشار العديد من النقاد , مقامات جميله مسجلة بصوته , توحي لك و كأنك في حضرة قيم الغناء بأشكاله و مضامينه في القرن التاسع عشر, بصورة مهذبه نقيّه للطريقة القندرجية .. فغنائه المقام العراقي يتسم بالوضوح نسبيا ببناء لحني متماسك و جميل جدا و بدقه تصوير أفكار وجماليات و أحاسيس الطريقه الرشيديه .. ففي مقام الحجاز ديوان يتضح لنا هذا القول حين يغنيه الحاج الرجب بقصيده من اشهر القصائد الصوفيه لشهاب الدين السهروردي.
ابدا تحنُّ اليكــــــم الارواح / ووصالكم ريحــــانها والراح
وقلوبُ اهل ودادكم تشــــتاقكم / والى لذيذ لقائكــــــم ترتاح وارحمتا للعاشقين تكـــــلفوا / سرَّ المــــحبة والهوى فضاح
عودوا لنورالوصل من غسق الجفا / فالهجر ليل والوصـــال صباح
بالسرِّ ان باحوا تباح دمـــاؤهم / وكذا دماء العاشقــــين تباح
واذا همُ كتموا تحدث عنــــهم / عند الوشاة المدمعُ الســــفاح
وتمتعوا فالوصل طاب لقربــكم / راق الشراب وراقـــت الاقداح
ياصاح ليس على المحـب ملامة / ان لاح في افق الصــباح صباح
لاذنب للعشاق ان غلــب الهوى / كتمانهم فنــــما الغرام وباحوا
ركبوا على سفن الهوى ودموعهم / بحر وشـــــدة شوقهم ملاح
وبدت شواهد للســــقام عليهم / فيها لمشــــكل امرهم ايضاح
خفض الجناح لكم وليس علــيكم / للصب في خــفض الجناح جتاح
فإلى لقاكـــــم نفسه مرتاحة / وإلى رضاكم طــــرفه طماح
صافاهم فصفوا له فقلوبهــــم / في نورها المشكاة والمصـــباح
سمــحوا بانفسهم وما بخلوا بها / لما دروا ان الســــما ح رباح
ودعاهم داعي الحـــقائق دعوة / فغدوا بها مستانســــين وراحوا
والله ماطلبوا الوقوف ببــــابه / حتى دعوا واتـــــاهم المفت
لايطربون لغير ذكر حبيـــبهم / ابدا فكل زمانـــــــهم افراح
حضروا وقد غابت شـواهد ذاتهم / فتهتكوا لما راوه وصـــــاحوا
اغناهم عنهم وقد كشـــف لهم / حجــــب البقا فتلاشت الارواح
فتشبهوا ان لم تكونوا مثـــلهم / ان التشبــــــه بالكرام فلاح
وكما اشرنا سابقا , في غير هذا الكتاب , أن الحاج هاشم الرجب هو احد رواد الطريقه الرشيديه , فغناؤه للمقامات يتسم بكل مبادئها و أفكارها , و بدقتها في تصوير المشاعر و الاحاسيس و انعكاسات تعابير البيئه , و على هذا الأ ساس تعد الطريقه الرشيديه بكل فحواها, آخر الطرق و الاساليب الغنائيه المقاميه الموصوفه بالمحلية و كل ما تعكسه البيئه و المحيـــط
والثقافه و التاريخ بصوره عامه , فهي تعابير عراقيه بحته تصل حد النقاء التام من هذه الناحيه ,
و لنستمع ألآن الى احد المقامات التي يتجسد فيها النقاء التعبيري العراقي الى درجه عاليه من الصدق و قد اخترت لك عزيزي القارىء مقام الرست الذي يعد اكبر المقامقات العراقيه في شكله و مضمونه و في نواحيه الفنيه حيث غناه الرجب بالقصيده الرصافية لعلي ابن الجهم الشهيره ...
عيون المها بين الرصافه و الجسر / جلبن الهوى من حيث ادري و لا ادري
اعدن لي الشوق القديم ولم اكن / سلوت و لكن زدن جمرا على جـمر
سلمن و اسلمن القلوب كأنــما / تشق باطراف الردينـيه السحر
خليلي ما احلى الهــــوى و أمره / و اعرفني بالحلو منه و بالـمر
بما بيننا من حرمه هل علمتـما / ارق من الشكوى و اقسى من الهجر
و افضح من عين المحب لسره / و لا سيما و ان اطلعت غيره تجري
و لم أنسى للأشياء و لم أنسى قولها / لجارتها ما أوسع الحب بالحـسر
فقالت لها الاخرى فما لصديقـنا / معنى و هل في قـتله ,لك من عذر
تقليدية الرجب
والحاج الرجب , و هو الخبير الأول في المقام العراقي خلال القرن العشرين , يستند في تعابير غنائه الى الاقتراب من جعل المقام أكثر جمالا و أكثر كمالا , فهو يستند أيضا الى التقاليد , و هي تقاليد عريقه بلاريب , فهو يحاول ان يميز نفسه بين زملائه الرشيديين بل يحاول ان يبزهم في منافسة شريفه, و بالاضافه الى ما ذكرنا فقد جعل الرجب من مقاماته الغنائيه ان تتصف بالعديد من الخصائص الفنيه الاخرى التي ارتبطت بمهمه تجسيد أفكاره وأفكار الطريقه الرشيديه برمتها ...
يبدو ان مقام السيكاه , و هو من المقامات الرئيسه و الكبيره في شكلها الفني , بل هو أصعب المقامات العراقيه من حيث الجهد المبذول من قبل المغني عند غنائه له , لتعدد مواده ألاوليه التي تعبر عن شكله المتخم بالميانات و الصيحات العاليه , اضافه الى ثقله التعبيري الرصين , و هذا المقام ايضا هو احد المقامات الثلاثه (النوى ,السيكاه , المنصوري ) التي يرافق موسيقاها ايقاع السماح 36\4 , فهو مقام يحتاج الى مغن متمرس ذا مستوى عال من الفن و التجربه الغنائيه , بل من التجربه الحياتيه ايضا ... وعلى هذا الاساس كما يبدو , فقد انتدب الحاج هاشم الرجب عند غنائه لهذا المقام , قصيده هي الاخرى من الوزن الثقيل في تعابيرها و معناها و حبكتها الادبيه الشعريه وهي احدى القصائد الصوفيه الشهيره لعمر ابن الفارض...
زدني بفرط الحب فيك تحيـــرا / وارحم حشا بلظى هواك تــسعرا
و اذا سألتك ان أراك حــــقيقه / فإمنن و لا يجعل جوابي , لن ترى
يا قلب انت وعدتني في حبـــهم / صبرا فحاذر ان تضيق و تضـجرا
ان الغرام هو الحياة فمــــت به / صبا فحـــقك ان تموت و تعذرا
قل للذين تقدموا قبلــــي و من / بعدي و من اضـحى لاشجاني يرى
عني خذوا و بي اقتــــدوا ولي / اسمعواو تحدثوا بصبابتي بين الورى
و لقد خلوت من الحبـــيب و بيننا / سر ارق من النســــيم اذا سرى
و اباح طرفي نظرة أملتـــــها / فغدوت مــــعروفا و كنت منكرا
فدهشت بين جمـــــاله و جلاله / و غدا لســـان الحال عنى مخبرا
فادر لحاظك في محاســـن وجهه / تلقى جميع الحــــسن فيه مصورا
لو ان كل الحـــسن يكمل صوره / ورأه كان مهللا و مكـــــــبرا
بعض انجازات الرجب الفنية
و من انجازات الرجب الفنيه التي انجزها خلال سيرته المقاميه , عندما مارس خبرته المقاميه التي اتصف بها و غلبت على كنيته الفنيه - خبير المقام العراقي - فقد استلم مهمه رئاسه اللجنه الفنيه لاختيار المغنين المقاميين المتقدمين الى الاذاعه العراقيه لقبولهم كمغنين معتمدين فيها لتلبيه طموحاتهم في تسجيل المقامات العراقيه بأصواتهم .. و ذلك بعد وفاة رئيس اللجنه السابق المغني المخضرم جميل البغدادي عام 1953 , ومن هذا التاريخ دخل الرجب في حضيره الوسط المقامي بكل قوه وأثار الانتباه اليه اكثر من أي وقت مضى فنجح في مهمته و تفرد فيها ... و من المغنين الذين كان له الرأي في قبولهم كمغنين عرفوا بعد ئذ , حمزه السعداوي و عبد الجبار العباسي و عبد الرحمن العزاوي و عبد المجيد العاني و غيرهم الكثير.
لنتوقف قليلاونستمع الى مقام الطاهر وقصيدة البهاء زهير ..
عرف الحبيب مـــــكانه فتدللا / وقنعت منه بموعد فــــتــعللا
واتى الرسول ولم اجد فـي وجهه / بشرا كما قد كنت اعـــــهد اولا
فقطعت يومي كله متفـــــكرا / وسهرت ليلي كله متملــــــملا
واخذت احســب كل شىء لم اجد / متحركا في فكرتي متــــــخيلا
فلعل طــــــيفا زار منه فرده / سهري فعاد بغــــــيظه فتقولا
وعسى نســــيتم بت اكتم سرنا / عنه فراح يقـــــول عني قد سلا
ولقد خشــــيت بان يكون آماله / غيري وطبع الــــغصن ان يتميلا
واظنه طلب الــــجديد وطالما / عتق القمـــيص على امرىء فتبدلا
ابدا يرى بعدي واطلــــب قربه / ولو اني جار له لتـــــــحولا
وعلقته كالغصن اسمر اهيــــفا / وعشـــــقته كالظبي احور اكحلا
فضح الغزالة والغــزال فتلك في / وسط الســـماء وذاك في وسط الفلا
عجبا لقلــــب ما خلا من لوعة / ابدا يحــــــن الى زمان قد خلا
ورسوم جســم فيه يحرقه الجوى / لولم تدركه الدمــــــوع لاشعلا
وهوى حفظت حديـــثه وكتمته / فوجدت دمعــــي قد رواه مسلسلا
برز الحاج هاشم الرجب خلال سيرته الفنية متميزا بعدة خصال كما مر بنا , فهو المغني وهو العازف وهوالمؤلف وهوالخبير المقامي , ويمكننا ان نضيف اشياء اخرى الى ذلك عندما قام باعداد برامج اذاعية وتلفزيونية كثيرة في شأن المقام العراقي , وكان اكثرها شهرة هو برنامج (سهرة مع المقام العراقي ) التلفزيوني الذي استمر حوالي خمس سنوات متتالية اسبوعيا امتدت كل حلقة فيه اكثر من ساعة تلفزيونية .. ما بين عامي( 1984و1988 ) ظهر من خلاله الكثير من المغنين المقاميين الجدد تحت اشراف الرجب امثال سامي عبداللطيف وخالد السامرائي وحامد السعدي ومحمود السماك وابراهيم العزاوي وغيرهم الكثير , وبذلك يكون الرجب قد انشأ جيلا جديدا من المغنين المقاميين من الذين ظهروا لاول مرة امام الجمهور من خلال هذا البرنامج رغم ان بعضهم كان لديه بعض التجارب البسيطة , وبهذا يكون الرجب قد انشأ فعلا , جيلا بل اجيالا من مغني المقام العراقي وهو ديدنه منذ بدايته كفنان مقامي والى حد الان ..
وعلى الرغم من ان بعض زملائه الرشيديين لم يكن لهم دورا فعالا في خدمة الطريقة الرشيدية , لأنه لم يكن بامكانهم تسجيل المقامات باصواتهم إلا مرة واحدة او اكثر بقليل لاسباب اجتماعية او ظروف اخرى امثال سعيد دخان وابنه سليم وكذلك عبد الخالق صالح رحيم وغيرهم . إلا أن الرجب غامر بجراة وقدم نفسه الى وسائل الاعلام ..
ان موضوع الجماهير المحبة للمقام العراقي وسماعه بشغف يتجلَّى بالمقامات الناجحة بكثير من المقاييس التاريخية والبيئية والفنية والمسجلة باصوات كبار المغنين المقاميين , ومن خلال علاقة هؤلاء الفنانين بالجماهير , اعطى كل واحد من هؤلاء المغنين صفات الفنان الحقيقي وملامحه .. فمع كل صورة من صور التعبير التي يوردها المغني المقامي عند غنائه للمقام تبرز العلاقة الوطيدة والاخلاقية بين الفنان وجماهيره المحبة , وتنكشف كل صور المبادىء الخلقية في صورة اوضح.. ورغم حب الفنان للجماهير وحب الجماهير للفنان وتعاطف كل منهما للآخر , إلا أنه لم يسع أي منهما الى تزيين صورة الآخر او تزييفها .. لأن علاقتهما علاقة حقيقية مبنية على واقع النجاح الفني والغنائي ابتداءا من الفنان .. وبذلك يكون الحاج هاشم الرجب وامثاله بالمستوى الفني , هم الذين يجسِّدون صور العلاقة الفنية بين الفنان والجماهير ..
واخيرا ونحن نختتم حديثنا عن خبير المقام العراقي الاول في القرن العشرين , الحاج هاشم محمد الرجب , نستمع الى مقام الخنبات المؤدى بصوته بهذه القصيدة
استنجد الصبر فيـكم وهو مغلوب / وأسال النوم عنكم وهو مسـلوب
وابتغي عندكم قـبا سمحت به / وكيف يرجع شىء وهو موهـــوب
ما كنت اعرف ما مقدار وصلكم / حتى هجرتم وبعـض الهجر تاديب
استودع الله في ابياتكم قـمرا / تراه بالـــشوق عيني وهو محجوب
ارضى واسخط او ارضى تـلونه / وكل ما يفعل المحــبوب محبوب
اما وواشيه مردود بلا ظــعن / وهل يجـاب وبذل النفس مطلوب
او كان ينصف ما قال انتـظرصلة / تأتي غدا وانـتظار الشىء تعذيب
اوكان في الحب اسعاد ومنعطف / منه كما كان تعنيـــف وتانيب
تابى البياض وتابى ان اسـوده / بصيغة وكلا اللونين غربـيب
ليت الهوى صان قلبي عن مطامعه / فلم يكن قط يستسدنيه مرغوب
******************************
في صيف عام 1961 اقام الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وعائلته في مغتربه جيكوسلوفاكيا مضطراً , حيث كان يمرُّ بأزمة نفسية , ونظم قصيدته الشهيرة (يادجلة الخير) في شتاء عام 1962 وذاع صيتها في الآفاق ..
يادجلة الخير
حيّيتُ سفحَكِ عن بُعـدٍ فحيـِّيني يا دجلةَ الخيرِ يا امَّ البسـاتينِ
حييَّتُ سفحكِ ظمآنا ألــوذُ به لـوذَ الحمائمِ بين الماء والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً افـارقُهُ على الكـراهةِ بين الحينِ ولبحين
إنِّي وردتُ عيونَ الماء صافيةً نبْعا فنبْعا فما كــانت لترْويني
وانتَ يا قاربا تلْوي الرياحُ به لَيَّ النســائمِ اطرافَ الافانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الـرخص لو كفني يُحاكُ منه غداةَ البين يطـويني
يا دجلةَ الخيرِ قد هانت مطامحُنا حتى لأدنى طماحٍ غيرُ مضمون
اتظْمنينَ مَقيلاً لي سواسـيةً بين الحشائشِ او بين الرياحين؟
خلْواً من الهمِّ إلا همَّ خـافقةٍ بين الجــوانحِ اعنيها وتعنيني
تهُزُّني فأُجاريها فتدفعُني كالريح تُعجِل في دفع الطــواحين
يا دجلةَ الخيرِ يا اطيافَ ساحرةٍ يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ يا إعصارَ زوبعةٍ / يا خنجرَ الغدرِ , يا اغصانَ زيتون
يا أُم بغداد من ظرفٍ ومن غـنَجٍ مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا امَّ تلك التي من (ألفِ ليلتِها) للآنَ يعبِق عِطرٌ في التـلاحين
يا مُستَجم (النُّواسيِّ) الذي لبِستْ به الحضارةُ ثوبا وشيَ(هارون)
الغاسلِ الهمَّ في ثغرٍ وفي حَـببٍ والمُلبسِ العقلَ ازياءَ المجانين
والساحبِ يأباه الزِّقَّ ويُكـرِهُه والمنفِقِ اليومَ يُفدى بالثلاثين
والراهنِ السابِريَّ الخزَّفي قدحٍ والملهِمِ الفنَّ من لهوٍ افـانين
والمُسمعِ الدهرَ والدنيا وساكنَها قرْعَ النواقيسِ في عيد الشعانين
يا دجلةَ الخيرِ ما يُغليكِ من حنَقٍ يُغلي فؤادي وما يُشجيكِ يشجيني
ما ان تزالَ سياطُ البغي ناقعةً في مائك الطُهرِ بين الحين والحين
ووالغاتٌ خيولُ البغي مُصبِحةً على القُرى آمنـاتٍ والدهاقين
يا دجلة الخير ادري بالذي طفحت به مجاريك من فوقٍ الى دون
ادري على ايِّ قيثارٍ قد انفجرت اتغامُكِ السُمر عن أنَّات محزون
ادري بأنكِ من ألفٍ مضتْ هدَرا للآن تَهْزينَ من حكم السلاطين
تهزين ان لم تزلْ في الشرق شاردةً / من النواويس ارواحُ الفراعين
تهزين من خصْبِ جنَّات منشَّرةٍ / على الضفاف ومن بؤس الملايين
تهزين من عُتقاءٍ يوم ملحمةٍ اضفوا دروعَ مطاعيمٍ مطاعين
الضارعين لأقدارٍ تحِلُّ بهم كما تلوَّى ببطن الحوتِ ذو النون
يرون سودَ الرزايا في حقيقتها ويفـزعون الى حدْسٍ وتخمين
والخـائفينَ اجتداعَ الفقرِ ما لهمُ والمُفضلينَ عليه جدْعَ عِرنين
واللائذينَ بدعوى الصبر مَجْبنَةً مُستعْصِمينَ بحبلٍ منه موهون
والصبرُ ما انفكَّ مرداةً لمحترِبٍ ومستميتٍ ومنجاةٌ لمِسكين
يا دجلة الخير والدنيا مُفارَقةٌ وايُّ شرٍّ بخيرٍ غـيرُ مقرون
وايُّ خيرٍ بلا شرٍّ يلقِّحُهُ طهرُ الملائك من رجس الشياطين
يا دجلة الخير كم من كنز موهـبةٍ / لديك في (القُمقُم)المسحورِ مخزون
لعلَّ تلك العفاريتَ التي احتُجِزتْ مُحمَّلاتٌ على اكتاف (دُلفين)
لعلَّ يوما عصوفا جارفا عرِما آتٍ فتُرضيك عقباه وترضيني
يا دجلة الخير ان الشعرَ هدْهدةٌ للسمع ما بين ترخيمٍ وتنوين
عفوا يردِّد في رَفهٍ وفي عـلَلٍ لحن الحياة رخيِّا غيرَ مَلحون
يا دجلة الخير كان الشعرُ مُذْ رسمتْ / كف الطبيعةِ لوحا (سِفرَ تكوين)
(مزمارُ داودَ) اقوى من نبوَّتهِ فحوىً وابلغُ منها في التضامين
يادجلة الخير لم نَصحب لمـسكنةٍ / لكن لنلمِسُ اوجاعَ المساكين
هذي الخلائقُ اسفارٌ مجسَّدةٌ المُلهمون عليها كالعناوين
اذا دجا الخطبُ شعَّت في ضمائرهم / اضواء حرفٍ بليل البـؤس مرهون
دينٌ لِزامٌ ومحسودٌ بنعمته / من راح منهم خليصا غيرَ مديون
يا دجلة الخير ما ابقيتُ جازيةً لم اقضِ عنديَ منها دَيْنَ مديون
ما كنتُ في مشهدٍ يَعنيك مُتَّهما خبَّا وما كنتُ في غيبٍ بظِنِّين
وكان جُرحُكِ إلهـامي مُشاركةً وكان يأخذُ من جُرحي ويُعطيني
وكان ساحُكِ من ساحي اذا نزلت به الشدائـد اقريه ويَقريني
حتى الضفادعُ في سفحيكِ سارية عاطيتُها فاتناتٍ حبَّ مفتون
غازلتُهنَّ خليعاتٍ وان لبست من الطحالب مزهوَّ الفساتين
يا دجلة الخير هلاَّ بعضُ عارفَةٍ تُسدي إليَّ على بُعدٍ فتَجزيني
يا دجلة الخير مَنِّيني بعاطفةٍ وألهمينيَ سُلوانا يُسلِّيني
يا دجلة الخير من كل الأُلى خبَروا / بلوايَ لم ألفِ حتى من يواسيني
يا دجلة الخير خلِّي الموجَ مُرتفعا طيفا يمرُّ وإن بعضَ الاحايين
وحمِّليه بحيثُ الثلجُ يغمرني / دفءَ(الكـوانين) او عطر (التشارين)
يا دجلة الخير يا من ظلَّ طائفُها عن كل ما جَلَتِ الاحلام يُلهيني
لو تعلمين باطيافي ووحشتِها ودِدتِ مثلي لو انَّ النومَ يجفوني
اجسُ يقظانَ اطرافي اعالجها مما تحرَّقت في نومي بآتوني
واستريح الى كوبٍ يُطمئننُي ان لبيس ما فيه من ماءٍ بغِسلين