منهج الرحالة المسلمين ..
في التعريف بالأمصار... السودان نموذجًا :


{نصّ المحاضرة التي ألقيت في الجلسة الثالثة ...
وذلك في ندوة السودان وأفريقيا في مدونات الرحالة العرب والمسلمين : ـ دورة ابن حوقل ـ في الفترة من : 11 ـ 15 فبراير 2006 م ؛ برعاية سامية من السيد رئيس الجمهورية ...
تحت شعار :
اكتشاف الذات والآخر ...}


الحديث عن بلاد السودان لا تكفيه دقائق ولا جملة محاضرات.
ولو أني ادعيت هذا لغمطت حق بلاد طولها سنة وعرضها سنة.
كما أنني لا أستطيع الإحاطة بكتب الرحالة الذين تعرّضوا لوصف بلاد السودان لأنهم كثيرون والحمدلله.

ولهذا اخترت أهمهم، أو جانباً منهم، والذي يشفع لي أن بعضهم نقل عن بعضهم الآخر .
وقد كانت " بلاد السودان " معروفة لدى العرب والمسلمين، بما جرى فيها من أحداث تاريخية، وغزوات عريقة في القدم، بدءاً بعقبة بن نافع.
وكانوا في المشرق يعرفون طبيعة بلاد السودان، ومعظم طبيعة أهلها .
فعندما امتنع البجه من دفع الإتاوة إلى عامل مصر فكر المتوكل العباسي بأن يأمر عامله هناك بغزوهم، فقيل له:" يا أمير المؤمنين إنهم قوم أهل إبل وبادية، وإن بلادهم بعيدة ومعطشة، ويحتاج الجيش الذاهبون إليها أن يتزوّدوا لمقامهم بها طعاماً
وماءً".
وقد وردت الأسماء: مالي، غانة، النوبة، بجاوة، تكرور، الحبشة، دُنقلة، بلاد التبر، البجه، وغيرها في معظم كتب الرحلات، والجغرافية، والتاريخ، مراراً.
وعلى عادة العرب لم يتركوا مصراً أو بلدة أو قرية إلا كتبوا عنها، وفصّلوا –أو أوجزوا- في دقائقها، سواء دخلها الإسلام أو لم يدخل، وسواء كانت بلاد سلم أو بلاد حرب.
وكان بعضهم يعالج الإقليم كاملاً فيعرف به وبكل ما يضم من طبيعة، ومجتمعات، وزراعات، وحيوانات كابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار".
وبعضهم يعرف بالأعلام والمعارك والمواقع كياقوت، وأبي الفداء.


بلاد السودان:
بلاد السودان تعبير رحب فضفاض عند الرحالة المسلمين، كانوا يطلقونه على معظم القارة الإفريقية ولا سيما أوسطها.
ثم خُصّ هذا التعبير بدولة السودان دون غيرها، مع أن المؤرخين الإسلاميين كانوا يدعونها بلاد النوبة والبجة.
وهم حين يتكلمون على السودان يبدؤون بالمساحة الكبرى من المحيط إلى النيل، ثم يأخذون بالحديث عن البلاد بلداً بلداً أو إقليماً إقليماً جغرافياً، وطبيعياً، واقتصادياً، واجتماعياً.
ولعل الإصطخري أقدم من كتب عن السودان بصفحة واحدة، فاستطاع أن يحدد البلاد فقال:" وبلدان السودان بلدان عريضة، إلا أنها قفرة قشِفة جداّ".
وذكر الفاكهة فرآها نوعين: نوعاً ينمو على الجبال هو مما يكون في بلاد الإسلام، إلا أنهم لا يَطعمونه.
ونوعاً لا يعرف في بلاد الإسلام، هو الذي يتغذون منه.
ويحدد مساحتهم فيقول:" يمتدون إلى قرب البحر المحيط مما يلي الجنوب (وهو الوحيد الذي ذكر الجنوب)، ومما يلي الشمال على مفازة تنتهي إلى مفاوز مصر من وراء الواحات، ثم على مفاوز بينها وبين أرض النوبة، ثم على مفاوز بينها وبين أرض الزنج.
وليس لها اتصال بشيء من الممالك والعمارات إلا من وجه المغرب، لصعوبة المسالك بينها وبين سائر الأمم.
فقد قصر الإصطخري حديثه على امتداد رقعة بلادهم والمفازات من غير أن يحدد طول البلاد وعرضها.
ويرى ابن حوقل أن هذه المفازات السوداء "تكون بين دَبَرته وبلاد الزنج براريّ عظيمة ورمال كانت في سالف الزمان مسلوكة.
وأول الرحالة المسلمين المعروفين ابن الفقيه (ت 290هـ) نراه يتكلم عليها ولم يرها، ولذلك يبدأ كلامه بـ "قالوا" ولم يحدد. فيصف الأراضي بين مصر وغانه، "وإذا جاوزت بلاد غانة إلى أرض مصر انتهيت إلى أمة من السودان يقال لها كَوكَو، ثم إلى أمة يقال لها مَرَندَة، ثم إلى أمة يقال لها مُراوة، ثم إلى واحات مصر"
فهو يسير بحديثه عرضاً من غانة غرباً إلى مصر شرقاً، ولم يعتبر غانة من بلاد السودان.
ويريحنا إسحاق بن الحسين في تعريفه لبلاد السودان فيقول: "وهي كبيرة واسعة آخذة في الطول من بحر المغرب إلى بحر قُلزم. وهي عظيمة جليلة وبين مدينة غانة وبلاد النوبة بلاد كثيرة الصحارى ورمال".
فدمج بلاد النوبة ، والحبشة، وغانة ، وزغاوة ، وكوس ، وكَوكو ، وعلوة، في صفحة واحدة وبعض الصفحة، لكنه آتى على معلومات قد يكون انفرد بها عن غيره.

وأهم ما اعتنى به إسحاق أنه حدّد بع المواقع، فقال: "ومن مدائنهم مدينة زغاوة، وهي حدود بلاد النوبة على النيل، ومدينة كوس، ومدينة علوة في بلاد النوبة. وبلاد النوبة على الخليج الذي بين النيل والنهر الذي يأتي من تحت خط الاستواء. وما خلف هذه البلدان في الجنوب فغير مسكونة لشدة الحر فيها". وهذا تحليل جغرافي مهم، لمؤرخ رحالة ألف كتاباً صغيراً في غاية الإيجاز.
والمنهج الذي اتبعه القزويني (ت682هـ) منهج معظم الرحالة المشهورين؛ فقد عاش في القرن السابع، وألمّ بكتب الرحلات التي نضجت وعظمت.

ويكاد القزويني يعد من ألمع من كتب عن بلاد السودان، ووصف طبيعتها، وأشار إلى أرض الذهب.
واستطاع أن ينقل القارئ من فكرة إلى أخرى نقلاً عمن شاهد تلك البلاد، من غير أن يذهب إليها بنفسه. وأتى بآراء ومعلومات قريبة من الصدق، فيها الكثير من الجدّة والندرة، وأيضاً نقلاً عن مشاهد زائر.
وبعد أن يتكلم على بلاد السودان بعامة، يفرد البحث الموجز عن تكرور، وغانة، وبلاد التبر (الذهب).
فبلاد السودان عند القزويني "كثيرة، وأرض واسعة، ينتهي شمالها إلى أرض البربر، وجنوبها إلى البراري، وشرقها إلى الحبشة، وغربها إلى البحر المحيط".
ثم ينتقل إلى البيئة والطبيعة فيراها –كما يراها غيره- بأن "أرضها محترقة لتأثير الشمس فيها، والحرارة بها شديدة جداً، لأن الشمس لا تزال مُسامتة لرؤوسهم".
ولا بد لكل رحالة من أن يذكر الذهب كما يذكر عريهم لكثرته، فيقول القزويني: إن "أرضهم منبت الذهب".
ويذكرون كذلك الفيلة، والزرافة، والكركدن.
وينفرد –نقلاً عن الفقيه علي الجنحاني المغربي- بأن أهلها اتخذوا بيوتهم على الأشجار العظيمة –التي لم يذكرها غيره- خوفاً من الأرَضة لكثرتها، ولا يتركون شيئاً من الأثاث والطعام على وجه الأرض إلا وأفسده الأرضة.

منهج الرحالة في تدويناتهم:
نشأ أدب الرحلات الجغرافية في أواخر القرن الثالث الهجري، في عصر ازدهار التأليف والتدوين في العصر العباسي، وككل عمل إبداعي لم يكن هذا النوع من التأليف ذا منهج علمي دقيق في بواكيره، إذ ينقصه التنظيم العلمي.

فقد كان الأوائل يصبون معلوماتهم وخواطرهم بين دفتي الكتاب من غير تنظيم أو دقة، ويلطون وصف الأقاليم بغيرها.
فابن الفقيه (ت 290هـ) بعد أن تكلم على مصر، وبالتحديد على مدينة "بِنها"، يُقحم سطرين عن أمة السودان، لينتقل بتدوينه مباشرة عن مدينة " تدمير " بالأندلس.

ومن الأوائل أيضاً الإصطخري (ت 346هـ)، وكان أحد المبدعين.
فمع أن مصادر علم البلدان لم تكن موفورة حتى زمانه، فإنه ألف كتابين هما "صور الأقاليم" و "مسالك الممالك" الذي يظن أنه انتحله عن أبي زيد البلخي.
وسرعان ما نرى هذا الفن يرقى على أيدي عدد كبير، ويأخذ منهجاً دقيقاً.
ففئة نظمت كتبها على أساس التعريف بالأماكن، مرتبة ترتيباً معجمياً كاقوت والبكري.
وفئة اتخذت منهج مسح الأرض مسحاً جغرافياً منظماً كما فعل ابن حوقل في "صورة الأرض" .
على أن الفئة العظمى هي التي ألفت كتب رحلاتها على أساس الأقاليم، واستعراض دقائق كل إقليم على حدة، كما فعل القزويني في "آثار البلاد وأخبار العباد" بشكل موسوعي.

وقال في خاتمة كتابه: "إلى ها هنا انتهى علم أهل بلادنا، والله أعلم بما وراء ذلك من البلاد والبحار".
وكما فعل ابن فضل الله العمري، إذ قسم كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" إلى أسفار، جعل السفر الرابع منه في اليمن، وشماليّ إفريقية، ووسطها، والأندلس.
وقد بدأ العمري تأليف كتابه هذا سنة 738هـ، واستمر على تأليفه حتى سنة وفاته، ومات ولم يتمه.
واعتمد في تصنيفه على من سبقه من المؤلفين ولا سيما ابن سعيد، ومصادر أخرى خطية وشفهية، ولا سيما من زاروا تلك الممالك.
وتأتي أهمية كتابه في أنه ذكر مصادر تعد من النصوص المهمة المفقودة الآن.
ويبلغ هذا اللون من التأليف القمة على يد علي بن موسى، المعروف بابن سعيد المغربي (ت 685هـ).
فقد كان عالماً في ميدانه، دقيقاً في تصنيفه، وله كتب في الرحلات والجغرافية أحدها "بسط الأرض في الطول والعرض".
ويدل عنوان كتابه على أنه مسح الأرض المعمورة كلها.
وقد دل حديثه المطول عن بعض بلاد السودان، على أنه عالم جغرافي ورحالة في غاية الدقة؛ فهو يصور الأرض التي يراها أو يدرسها، كما يفعل ابن حوقل في "صورة الأرض"، بل ادق منه كثيراً.
وكتابه هذا أشهر الأسماء وروداً واعتماداً في كتب المشارقة والمغاربة على السواء، ومعظمهم نقلوا عنه، بل نقل عنه المغاربة أيضاً كابن خلدون في حديثه عن "بجاوة".
وهو في بسطه لبعض أراضي السودان يدل على أنه جغرافي أكثر من كونه رحالة سائحاً؛ فهو لا يكاد يشرح ما يشرحه مؤلفو الرحلات من وصف لطبيعة البلاد، وللأمم، وعاداتهم، وما يتهمون له، ويختصون به.
فهو يساير قارئه في الطريق التي يسلكها، ويحدد له موقع كل بلدة
وقرية ونهر ورافد، ويذكر له مواقعه من خط الإستواء، وما يقع دوينها أو بعيداً عنها، كقوله عن التكرور:
"وموضوع مدينة تكرور حيث الطول 17درجة والعرض 13درجة و30دقيقة ". ثم يقول:" وأول ما يلقاك منه –يريد الإقليم الأول- مدينة بريسا، وهي آخر بلاد التكرور. وعلى شمالي النيل حيث الطول 22 والعرض 13درجة و 30دقيقة".
ويعرف بمنطقة جبل لمى فيقول: "وجبل لمى امتداده من الغرب إلى الشرق 8مراحل، يخرج من طرفه الغربي نهر لمى المذكور، فيمر في عمائر حتى يصب في النيل. ويخرج من طرفه الشرقي نهر ملل، ويتقوس حتى يمر على مدينة ملل..... وعرض مدينة لمى 26درجة، ونهرها يصب في النيل في سمت مدينة درهم من مدن الكفار المهملين".
ويمضي ابن سعيد في تحليله الجغرافي الدقيق عن تكرور وما تضم من مواقع، وكأنه يرسم لك كلامه على مصور دقيق.
ويفعل الأمر نفسه في مدينة غانة، وجزيرة التبر.
ويعدد أسماء المدن التي تضمها هذه الجزيرة، مثل: سمغارة، غيارو، نمنم، مجالات، نقارة.... ويعرّف ببعضها تعريفاَ جغرافياً موجزاً.
ويستمر في وصفه هذا بأكثر من أربعين صفحة بالدقة نفسها.
ولم يكتف ابن سعيد بالوصف الجغرافي، بل جنح إلى بعض الإشارات التاريخية، وبعض العادات.
ومع أن أن ما ذكره دقيق ومهم للغاية إلا أنه في معلوماته غير الجغرافية مُقِلّ.
ولا نشك في أنه يعرف أكثر مما ذكر، لكن مخططه هو الإفاضة في بسط الأرض، والتعليق ما أمكن.
ويدل منهجه ومضمون عمله على ترتيب وتنظيم وخبرة في الأراء.
فهو يضع المعلومة في مكانها حين حين يعرّف الموقع جغرافياً، ولا ينثر المعلومات نثراً، ولا يخلط كما خلط العمري مثلاً. من ذلك:
1- حين يتكلم على التكرور يقول: "وأولُ ما يلقاك على غربي النيل من مدائن التكرور مدينة قلنبوا، وهي فرضة مشهورة، وكانت في زمن أبي عبيد البكري للكفار. وأما في عصرنا فما على شاطئ النيل من بلاد التكرور مدينة إلا ودخلها الإسلام".

2- وهو لا يكتفي، كما قال غيره بأن لباسهم الجلود، بل قال مفصلاً: "والغالب على لباس السودان التكرور وغيرهم الجلود. وإذا احتشى الواحد منهم كان الجلد مدبوغاً. ومن خالط البيض وتخصص اتخذ لباسه من الصوف والقطن، وذلك مجلوب لهم".

3- ويفضّل في مسألة سلاحهم المشهور الذي فقأ أعين المجاهدين فيقول: "وسلاحهم دبابيس الأبنوس وهو كثير على النيل.... ولهم قسي وسهام من القصب الشكري، ومنه يصنعون أوتارها. والبقلة التي يسمون بها سلاحهم كثيرة على شطوط نيلهم".

4- وحين يتحدث عن بحيرة كوري يعطيك معلومتين هما في غاية الدقة:

أ- معلومة جغرافية في قوله: "وفي هذا الجزء الثالث بحيرة كوري التي يخرج منها نيل مصر، ونيل مقدشو، ونيل غانة".

ب- معلومة تاريخية واجتماعية: "ويحدق بها من جميع جهاتها أمم طاغية من السودان الكفرة الذين يأكلون الناس.... ويجاورهم من الجانب الغربي جابي، وهم الذين يبردون أسنانهم. وإذا مات لهم ميت دفعوه إلى جيرانهم يأكلونه، وكذلك يفعل معهم جيرانهم....."
وقد اطلع ابن سعيد على ما كتبه بطليموس عن هذه المناطق، وكان يشير إلى ذلك، من ذلك حين ذكر مصب نهر "الهو" يقول: "وهو من الأنهار التي ذكرها بطليموس".

كما أنه نقل عن بعض المشاهدين كابن فاطمة في حديثه عن بحيرة كوري.
ويأتي ابن فضل الله العمري (ت 749هـ) في مرتبة مرموقة من علماء الرحلات.
صحيح أنه لم يتبع منهجاً رسمياً في تعريفاته، ولا في الشرح.
إلا أنه لم يترك شيئاً لم يذكره عن الملك، والعامة، والأعلام، والطبيعة، والمحاصيل...... إلى جانب أنه لم يترك كتاباً سبقه لم يرجع إليه. فيقدم المعلومات كاملة، تكفي من يقرؤها أن يلمّ بحال البلاد قديمها ومعاصرها له.
ومن جملة بلاد السودان عند الرحالة العرب ما ذكره العمري عن "مملكة مالي" وهي التي كانت تدعى كذلك التكرور. وما كان السكان يحبون هذا اللفظ، لأن "التكرور" إقليم صغير من مملكتهم. ويفضلون عليه اسم "مالي" لأنه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر.
وتشتمل هذه المملكة على غانة (على ضفة النيل وزافون ، وترنكا (من بلاد السودان)، وسنغانة (على ضفتي النيل)، وزاغة (مدينة على النيل) ، وغير ذلك. ويبدأ العمري بذكر موقعها ووصف بيئتها القاسية فيقول :
"أعلم أن هذه المملكة في جنوب نهاية الغرب متصلة بالبحر المحيط، قاعدة الملك بها مدينة ييتي. وهذه المملكة شديدة الحر، قشِفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات".
ثم ينتقل إلى وصف أهلها فيقول: "وأهلها طوال في غاية السواد، وتفلفل الشعور. وغالب طول أهلها من سوقهم لا من هياكل أبدانهم". وهو وصف جسدي في غاية الدقة.
ثم ينتقل إلى ذكر ملكها، واسمه سليمان أخو السلطان موسى منسي.
ويذكر العمري أنهم مسلمون، وفي بلادهم مساجد وجوامع ومواذن، "وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الإمام مالك".
ويصف الملك بأن هذا "الملك هو أعظم ملوك السودان المسلمين، وأشدهم بأساً، وأعظمهم مالاً، وأحسنهم حالاً، وأقهرهم للأعداء، وأقدرهم على إفاضة النعماء".
ولا يترك معلومة تساعد على معرفة هذه المملكة إلا ذكرها، نقلاً عن زوارها، والوافدين عليها. كما أنه يفصل في مزروعاتهم النادرة، وحيواناتهم الوحشية والعجيبة.
ويختم الفصل بصفة الملك، وثيابه، وسريره، وحشمه، وخدمه، وفرسانه، وعاداته في إقامةٍ، وسفر، واستقبال للتجار أو الوفود.
وحين يتحدث عن "دُنقلة" يذكر لنا معلومات عن عاداتهم وأطعمتهم، فيذكر أن دنقلة مسجداً يأوي إليه الغرباء، وكان الملك يدعوهم، ويضيفهم، ويهبهم. وأكثر أعطياتهم: جارية، عبد، أكسية غلاظ غالبها سود تسمى "دكادك".
ويكثر عندهم السمك، والألبان، واللحوم، والذرة. وأفخر أطبختهم اللوبياء في مرق اللحم.
ولهم انهماك على السكر بالمِزر (نبيذ الشعير أو القمح). ولهم ميل إلى الطرب. ويتخذون كلاباً معلّمة تنام على التخوت لحراستهم.
وللعمري اهتمام خاص بذكر الأعلام غير الملك؛ فهو يذكر أن لقمان الحكيم منهم، ويعرّف به مفصلاً، ويشير إلى أنه كان معاصراً لداود ورفيقاً له.
ويذكر "ذا النون المصري" ثوبان بن إبراهيم، لأن أصله من النوبة.
وقد كان العمري كثير النقل من ياقوت، والقلقشندي، وابن سعيد، ومحمد بن عبد الملك صاحب "التكملة"، وابن الأثير "الكامل في التاريخ".
إضافة إلى حشد من الرواة الذين يبحث عنهم ويسألهم. فهو حين يتحدث عن "دنقلة" يقول: "وحدثني غير واحد ممن دخل النوبة أن دنقلة مدينة ممتدة على النيل، وأهلها في شظف العيش. على أنهم أصلح من كثير ممن سواهم من السودان".
ولن اتطرق إلى رحلة ابن بطوطة (ت 779هـ) لشهرتها، وكي أتيح الفرصة العلمية لمن خصّها بالبحث من السادة العلماء. وأشير هنا إلى أسلوب ابن بطوطة أسلوب العرض القصصي، والحكاية المبسطة، ووصف المشاهدات، وذكر أقوال الناس من سكان البلاد، من ذلك حديثه عن الطريق المؤدية إلى مالي، والسلطان الذي يحكمها.

طبقات الجغرافيين الرحالة:
لا بد من توضيح شخصية الرحالة، ومعرفة طبقاتهم واختصاصاتهم:
1- رحالة: اختصوا بالتنقل من بلد إلى بلد بدافع الإطلاع وتسجيل مشاهداتهم، أو تدوين ما أملاه عليهم الرواة والمشاهدون. وليس لهم هدف سوى هذا.
على أن بعضهم كان تاجراً كياقوت الحموي، وابن حوقل. وفي نظري هذه الفئة ذكية، تستفيد من تجوالها بالربح لتأمين مصروف رحلاتهم.
والجدير بالذكر أن بعض الرحالة أولوا اهتماماً كبيراً ببلاد السودان، وكانوا المصدر الأساسي لفهم تلك البلاد، وأخص بالذكر الرحالة المغاربة، لأن لهم فضلاً كبيراً في كشف مجاهل بلاد السودان، ووصف البلاد، والسكان والطبيعة لثلاثة أسباب:

1- لأنهم أقرب إلى أواسط إفريقية من المشارقة.

2- ولأن علماء الدين والفقهاء المالكية من المغاربة كانوا ينزلون تلك البلاد لنشر الدين والمذهب.

3- ولأن التجارة متصلة بين الشمال الإفريقي ووسطه.


ولولا المغاربة لكانت معلوماتنا عن بلاد السودان ضحلة. ومن أهم الرحالة المغاربة: الإدريسي، ابن سعيد، ابن بطوطة.
على أن بعضهم وهم من أصل أندلسي ندر أن كتبوا عن بلاد السودان. كالبكري الأندلسي في "معجم ما استعجم" لم يذكر شيئاً من هذه البلاد.

يتبع ـ بمشيئة الله ـ