الجزء الأول من الباب الرابع
الحكومة العظمى :
لي صديق يدعى " إمتياز بخاري " ، له وجه عريض يشبه الاستراحة المغولية (1) ، عريض للغاية ، وبه محاريب كثيرة ، ووجود الأبواب على وجوه الأشخاص أمر عام ومنتشر ، ولكن بعض هذه الأبواب يكون ذا مصارع ، والبعض الآخر مغلقاً ، والبعض نصف مفتوح ، والبعض الآخر يكون مفتوحاً تماماً ، فهناك شخصيات مركبة على الوجوه منذ الأزل ، ويعبرون عن مثل هذه الشخصية في اللغة البنجابية بقولهم " كهلى دلى : الشخصية المفتوحة الواضحة تمام الوضوح التي لا خبث فيها " ، و " امتياز بخاري " هذا من هذا النوع " المفتوح " .
مسبحة اليد :
ذات مرة قابلت " امتياز بخاري " ، وكانت في يده مسبحـة صغيرة ، سألته عنها مندهشاً :
· ما هذا يا رجل ؟!.
فقال :
· ماذا ؟!. ماذا بها ؟!.
قلت :
· إنها مثـل " المقام الموسيقي " النّشاز وسط " المقامات الموسيقية " المتناغمة .
فقال :
· ماذا تقصد بـ " المقام " النشاز ؟!.
قلت :
· هناك بعض " المقامات " الموسيقية تبرز اللحن وتجمّله ، ولهذا يتم تكرارها على مدار اللحن كله ، وبعض هذه المقامات تنافي اللحن ولا توافقه ، ولهذا لا تستخدم فيه ، وهذه المسبحة لا تتناغم مع شخصيتك ، وإنما على العكس من ذلك ، إنها تكذّبها .
وقبل ذلك كان صديقي " عماد الدين " قد جاء بشيخ إلى بيتي ، وكانت في يده مسبحة ، وكان هذا الشيخ يتحدث إلينا ، وفي نفس الوقت يمرّ بأصابعه على حبّات المسبحة ، لكن المسبحة كانت جميلة في يده ، فهو شيخ تقليدي محترم ، له لحية ، ويلبس جبّة ، ويتدلّى على كتفه شال كبير . وفي اليوم التالي كان " عماد الدين " هو الآخر يمسك بمسبحة صغيرة في يده ، وانفجرت ضاحكاً ، فقال ابني " عكسي " :
· يا أبي ، إنك تعترض على الآخرين بسبب وبدون سبب ، ولقد رأيت في " باريس " عندما زرتها آخر مرة أن الإمسـاك بالمسبحـة صار " موضــة " و " تقليعـة " ، و " السيدة الفاضلة " (2) هي الأخرى تمسك دائماً بمسبحة .
وسألت " امتياز بخاري " :
· هـل هـذه المسبحــة الصغـيرة في يـدك من بـاب " الموضــة " ، أم من باب " الروحانيات " ؟!.
فقال " بخاري " :
· إنها أمر وحكم !!.
قلت :
· يا سلام يا صديقي ، إنك تبدو من وجهك رجلاً متحرّراً ، فكيف التزمت بأمر أو حكم ما ؟!!.
قال :
· لي صديق من المشايخ ، وأنا أحمل هذه المسبحة في يدي بأمر منه .
قلت :
· هل يفتقد صديقك الشيخ هذا الإحساس بالتناغم ؟!.
قال :
· على العكس من ذلك ، فإنه من القائلين بالتناغم والتوازن والتجانس .
قلت :
· لكن هذه المسبحة لا تتناغم معك ، إنها مجرد رياء وتظاهر وادّعاء .
فأجابني " بخاري " :
· لكنه لا يقبل هذه الصفات ولا يحبها .
وأصابتني دهشة كبيرة لقوله هذا ، فقلت : كيف يكون هذا الشيخ ؟!. ذلك الذي يأمر بالمسبحة رياءاً ، وفي نفس الوقت يدّعي التناغم والتوافق والتوازن ، ليتك تأخذني إليه أنا أيضاً .
البروفيسير الشيخ :
وهكذا ذهبنا للقاء السيد " رفيق أحمد " . وعندما وصلنا إلى مدينة " كوجر خان " (3) علمنا أن أهلها جميعاً يعرفونه ، ويلقّبونه بـ " البروفيسير " ، واندهشت لهذا الأمر ، فكيف يكـون هـذا الشيـخ الذي يجعـل الناس ينادونه بـ " البروفيسير " بدلاً من " مولانا الشيخ " .
وعندما دخلنا البيت رأينا رجلاً في مقتبل الشيخوخة ، لكنه يمتلئ " شباباً " مستلقياً على سرير ، رأسه عار ، حليق الذقن ، يلبس سروالاً وقميصاً كعامة الناس (4) ، ويبدو الذكاء على وجهه بدلاً من الاقتضاب والعبوس ، وكان ذكاؤه هذا حاداً وأكثر من اللازم ، إنه لا ينطق الألفاظ من طبقات الحلق السفلى ، وكلامه سهل مفهوم ، ولا يتخلله ذلك التوقف بين الحين والآخر أثناء الكلام مما يبديه الآخرون كنوع من العظمة والوقار .
قلت :
· هل حضرتك " بروفيسير " فعلاً ؟!!.
قال :
· كنت بروفيسيراً ، واستقلت من وظيفتي ، والآن أنا خادم الله .
قلت :
· كنت قبل هذا موظفاً لدى الحكومة والحاكم ، والآن أصبحت موظفاً لدى الله !!.
ضحك قائلاً :
· نعم .
قلت :
· إنك بهذا لم تحسن التصرّف !.
قال :
· وكيف ؟.
قلت :
· إن الحاكم الأعظم لا يعطي مرتّباً كبيراً (5) .
وضحك كما يضحك عامة الناس .
قلت لنفسي : إنه حقيقة بروفيسير ، وليس فيه من " المشيخة " أو ما شابهها شيء .
الطريق المعبّد للعقل :
ثم أثرت معه الحديث ثانية وسألته :
· كيف تيسّر لك هذا المقام الذي وصلت إليه الآن ؟!.
قال :
· بالعقل !.
اندهشت ، كانت الإجابة غير متوقعة ، لكنها كانت تنمّ عن ثقة بالنفس لا حدود لها .
قلت :
· يا سيدي ، إننا هنا نعتبر العقل عقبة في الطريق ، وحجر عثرة عليه .
وهنا أخذ " البروفيسير " في تلاوة بعض آيات القرآن الكريم ، لم يكن يخرج ألفاظ القرآن من طبقات حلقه السفلى مثلما يفعل عامة قارئي القرآن ، وإنما كان يقرأ القرآن كأنه أشعار عربية وليس قرآناً ، كان يقرأ كأن الله نفسه هو الذي يتكلم ، وكان يقوم بالترجمة جنباً إلى جنب مع التلاوة .
وظل " البروفيسير " يتلو علينا مقتطفات من القرآن الكريم لساعتين كاملتين تقريباً ، وكان فحوى ما قال هو :
" انظروا أيها الناس ، أمعنوا النظر ، تفكروا ، تفكروا كثيراً ، تدبّروا ، لا تؤمنوا وأنتم مغمضي العينين ، لقد أعطاكم الله العقل ، فاستخدموا عقولكم " .
" زنوا الكلام أولاً ، جربوا وتأكدوا ، وإن اعترى الشك قلوبكم فلا حرج ، تفكروا فيما يعتري عقولكم من الشكوك ، وجرّبوا البدائل المتاحة أمامكم مراراً ... وعندئذ ستعلمون أن ما نقوله هو الحق " .
دهشت كثيراً لسماع هذا الكلام ، أيّ إله هذا ، ذلك الذي لا تستطيع ورقة أن تتحرك من مكانها إلاّ بإذنه من جانب ، ومن جانب آخر يأمر بأن لا نجبر أحداً على الإيمان إن لم يؤمن ...
على أية حال وضعنا السيد " البروفيسير " على الطريق الواضح للعقل ، وظللت عدة أيام مقتنعاً تماماً بما قاله " البروفيسير " ، ثم أطلّت الشكوك برأسها ثانية : أليست للقلب أهمية تذكر ؟!!. أليس للوجدان حساب ؟!!. أليست هناك مكانة لعشّاق الله العظام الذين عاشوا في الدنيا ، لعشاق محمد صلى الله عليه وسلم ، للصوفية والزهّاد ؟!!. وبدأت أفكاري تتأرجح ثانية ، وتحدّثت إلى السيد " مسعود قريشي " ، فأطلق ضحكة عالية ، ضحكة تمتلئ سخرية .
و " مسعود قريشي " هذا شخصية عجيبة للغاية ، شخصية متنوعة للغاية ، شخصية تملؤها التناقضات ، فعلى سبيـل المثال تجد لديه العقل ، والعاطفة كذلك ، والإيمان ، والكفر كذلك ، والفكر ، وعدم الفكر كذلك . إنه إيجابي وسلبي في الوقت نفسه ، والأمر الذي يبعث على الحيرة أنك تجد في شخصيته نوعاً ما من التوافق والتناغم .
ضحك " مسعود " قائلاً : " يا سيد مفتي ، إنك رجل مضطرب للغاية ، إنك تظن أن لله تعالى طريقاً واحداً ، لا يا أخي ... إن لله طرقاً عديدة ، وخطوطاً متنوعة ، فهناك خط العقل ، وهو يصل إليه ، وهناك خط الوجـدان كذلك ، وغيرهما من الطرق والخطوط التي توصّل إليه جميعاً .
القرآن :
ثم جاء السيد " طفيل " ، والسيد " طفيل " رجل مثقف ، له خبرة كبيرة بالدنيا ، رجل صناعة ، رجل ثري ، وإن كان يميل بفطرته إلى الزهد والتقشّف ، شيء واحد يملأ عليه حياته ويشغل باله دائماً ، وهو أنّ علينا أن نقرأ القرآن ، نستوعب القرآن ، نعيش بالقرآن (6) ، وأكبر ميزة في السيد " طفيل " هي أنه لا يتبّع مذهبـاً دينياً بعينه ، ولا يدعو إلى مسلك أو طريقة خاصة . إنه لا يرفض أيّ اتجاه أو مسلك ، ولا يفرض عليه حظراً من عند نفسه . إنه فقط يلفت الأنظار إلى القرآن الكريم . قال السيد " طفيل " : يا سيد مفتي ، لماذا تشرّق وتغرّب هكذا ، لديك القرآن الكريم ، اقرأ القرآن وفقط ، ثم اقرأه ثانية ، ثم ثالثة ، اقرأه دائماً ، إنه كتاب ذو طبقات عديدة ، وأسراره تتكشف شيئاً فشيئاً ، مثلما نقول " المطبوخ على مهل يكون ألذّ طعماً " ، إنه ليس ذلك الكتاب الذي يقرأ مرة واحد وحسب ، فداوم على قراءته ، وسوف تتكشف كل أسراره تدريجياً . قال " مسعود " : يا سيد مفتي ، عليك بقراءة ترجمة معاني القرآن الكريم فقط ، لا تقرأ تفاسيره ، إذ أن شخصية وميول المفسّر تطلّ في تفسيره .
قال " عمر " : اقرأ ترجمة الشيخ " المودودي " (7) . وقال " إبدال بيلا " (8) : ربما يكون من الأفضل أن تقرأ ترجمة " مولانا أشرف علي تهانوي " (9) .
وبعد قليل جاء السيد " ساجد " ، وهو رجل متديّن ، تبدو عليه هيئة علماء الدين ، رجل يطبّق أحكام الدين ، ومع ذلك فهو صاحب أفكار عصرية نظراً لإلمامه بالعلوم الدنيوية أيضاً ، ويتصف بحبه الشديد لخدمة الإسلام ، كما يتّصـف بإخلاصـه العميق أيضـاً . اشترى السيـد " ساجد " نسخة من المصحف الشريف وأهداني إياها قائلاً : هذه النسخة هي أفضل نسخ القرآن من حيث الترجمة ، إذ تمتلئ الترجمات الأخرى بالأخطاء . كان هناك إعلان مكتوب في نهاية المصحف يؤكد في لهجة شديدة أن الترجمات الأخرى إمّا خاطئة ، وإمّا ناقصة ، أو سطحية .
إن النفخ في نيران الاختلافات ، والشّطط في نقد الآخرين أمر ينافي روح الإسلام ... ووقعت فريسة للتّذبذب مرة أخرى .
قال السيد " طفيل " : لا تهتم بالاختلافات ، إذ أن شعبنا قد اعتاد على تعميمها ، واقرأ أية ترجمة لمعاني القرآن الكريم أيّا كان مترجمها ، وسوف يلفت القرآن الكريم اهتمامك إليه ، ويركّزه فيه ، إنه كتاب خارق . وقرأت القرآن الكريم ، فأصابتني حيرة شديدة .
هوامش

1 - يشبه الكاتب وجه صديقه بالخطوط المرسومة عليه بفعل الزمن بالاستراحة المغولية التي يطلق عليها ( باره درى ) ، أي ذات الأبواب الاثنا عشر ، وهي استراحة من طراز معماري مغولي لها أبواب كالمحاريب تبلغ اثني عشر باباً غير مغلقة ، وإنما هي فتحات أبواب تشبه المحاريب .
2 - الإشارة هنا إلى السيدة " بينظير بوتو " رئيسة وزراء باكستان في تلك الفترة ، وكانت تحرص على الظهور بين الناس وعلى شاشات التلفزيون وفي يدها مسبحة .
3 - مدينة صغيرة من مدن إقليم البنجاب الباكستاني .
4 - السروال " شلوار " والقميص " قميص " هو الزيّ الوطني لأهل باكستان رجالاً ونساءاً .
5 - استخـدم الكاتب جملـة ( برى سركار تنخواه دينـ مين برى خسيس هـ ) ، وترجمتها أن الحاكم الكبير " الله " شحيح في إعطاء المرتبات ، ورأينا من المناسب ترجمتها بالمعنى كما في المتن ، وقد أشرت إلى المعنى الحرفي في الهامش حتى لا يحدث لبس في الموضوع .
6 - ليس المقصود بأن السيد طفيل هذا من القرآنيين الذين ينكرون السنة ، وإنما يريد الكاتب بيان مدى عشق هذا الرجل للقرآن الكريم .
7 - واحد من كبار علماء المسلمين في شبه القارة الهندو باكستانية في القرن العشرين ، وهو مؤسس الجماعة الإسلامية هناك ، وله مؤلفات عديدة من أهمها ترجمته التفسيرية لمعاني القرآن الكريم بعنوان " تفهيم القرآن " .
8 - من أدباء الأردية المعاصرين ، وهو طبيب في الأصل ، وميدان إبداعه هو القصة القصيرة ، وله مؤلفات عديدة منها مجموعته " انهونيان : أشياء افتراضية " والتي نشرت للمرة الأولى عام 1994م .
9 - من كبار علماء المسلمين في شبه القارة الهندو باكستانية . ولد عام 1863م ، ونوفي عام 1943م ، ويقال إن عدد مؤلفاته يزيد عن الألف ، وهو من الذين ترجموا معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأردية ، وكتب تفسيراً للقرآن في ثلاثة عشر مجلداً باسم " بيان القرآن " .