في ذكرى ممتاز مفتي
قبل رحيله بعدة أيام قال لي " ممتاز مفتي " :
 اسمع يا عكسي ، ما قيمة موروثنا الشعبي إذا لم نستفد منه ! عندما أموت أحضر اثنين من عازفي المزمار ومعهما طبال ، وأقم فرحاً أمام البيت !!. عدني أن تفعل ذلك يا عكسي ، عدني أن تفعل !.
ووعدت أبي ، وبالطبع لم أستطع الوفاء بالوعد .
لكني اليوم أريد أن أقول أنه لا ينبغي أن نقيم مأتماً " لممتاز مفتي " ، وإنما ينبغي أن نحتفل به ، ولهذا دعونا نحتفل بـ " ممتاز مفتي " ، فقد كان هدية من الله لنا .
كنت أعتقد أنني أعرف " ممتاز مفتي " بشكل شخصي أكثر من رفاقه وأصدقائه جميعاً ، ثم إن أكثر هؤلاء من أصدقائي أنا أيضاً ، لكن هذا الاعتقاد تحطم وتناثر بوفاة ممتاز مفتي ، فلقد شارك في جنازته مئات من البشر ، لا أدري من أين جاءوا ، وفيهم كبار السن الذين كانوا يبكون بحرقة ، يبكونه قائلين : وا أسفاه ، لقد أصبحنا من بعده كاليتامى !!!....
كنت أنظر إلى هؤلاء في حيرة ودهشة ؛ من هؤلاء !. ومن أين جاءوا !. وكيف أصبحوا بوفاة " ممتاز مفتي " كاليتامى !. وأخذت أفكر في الأمر ، فقد كنت أظن أن الناس سيأتون إليً معزًين ، يواسونني ، يعانقونني ، يشاطرونني أحزاني ، ويخففونها عني ، فإذا الذي يحدث كان على العكس من كل هذا ، أنا الذي كنت أواسيهم ، وأخفف عنهم أحزانهم ، بل والأعجب من كل هذا أنه كان على رأس هؤلاء أولئك المشايخ والوعاظ وخطباء المساجد والدعاة الذين أصدروا العديد من الفتاوى ضد " ممتاز مفتي " عندما أصدر كتابه " لبيك " (1) ، وهم الذين قالوا قبلاً : من ذلك الذي يقول عن الكعبة " الحجرة السوداء " ، كيف يجرؤ على السخرية من الحج فيقول " إن صاحب تلك الحجـرة السـوداء يغمزني بعينيـه " !!. واليـوم يطلق واحد من هؤلاء الرجال على قلم " ممتاز مفتي " لقب " سيف الإسلام " !!. كنت أستمع لما يقولون في دهشة وحيرة .
في ذلك اليوم لم يتخلف عن الجنازة حتى " النشالون " ، فشاركت مجموعة منهم فيها ، وحرصت على " تقليب " المعزّين ، واستولت على الكثير من جيوبهم . أحد الذين طالهم " مشرط " النشالين قال غاضباً : ما هذه المهزلة !. لم يتركنا " ممتاز مفتي " في حالنا حتى بعد وفاته !. وكان " أحمد بشير " يقف بالقرب منه ، فسمع ما قال ، فرد عليه قائلاً : كلا يا سيدي ، لقد أعطى " ممتاز مفتى " حتى رحيله كل شخص شيئاً ، فلا تتحسس جيبك ، ولكن تحسس قلبك ، وستعرف عندئذ أنك مخطئ فيما قلت .
نعم ، لقد أعطى " ممتاز مفتي " كل شخص شيئاً ما ، حتى " النشالين " أيضاً .
كان " ممتاز مفتي "منذ صغره يكره جوّ البيت الذي عاش فيه ، وذلك حين تزوج والده " مفتي محمد حسين " للمرة الثانية ، فأصبحت والدة " ممتاز مفتي " السيدة " صغرا بي بي " في البيت بمثابة الخادمة ، وأثمر ذلك في قلب " ممتاز مفتي " غضباً شديداً على أبيه ، فترك البيت ورحل ، ومرت سنون بعدها سنـون ، وبلغ السيد " محمد حسين " والد " ممتاز مفتي " من العمر تسعين عاماً ، لكن " ممتاز مفتي " لم يعد إلى البيت ، ولم يلق والده ثانية .
كان هذا هو طبع " ممتاز مفتي " ، إن غضب من أحد هجره تماماً ، كان غضوباً للغاية ، يتسامح في أخطاء كبرى ، ويغضب لأبسط الأشياء !. رسب كثيراً في امتحان اللغة الإنجليزية في مرحلة التعليم المتوسط ومرحلة الليسانس ، كان يقول : لم يؤثر التعليم فيّ بشيء ، ومع ذلك عين عام 1935م مدرساً للغة الإنجليزية ، وأخذ يدرّس الإنجليزية لطلاب المدارس . كان العصر عصر تراجع وانحسار ، وكان مرتبه أربعين روبيــة ، وكان والـد " ممتاز مفتي " يعمل مفتشـاً في التعليـم . ذات مرة قـال رجـل لـ " ممتاز مفتي " على سبيل المداعبـة إن له " واسطـــة " تسانده (2) . في ذلك اليــوم قدم " ممتاز مفتي " استقالته من العمل في المدرسة ، وترك الخدمة ، بل وترك المدينة كلها .
وهكذا كان " ممتاز مفتي " متمرداً ، ثائراً ، ترك والده وأهل بيته وأقاربه وأصدقاءه ومعارفه ... ترك الجميع ، ولم يكن أحد من أقاربه يجرؤ على لقائه ، كان يحبني بقدر ما كان يكره والده ، كان يقول :
 اسمع يا عكسي ، لا عمّ لك ولا عمة ، ولا خال ولا خالة ، ليس لك إلا أنا فقط ، أنا أبوك وصديقك ، وكل أصدقائي أصدقاؤك .
كانت كراهيته لأبيه قد طالت المجتمع بأسره وأحاطت به .
في هذه الفترة أخرج لنا " ممتاز مفتي " بعض إبداعاته الأدبية مثل " كهما كهمي " ، و " جب " ، و " اسمرائين " . والحقيقة أن " ممتاز مفتي " كان ثورة عارمة ضد المجتمع ، ضد قيود العادات والتقاليد ، وضد قيود قواعـد اللغة ، لم يكن متأثراً بـ " فرويد " في نظرية الجنس فقط ، وإنما كان متأثراً به أيضاً في نظرية كراهية الأب ، والتي تعتبر ركناً ركيناً في فلسفة " فرويد " .
وبالرغم من أن " ممتاز مفتي " كان غضوباً ، وثائراً متمرداً ، إلا أنه كان خجولاً وحيياً ، لديه قدر من الخوف ، والشرود ، وإحساس بالنقص شديد . لم يكن يقابل مسئولاً كبيراً أبداً ، وتم إيقافه عن عمله لمدة سنة كاملة لتعديه على أحد رؤسائه بالضرب ، وكان إذا احتاج لدخول الحمام بحث عن حمامات الموظفين العاديين ، وتجنب حمامات كبار المسئـولين ، حتى وإن اضطر لقضاء حاجته في الحقول وبين الزروع .
أما التغيير الذي حدث لـ " ممتاز مفتي " فكان في حوالي عام 1950م ، وكان إذ ذاك قد أصبح قصاصاً معروفاً ، ويعمل في إذاعة باكستان معداً للبرامج ، وضمت قائمة أصدقائه من معاصريه " مختار صديقي " ، و " ومسعود قريشي " ، و " إشفاق أحمد " ، و " يوسف ظفر " ، و " باقي صديقي " ، و " محمد حسين " .
ولم تتغير طبيعة " ممتاز مفتي " ، ظل على مزاجه الغضوب الحاد ، كما بقي التناقض والحساسية في فطرته دون تغيير ، ولكن الذي تغير هو تفكيره ، ولا أدري هل كان هذا نتيجة دعاء أحد الأولياء ، أم محبة أحد الصالحين ، أم تأثير " قدرت الله شهاب " ، هذا ما لا أعرفه ، أما الذي أعرفه على وجه اليقين فهو أنه قد تغير .
لقد تبدلت وجهة " ممتاز مفتي " في بحثه عن الذات ، لم تتغير صفاته الشخصية ، لكن تطوره الفكري أخذ منحنى جديداً ، جديداً تماماً .
كان " ممتاز مفتي " يظل يبحث عن مزارات وأضرحة الأولياء والخانقاهات والزوايا ، ويغوص في أعماق الاعتقاد ، لكن علاقتـه في هذه المرحلة مع " قدرت الله شهاب " لم تنقطع أبداً ، سواء في شكل لقاءات ، أو مكاتبات ، وتدريجياً اصطبغت حدة " ممتاز مفتي " بصبغة " الدروشة " ، وتحول " ممتاز مفتي " إلى " درويش " . والحمد لله أنه لم يتحول إلى مجذوب كامل ، إنما أصبح كذلك بنسبة ما ، تماماً مثلما تلمس في النارنج بعضاً من طعم البرتقال ! . وهكذا كان هناك مجذوب داخل " ممتاز مفتي " . في هـذه الفـتـرة من حيــاتـه كتب " لبيـك " و " الكهـ نكري " ، ولهذا فإن إطـلاق مسمى " الحجرة السوداء " على الكعبة المشرفة ، ومسمى " صاحب الحجرة السوداء " على الله تعالى يمكن أن يصدر عن " درويش مجذوب " ، وليس عن أديب في كامل وعيه ، ولا يمكن لأحد أن يقول مثل هذا الكلام الخارج وينجو من عواقبه ، إلا إن كان درويشاً مجذوبـاً ، فلا أنا ولا أنت نستطيـع أن نكتب مثل هذا الكلام ونحن في كامل قوانا العقلية .
وذات يوم رحل " قدرت الله شهاب " عن الحياة ، وبقيت أحلام " ممتاز مفتي " ناقصة ، وتمزق ما نسجـه " ممتـاز مفتي " من الاعتقاد حول شخصية " قدرت الله شهاب " ، وفقد الموقع الذي لا محل له الاتجاه ، وانطفأ برحيل " قدرت الله شهاب " ذلك الشعاع الساطع من الأمل في تقدم باكستان ، والذي كان " ممتاز مفتي " يؤمن بأنه سيصير حقيقة في حياته . لقد فقد " ممتاز مفتي " مداره وفلكه برحيل " شهاب " .
وبعد وفاة " شهاب " بعدة سنوات ترك " عكسي " الابن الحبيب إلى قلب والده " ممتاز مفتي " بيت والده ورحل ، وتزوج " عكسي " للمرة الثانية .
وكان أكثر شيء يكرهه " مفتي " هو الزواج الثاني ، ولهذا لم يسامح والده أبداً عندما ارتكبه ، أما الابن فقد ترك البيت بمجرد أن تزوج ثانية ، وبقي " ممتاز مفتي " وحيداً تماماً ، وفقدت كراهيته هذه معناها ، وصارت محبته واعتقاده أمواجاً لا ساحل لهــا ولا شــاطئ ، وبقي يجـدف وحيـداً دون مساعـدة من أحـد بقاربـه الصغير ، مثل " الرجل العجوز والبحر " (3) ، ولم تفقد عيون " ممتاز مفتي " بريقها حتى اللحظات الأخيـرة من حيــاته ، كما لم يفقد قلمه حدته التي تشبه حدة السيف . كان كشخصية " إيلي : علي " في كتابه " علي بور كا ايلي "(4) ، فلم يكن من طبعه قبول الهزيمة .
لكن " مفتي " كان قد خفت ، وتبدلت " دروشته " إلى " زهد " ، ولذا كان يظل مستلق على فراش بال ، أو على رداء سندي ملون ، يخط بيده شيئاً تارة ، ويفكر في شيء تارة أخرى .
أما الناس فكانوا مشدودين إليه دائماً ، إذ أن خدمة الناس كانت من أهم خصاله ، وبالرغم من كل هذا فإن بحثه عن " الذات " و " الحقيقة " لم يصل إلى نهاية ، ومع أنه كان قد أنهك كثيراً ، لكن أمانيه كانت شابة ، كان في بحثه بريق ، ولم يتوقف عن السفر لحظة ، فقد داوم عليه وواصله :
 ازرع أمانيك اللامحدودة في القلم …
 لكنه في النهاية سيقصف ، سواء في سن التسعين أو التسعمائة …
 ورحل " ممتاز مفتي " …
 وبكت الحكاية التي امتدت من الأزل إلى الأبد …
إن حياة " ممتاز مفتي " في الحقيقة بمثابة قصة طويلة من البحث ، وآخر ما كتب كان كتابه " البحث " .
لقـد دون " مفتي " كل مــا مـرّ به من عام 1905م حتى عام 1945م في شخصية " إيلي " ، وهذا الجزء الأول هــو قصــة " ممتاز مفتي " في عالم الشهادة ، إذ أن رواية " علي بور كا إيلي " بمثابة رواية بحث عن الذات . أما ما مرّ به " ممتاز مفتي " من عام 1950م وحتى عام 1990م من أحداث فقد سماه " ألكهـ نكري : مدينة الأولياء " ، وهذا الجزء هو رحلة " ممتاز مفتي " في عالم الغيب ، إذ أن " لبيك " و " ألكهـ نكري " ما هما إلا قصة البحث عن الله ، وهذان كانا محور بحث " ممتاز مفتي " ، وتلك الأحداث التي عاشها " ممتاز مفتي " هي التي جعلت من " مفتي " " ممتازاً " ، ولا شك أن هناك تناقضاً كبيراً بين الكتابين . يقول " ممتاز مفتي " نفسه :
" إن ظلام " إيلي " في " علي بور " سيمنح الشعاع القادم مزيداً من اللمعان والبريق " .
وبقدر الاختلاف بين ظلام " إيلي " وأحلام " ألكهـ نكري " البراقة ، إلا أنهما أهم حلقات تطور شخصية " ممتاز مفتي " ، إذ أنهما وجهان لعملة واحدة .
وخلال هذا التحول كان هناك عدة شخصيات محورية في حياة " ممتاز مفتي " ، منها المشايخ وأولياء الله ، والعاملون بالتنجيم ، و " قدرت الله شهاب " ، لكنها لم تكن غاية سفره ومنتهاه ، إذ أن سفـر " ممتاز مفتي " لا ينتهي ، وإنما هو سفر متواصل .
كتبت إليّ فتاة من مدينة " فيصل آباد " بعد وفاة " ممتاز مفتي " تقول : لا يمكن أن يموت " ممتاز مفتي " ، فهو لا يزال حيّاً في كتاباته ، وقد كان رائعاً بكل إخلاص عواطفه ، بكل جمال اعتقاده ، وكذلك كان بحثه المتواصل ، ترى هل وجد الله أم لا ، هذا ما يعرفه هو ، أو أنت ، ولكني كنت أتمنى أن يكون الله عندي فأعطه إياه " .
منذ سنوات عديدة كنت أعمل أستاذاً بكلية " جاردن " (5) ، وذات يوم زارنا بعض طلاب الكلية ، فقالوا لـ " ممتاز مفتي " :
 أنت إذاً والد " عكسي مفتي " .
وما أن سمع والدي هذه الجملة حتى راح في تفكير عميق . وفي مساء ذلك اليوم قال لأحد أصدقائه :
 يا أخي ، حدث اليوم أمر عجيب ، فلم يكن يخطر لي على بال أنه سيأتي يوم يعرف الناس فيه " ممتاز مفتي " بابنه !!.
ووجدت ما قاله أبي فرصة ، فقلت :
 يا والدي ، هل تأكدت من هذا الآن !!. هل عرفت كم هو أمر صعب للغاية !!. انظر إذاً إلى همتي وصبري ، فأنا أعرف بك منذ ثمان وثلاثين سنة مضت وحتى الآن ، أنا أستاذ بالكلية ، ورئيس قسم علم النفس بها ، لي أنشطة متنوعة ، ومع ذلك يقول الناس إذا ما رأوني : هذا هو ابن " ممتاز مفتي " . يا أبت ، لقد قضيت الثمانية والثلاثين عاماً الماضية على نهج حياتك أنت ، والآن أريد أن أعيش على نهجي أنا ، فاسمح لي بذلك .
فكر " ممتاز مفتي " قليلاً ، ثم قال :
 اذهب يا " عكسي " ، لك ما طلبت .
وافترق طريقي عن طريق " ممتاز مفتي " منذ ذلك اليوم ، واليوم أصبح عمري اثنين وخمسين عاماً ، ومضت سنوات طوال ، لكني لا أزال إلى اليوم أفخر بأنني ابن " ممتاز مفتي " ، فـ " ممتاز مفتي " هو تشخصي ، هو كل ما أملك ، ولا شيء عندي أعظم من هذا .

عكسي مفتي

31 أكتوبر 1995م

إسلام آباد
هوامش

1 - " لبيك " أحد كتب ممتاز مفتي ومن أشهرها ، دون فيه رحلته إلى الحج التي قام بها عام 1968م ، وحمل فيها على بعض رجال الدين وانتقد أوضاعهم .
2 - يقصد أن أباه ساعده في تعيينه كمدرس للغة الإنجليزية باعتبار أنه كان مفتشاً في التعليم .
3 - الإشارة إلى رواية " العجوز والبحر : The old man and see" لأرنست همنجواي .
4 - علي هو الشخصية الرئيسية في رواية " علي بور كا ايلي : علي بن علي بور " ، و " إيلي " هي نفسها " علي " ، ولكنه كتبها كما ينطقها العامة في بعض الأحيان محرفة هكذا " إيلي " .
5 - " جاردن كالج " بمدينة " راولبندي " بباكستان .