سارة :
ـــــــــــــــــــــ
وقف الدكتور "عزام" في القاعة يحاضر طلابه ، وكانوا ينصتون إليه بشغف واهتمام بالغين ، كانت محاضرته عن تكنولوجيا الهندسة الوراثية ، وأهميتها وما ستحققه من معجزات ، والتصقت به عيون الطلبة وهم يرون فيه الأستاذ والعالم والمحاضر الذي يتمنى كل منهم أن يصبح مثله في مستقبل أيامه.
بين هذه العيون كانت عيناها الجميلتان تومقانه بإعجاب غامر ، بينما أطلت ابتسامة علي وجهها البديع ، كان وقع كلماته عليها كالسحر في أذنيها ، فقد أحبت هذا العلم علي يد الدكتور "عزام" ، بل عشقته ورسخ في عقلها ووجدانها الهندسة الوراثية أمل جيلها والأجيال القادمة.
من بين العيون التي ترمقه جذبته عيناها الساحرتان ، وشعر أن نظراتها المعجبة كالسحر يسري في أوصاله ، ودغدغة إحساس لذيذ لم يألفه من قبل ، فطوال حياته الممتدة لم يهتم بشيء إلا بعمله ، وما يدور بخلده ويجول في عقله من طموحات ومشاريع ، تغير الحياة بأسرها .
صمت الدكتور "عزام" ليزدرد ريقه ، وواصل محاضرته ، وكان يرمقها بين الحين والآخر ليرى وقع كلماته عليها ، وسعد كثيرا وهي تتابع باهتمام ما يقوله ، وشعر أنه يحاضرها هي دون غيرها ، فجأة خطرت له خاطرة مجنونة ، فلقد أراد أن يسألها عن اسمها ، بعد أن ألح عليه هذا الهاجس ، تراجع وتريث حتي تنتهي محاضرته .
قبل أن تتاح له الفرصة لذلك التف حوله الطلبة والطالبات ، ورأها تخرج من القاعة ، وتختفي عن ناظريه ، فداخلته حسرة أليمة ، وتمنى لو خرج عن وقاره المعهود أمام الطلبة ليجري وراءها ويناديها .
خرج من القاعة مسرعا وهو يتلفت حوله في كل اتجاه بحثا عنها عله يراها ، فلم يجدها ، ومع ذلك شم شذا عطرها في المكان ، ومشي عبر الردهة الطويلة لمبني الكلية ، ثم صعد على السلالم إلي الطابق الثاني ، وعندما اقترب اشتم رائحتها ، فشعر برجفة شديدة تهز كيانه ، فلابد أنها في مكان قريب ، ودارت عشرات الأسئلة في رأسه ، أين تكون ؟ وماذا تفعل الآن ؟ وهل ، وهل ......... ؟
تعجب عندما رأي باب مكتبه مفتوحا !! عبق أنفه رائحتها بعنف هذه المرة ، ولمحها بقدها البديع الملفوف وهي تنثني وتأخذ كتابا لتقرأه من أحد أرفف المكتبة القابعة في ركن من أركان المكتب الرحب.
تألق وجهها بابتسامة وضاءة رائعة ، عندما أقبل الدكتور "عزام" فخفق قلبه بعنف ، وشعر أنه شاب في العشرين من عمره ، ويكاد قلبه يتمزق من الهوى دون إرادة منه ، وهو العالم الذي طالما سخر من العواطف أو العلاقات الحميمة بين الجنسين ، فدائما كانت تراوده فكرة استغناء الرجال عن الجنس الآخر ، والتكاثر بعملية الاستنساخ ، ولكنه أدرك الآن وهو يراها ، أنه لا يستطيع أن يستنسخ هذه الرغبة الجارفة ، والنزعة الحميمة تجاه هذه الفتاة التي لم يعرف حتى اسمها ، بعد أن حولت مشاعره وقلبه بسرعة خاطفة .
هتفت بصوت عذب :
ـ أنا آسفة يا دكتور "عزام" لاقتحامي مكتبك دون إذن .
صاح بانفعال :
ـ هذه فرصة سعيدة يا آنسة ....
قالت وهي تبتسم :
ـ اسمي "سارة" .
أشار الدكتور "عزام" تجاه المقعد الوثير القابع قبالة مكتبه ، وهو يقول في حرارة :
ـ تفضلي يا آنسة "سارة" بالجلوس .
ثم تقدم وجلس وراء مكتبه الأنيق ، وأخذ يتفرس فيها النظر ، وهو لا يدري كيف يبدأ معها الحديث ؟ وكانت هذه أول مرة في حياته يرتج عليه القول ، فتململت الفتاة في مقعدها حرجا ، واجتاحها شعور مربك تحت وطأة نظراته الثاقبة ، ثم أدرك أنه أساء التصرف فتنحنح في مكانه ، وهو يقول :
ـ إنني لم أرك في محاضراتي من قبل !
صافحته عيناها المتألقتان وابتسامتها المشرقة ، وهي تقول ببساطة :
ـ إنني في الفرقة الرابعة ، ولقد قرأت كل كتبك ، وتمنيت أن أقابل سيادتك وجها لوجه .
شعر بسعادة غامرة وهو يسمع وقع كلماتها اللذيذة ، ثم أضافت :
ـ قرأت كتبك وأنا في المرحلة الثانوية ، وتمنيت من خلالها الالتحاق بقسم الهندسة الوراثية .
هتف الدكتور "عزام" وهو يرفع حاجبيه بتساؤل :
ـ لكني لم أرك من قبل ؟
ابتسمت ، وقالت برقة :
ـ لقد انتقلت من جامعة الإسكندرية ، بعد محاولات كثيرة ومرهقة ، حتى ، حتى ..
صمتت وهي تنظر إليه وقد لاح علي وجهها علامات التردد. سألها بلهفة :
ـ أكملي أرجوك .
اتجهت ببصرها إلي الأرض ، وقد احمر خداها تحت وطأة الخجل ، وهي تقول بصوت هامس عذب لمس شغاف قلبه بنبراته الرائعة :
ـ حتي أكون بالقرب منك ، وأنت تقوم بأبحاثك ، وتغير تاريخ العالم.
نظر إليها منتشيا ، وهتف دون إرادة منه :
ـ أتمني أن يكون مثلك كثيرون يا "سارة" .
ثم صمت فجأة ، وعقد ما بين حاجبيه ، كأنما لم يعجبه ما قاله ، واستدرك قائلا :
ـ ولكن يجب أن يكون في هذا الكون "سارة" واحدة فقط .
رنت ضحكتها الرائعة ، وهتفت :
ـ أشكرك يا دكتور "عزام" علي هذه المجاملة اللطيفة .
عندما رجع الدكتور "عزام" إلي فيلته ، نازعته مشاعر متناقضة من الحب والهيام الغامر، وقد امتلأ كيانه بهما ، وجعل قلبه يتذوق حلاوة الحب رغما عنه ، وخالجته رغبة جارفة لاحتواء هذه المخلوقة الرائعة بين ذراعيه ، وامتلاكها إلي الأبد ، ليرتشف معها السعادة التي لم يستشعرها قبلا ، إلا بعد أن قابلها منذ ساعات .
في نفس الوقت غمر قلبه حقد أسود مميت تجاه هذه المخلوقة الدميمة القابعة في الطابق العلوي من الفيلا ، وأصبحت كابوسا هي ونسخته ينغصان عليه حياته ، وبدأت تراوده فكرة التخلص منهما بشكل جدي ، حتي يستطيع أن يحيا ويعيش حياة جديدة دون منغصات أو عوائق .[/size[/color]
المفضلات