آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: ترجمة الفصل الأول من كتاب "ماوراء الثقافة" لإدوارد ت. هول

  1. #1
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية
    كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    الصورة الرمزية Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    1,295
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي ترجمة الفصل الأول من كتاب "ماوراء الثقافة" لإدوارد ت. هول

    فيما يلي ترجمتي للفصل الأول من كتاب عالم الأنثروبولوجيا الشهير إدوارد ت. هول (ماوراء الثقافة)، أنكور برس/دبلداي، جاردن سيتي، نيويورك، 1981.


    إشكالية الثقافة


    هناك خبرتان مختلفتان إلى حد كبير غير أنهما مترابطتان، وهما التحليل النفسي وعملي بوصفي عالما أنثروبولوجيا، وهما الخبرتان اللتان أدتا بي إلى الاعتقاد بأنه خلال نضال الإنسان الغربي من أجل تحقيق النظام، فإنه قد خلق الفوضى من جراء إنكاره لذلك الجزء من نفسه الذي يُوحِّد ، وفي الوقت نفسه حرص على الأجزاء التي تجعل الخبرة تتفكك إلى شظايا. وقد أقنعتني أيضا هذه الفحوص لنفسية الإنسان بأن عملية التفكير الطبيعية تشكلها الثقافة إلى حد كبير؛ ويستخدم الإنسان الغربي جزءا صغيرا فقط من قدراته الذهنية؛ وهناك طرق مختلفة كثيرة ومشروعة للتفكير؛ ونحن في الغرب نقدر واحدة من هذه الطرق أكثر من جميع الطرق الأخرى – وهي الطريقة التي نسميها "المنطق"، وهي نظام خطي لازمنا منذ أيام سقراط([1]).



    ويرى الإنسان الغربي نظامه المبني على المنطق بحسبانه مرادفا للحقيقة. وبالنسبة له فإنه هو السبيل الوحيد المؤدي إلى الواقع. ومع ذلك فإن فرويد قد أحاطنا علما بتعقيدات النفس، فساعد قراءه على النظر إلى الأحلام بحسبانها عملية عقلية مشروعة تتواجد منفصلة كثيرا عن الخاصية الخطية للتفكير الظاهر. ولكن أفكاره لقيت معارضة شديدة منذ البداية، وبصفة خاصة من جانب العلماء والمهندسين الذين كانوا مازالوا مرتبطين بالأنموذج النيوتوني. وعندما أُخذ التفكير الفرويدي مأخذ الجد، فإنه زلزل التفكير التقليدي من جذوره. أما أتباع فرويد، وخاصة فروم، ويونج، فإنهم حينما لم تردعهم الأنماط الشائعة والمكانة الهائلة للعلوم الفيزيائية، أضافوا إلى نظرياته وسدُّوا الهوة بين العالم الخطي للمنطق، والعالم الموحِّد للأحلام.



    ولما كنت أعرف أن تفسير الأحلام والأساطير والأفعال هو دائما أمر فردي إلى حد ما، فإنه لا يسعني إلا أن أسأل نفسي عما يمكن لقارئ على علم بالتحليل النفسي أن يضيفه إلى تفسيري الخاص لسلسلة من الأحداث أوردتها صحيفة نيويورك تايمز حول كلب من الكلاب التي تستخدمها الشرطة أمكن رؤيته في (رافل بار) وهي جزيرة غير مأهولة بالسكان بالقرب من نيويورك. وكان الكلب الذي كان الممكن رؤيته من على بعد، وكنيته (ملك رافل بار) قد تمكن من البقاء حيا لمدة تقدر بعامين، وكان فيما يبدو في صحة جيدة، وكان من المفترض أن يظل حيا في حالته شبه البرية – إذا ما استبعدنا الحوادث – بقية حياته الطبيعية. ومع ذلك، فإن أحد الأشخاص حسني النية سمع عن الكلم وأبلغ عنه الجمعية الأمريكية لمنع القسوة على الحيوان، مما أدى بالعجلات الديوانية إلى التحرك. ونظرا لأنه لم يكن من الممكن اقتراب الناس من الكلب، فقد تم نصب شرك ذي طُعم له. ووفقا لتقرير صحيفة تايمز: "… كل يوم، كانت الشرطة تنطلق من خليج شيبسهد متجهة إلى رافل بار، الجزيرة المليئة بالمستنقعات وغير المأهولة التي يعيش عليها الكلب. وكل يوم كانت طائرة مروحية تحلق لمدة نصف ساعة أو أكثر فوق رافل بار." وقد وصف تقرير إذاعي في ذلك الوقت كيف أن الطائرة المروحية كانت تزعج الكلب في محاولات فاشلة "للقبض" (كذا) عليه (فقد رفض أن يدخل الشرك) أو على الأقل في محاولة لإلقاء نظرة عليه بشكل أفضل. وقد نُقل عن رجال الشرطة قولهم إن الكلب "كان يبدو في حالة طيبة". وعندما سئل ممثلون عن الجمعية الأمريكية لمنع القسوة على الحيوان قالوا: "عندما نلقي القبض على الكلب، سوف نخضعه للفحص من قِبَل طبيب بيطري، وإذا وجد أنه في صحة جيدة، سوف نجد بيتا "سعيدا" له". (الخط مضاف بمعرفتي).



    لو كانت هذه القصة حلما أو خرافة بدلا من تقرير إخباري، لكان هناك شك ضئيل فيما يتعلق بتفسيرها. إذ إن كلا المضمونين، الكامن والظاهر، واضحان كثيرا، و ربما يفسر هذا لماذا تمت تغطية هذا الخبر المحلي تغطية شملت جميع أنحاء البلاد. وعندما أستعرض القصة، فإنني أجد أن تداعي الخواطر الحرة تطرأ على عقلي على مستويات مختلفة. فالقصة تلخص الإنسان الضئيل في مقابل الديوانية الضخمة. كما أن هناك أيضا جانبا خداعيا لا يمكن التغاضي عنه. كما تسلطت فكرة إمساك الكلب على الجمعية الأمريكية لمنع القسوة على الحيوان. وبمجرد أن تم تحريك الجمعية، فإنها أشركت الشرطة بإصرار لا رحمة فيه ولا تفكير ويمثل حق تمثيل وبصورة مخيفة الديوانيات عندما يتم حفزها للعمل. ومن المثير للاهتمام أن رجال الشرطة، وقد كانوا يعلمون قصة الكلب لمدة عامين، كانوا راضين بتركه في الجزيرة. ومن الناحية العاطفية، فقد كانوا متعاطفين مع الكلب، حتى أثناء تنفيذهم الأوامر الصادرة إليهم. "لماذا لا يدعون الكلب وشأنه؟" قال ذلك أحد رجال الشرطة. وعَلَّق أحدهم قائلا : "إن الكلب سعيد سعادة خنزير في بِرْكَة".



    أما الجوانب الخداعية فتتعلق بالضرورة المؤسسية الخاصة بالسيطرة على "كل شيء"، والفكرة التي تحظى بقبول واسع بأن الديواني يعرف ما هو أفضل؛ وأنه لا يشك للحظة واحدة في سلامة الحل الديواني. كما أنه أيضا من الجنون الخفيف، أو على الأقل مما يشير إلى عدم قدرتنا على ترتيب الأولويات باستخدام أي نوع من أنواع الحكم الصائب على الأمور أن ننفق آلاف الدولارات على الطائرات المروحية، والبنزين، والمرتبات لغرض وحيد هو الحفاظ على النظام الديواني.



    ومنذ فترة أقرب، أوردت صحيفة نيويورك تايمز قيام حملة من شرطة المتنزهات بالولايات المتحدة بمنع تطيير الطائرات الورقية على أرض النصب التذكاري لواشنطون. أما مبررهم لمضايقة من يقوم بتطيير الطائرات الورقية فقد كان يكمن في قانون قديم أصدره الكونجرس من المفروض أنه كان يهدف إلى الحيلولة دون تشابك طائرات الأخوين رايت([2]) في خيوط الطائرات الورقية.



    أما المحلل النفسي لينج فهو على اقتناع بأن العالم الغربي مصاب بالجنون. فهذه القصص عن الكلب وعن مطيِّري الطائرات الورقية تدعم وجهة نظر لينج وترمز إلى ورطة الإنسان بالقدر نفسه الذي ترمز إليه أية أحداث وقعت مؤخرا ونمت إلى علمي. ومع ذلك, فإنه ليس الإنسان هو المجنون بقدر ما هي مؤسساته وتلك الأنماط الثقافية التي تحدد سلوكه. فنحن في الغرب مغتربون عن أنفسنا وعن الطبيعة. ونحن نعمل ونشقى في ظل عدد من الخدع، واحدة منها هي أن الحياة أمر معقول؛ بمعنى أننا عاقلون. ونحن نصر على وجهة النظر هذه بالرغم من الدلائل الهائلة على العكس. فنحن نعيش حيوات متجزئة مقسمة يتم في ظلها إخفاء أوجه التناقض عن بعضها البعض. وقد تم تعليمنا كيف نفكر بطريقة خطية أكثر من التفكير بأسلوب شامل، ونحن نفعل هذا ليس عن طريق التخطيط الواعي أو لأننا لسنا أذكياء أو قادرين، ولكن بسبب الطريقة التي تشكل بها التيارات التحتية الثقافية العميقة الحياة بطرق خفية، وهذه الطرق - وإن كانت متساوقة إلى حد بعيد- غير أنه لا يتم صوغها على نحو واعٍ. ومثل التيارات النفاثة غير المرئية في السماء التي تحدد مسار عاصفة، فإن هذه التيارات الخفية تشكل حيواتنا؛ ومع ذلك فقد بدأنا لتونا في التعرف على تأثيرها. وإزاء طريقة تفكيرنا الخطي، خطوة فخطوة، والمجزأ والذي تدعمه المدارس ووسائل الإعلام، فإنه من المستحيل على قادتنا النظر إلى الأحداث بشكل شامل أو وزن الأولويات وفقا لإطار من الصالح العام، مما يجعل من الممكن وضع الأمر كله – مثل بضاعة مسروقة غير مرغوب فيها – على عتبة باب الثقافة. ومع ذلك، فمن الأمور المتناقضة ظاهريا، أن عددا صغيرا من علماء الأنثروبولوجيا هم الذي يوافقون على ما يدرجونه تحت العنوان العام للثقافة. وفي حين ينكر البعض ذلك، فإن الكثير يتوقف على الثقافة الخاصة بعالم الأنثروبولوجيا، والتي تمارس تأثيرا عميقا وملزما ليس فقط على كيفية تفكير علماء الأنثروبولوجيا بل أيضا فيما يتعلق بأين يرسمون الحدود في مثل هذه الأمور. وفي أحيان كثيرة نجد أن الشطر الأكبر من الثقافة المعاصرة يتم استبعاده ويشار إليه بحسبانه "مجرد تقاليد". وبمعنى محدد، فإن تقاليد هذا المجال من مجالات المعرفة وما يقوم الزملاء بدراسته له علاقة بما يحدده علماء الأنثروبولوجيا بحسبانه الثقافة، تفوق علاقته بما يشير إليه تقييم المعلومات التي يحصل عليها المرء. ومثلهم مثل الآخرين، فإن علماء الأنثروبولوجيا يستخدمون النماذج، وبعض النماذج أكثر اتباعا للموضة من غيرها. ومعظم النماذج تلقيناه من الأسلاف ويتم تعديله كل فترة.



    وقد يتساءل القارئ: "وما هو النموذج؟" أو "أي نوع من النماذج تتحدث عنه؟" ولما كنا قد بدأنا توا في فهم النماذج وكيفية استخدام الإنسان لها، فإن هناك شيئا واحدا مؤكدا: وهو أن هناك نماذج مختلفة كثيرة متواجدة. وتوضح النماذج الميكانيكية، مثل النماذج المصغرة للطائرات التي يتم تطييرها في أنفاق الريح، كيف تعمل الآلات والعمليات. ويمكن لنماذج عمل النماذج أن تعيد إنتاج كل شيء من الآلات إلى مستنسخات من الأعمال الفنية. وتساعد نماذج الحياة الفنان على أن يملأ الفجوات في ذاكرة بصرية قاصرة. وقد يكون الآباء والمعلمون نماذج يحتذي بها الصغار.



    ويستخدم العلماء نماذج نظرية، غالبا ما تكون ذات طبيعة رياضية. وتستخدم هذه النماذج لتعبر رمزيا عن خصائص معينة، وكميات، وعلاقات نجابهها في الحياة. كما يستخدم علماء القياس الاقتصادي، على سبيل المثال، هذه النماذج للبحث في كيفية عمل جوانب النظام الاقتصادي التي يمكن قياسها أكثر من غيرها.



    ويستخدم علماء الأنثروبولوجيا في الأغلب نماذج نظرية غير رياضية ذات جذور ممتدة في الثقافة. وربما أن الثقافة هي نفسها عبارة عن سلسلة من نماذج وظيفية للسلوك والفكر، فإن النماذج التي يستخدمها علماء الأنثروبولوجيا كثيرا ما تكون صورا مجردة إلى حد بعيد لأجزاء النماذج التي تتألف منها الثقافة بأكملها (مثل نظم علاقات القرابة، على سبيل المثال).



    والإنسان هو الكائن الصانع للنماذج بغير منازع. وقد نتج عن بواكير محاولاته الذهنية آثار استغلق فهمها على إنسان القرن العشرين وحيرته إلى أن تبين حقيقتها. وعلى سبيل المثال, فإن ستونهنج عبارة عن نموذج للنظام الشمسي مكَّن السكان الأوائل في سهل سالزبوري من أن يقوموا بملاحظة دقيقة لما يحدث في السماء، ومتابعة الفصول، وتنظيم طقوسهم، وحتى التنبؤ بكسوف الشمس في وقت لم يكن أحد فيه يعتقد أن مثل هذه الحسابات والملاحظات الدقيقة كانت ممكنة (منذ ألف وخمسمائة إلى ألفي سنة قبل الميلاد !).



    والنحو والنظم الكتابية عبارة عن نماذج للغة. وأي طفل يذهب إلى المدرسة كافح من أجل فهم معنى ما يتعلمه يعرف أن بعضه مناسب بدرجة معقولة، في حين أن بعضه الآخر ليس معقولا. وتمثل الأساطير، والنظم الفلسفية والعلم أنماطا مختلفة من النماذج لما يطلق عليه علماء الاجتماع النظم الذهنية. والغرض من النموذج هو تمكين المستخدم من تناول تعقيدات الحياة الهائلة بصورة أفضل. وعن طريق استخدام النماذج، فإننا نرى ونختبر كيفية عمل الأشياء ويمكننا حتى التنبؤ بكيفية سير الأمور في المستقبل. ويمكن الحكم على فعالية نموذج ما بمدى كفاءة أدائه، بالإضافة إلى أي مدى هو متسق مع نفسه بوصفه نظاما ميكانيكيا أو فلسفيا. ويتوحد الناس إلى حد بعيد مع نماذجهم نظرا لأنها تقوم أيضا بوضع الأساس الذي يحدد السلوك. فقد قاتل البشر وماتوا باسم نماذج مختلفة للطبيعة.



    وجميع النظم النظرية يشوبها النقص. وهي وفقا لتعريفها تجريدات ولذا فإنها تتغاضى عن أشياء. وما تتغاضى عنه هو على القدر نفسه من الأهمية، إن لم يكن أكثر أهمية مما لا تتغاضى عنه، لأن ما يتم التغاضي عنه هو الذي يمنح البنية والشكل للنظام. وتتمتع النماذج بنصف حياة –– فبعضها سريع الزوال، في حين يبقى البعض الآخر لقرون. وهناك نماذج واضحة إلى حد كبير، في حين يشكل البعض الآخر جزءا لا يتجزأ من الحياة بحيث لا يكون متاحا للتحليل إلا في ظل ظروف خاصة جدا.



    وعندما يقوم معظم علماء الأنثروبولوجيا ببناء نماذجهم الخاصة بالثقافة، فإنهم يأخذون في الحسبان أن هناك مستويات مختلفة من السلوك: الظاهرة والباطنة، والصريحة والضمنية، أشياء تتحدث عنها وأشياء لا تتحدث عنها. وأيضا، هناك شيء يُطلق عليه اللاوعي، بالرغم من أن قليلين هم الذين يتفقون على الدرجة التي تؤثر بها الثقافة في اللاوعي. وعلى سبيل المثال، فإن عالم النفس يونج افترض وجود لاوعي "جمعي" تشترك فيه جميع البشرية (وهو مفهوم ربما وجد كثير من علماء الأنثروبولوجيا صعوبة في قبوله). ومن الأمور المتناقضة ظاهريا أن دراسة النماذج التي يبدعها البشر لشرح الطبيعة تكشف لك عن البشر أكثر مما تكشف عن ذلك الجانب من الطبيعة الذي يقومون بدراسته. وفي الغرب نجد أن الناس أكثر اهتماما بمضمون النموذج أو معناه أكثر من اهتمامهم بكيفية تكوينه، أو تنظيمه، أو أدائه لوظيفته، والغرض المفروض أن يحققه.



    وقد درس علماء الأنثروبولوجيا فقط تلك الأشياء التي أمكن للناس أو كان يمكن للناس أن يتحدثوا إليهم عنها، مما نتج عنه أن كثيرا من الأشياء المهمة –– مثل الأنماط الثقافية التي تجعل من الحياة شيئا ذا معنى وتميز بحق بين مجموعة وأخرى –– قد مرت دون أن يلحظها أحد أو لم يذكرها أحد أو تم تنحيتها جانبا بحسبانها أمورا تافهة. ولو جاز للمرء أن يستخدم تشبيها لغويا، فإن الأمر سيكون كما لو كانت هناك معلومات عن مفردات الثقافة ولكن القليل جدا عن النظم النحوية (القواعد) أو النظم الفونيمية (الألفبائيات تقوم على تحليل فونيمي). ولا يكفي أن نقول إن الفرنسيين يعتقدون هذا وإن الإسبان يعتقدون ذلك. فمن الممكن أن تتغير المعتقدات. إذ يكمن تحت الثقافة البادية على السطح والصريحة إلى حد بعيد والتي يمكن ملاحظتها بوضوح، عالم آخر كامل –– إذا ما تم فهمه –– سوف يغير في النهاية بصورة جذرية وجهة نظرنا بشأن الطبيعة البشرية. وقد بدأ اللغوي سابير فيما كتبه منذ أربعين سنة مضت في إبقاء الحديث دائرا عن طريق توضيح أنه في اللغة (وهي جزء مهم من الثقافة) ابتدع الإنسان أداة مختلفة كثيرا عما هو مفترض عموما. ويقول:



    إن العلاقة بين اللغة والتجربة كثيرا ما يساء فهمها … فهي في الواقع تحدد معالم التجربة بالنسبة

    لنا من خلال كمالها الشكلي وبسبب إسقاطنا اللاواعي لتوقعاتها الضمنية على مجال التجربة …

    واللغة تشبه كثيرا نظاما رياضيا … يتخذ شكلا محكما في نظام مفاهيمي تام في ذاته يطل مسبقا

    على كل التجارب المحتملة وفقا لقيود شكلية مقبولة معينة … والفصائل النحوية مثل العدد والنوع

    والحالة والزمن، وصيغة الفعل، والبناء للمعلوم والمجهول، و"وجهة الحدث" للأفعال، ومجموعة أخرى

    لا يتم اكتشافها في التجربة بقدر ما تفرض نفسها عليها … (الخطوط مضافة بمعرفتي).



    وعمل سابير الذي يسبق مكلووان بخمس وثلاثين سنة لا يقدم فحسب حالة أكثر قوة وتفصيلا من مكلووان القائل بأن "الوسائل هي الرسالة" بل يمكن التوسع فيها لكي تضم نظما ثقافية أخرى أيضا. وفيما يتعلق بعملية تطوير الثقافة، قام الجنس البشري بأكثر مما كان مفترضا في البداية.



    وقد أوضح مكلووان، وليتون فائدة نموذج سابير بطريقة عملية في كتابهما الرائد النافاجو الذي يوضح الصعوبات التي عانى منها أطفال النافاجو الذين اعتادوا التركيز على الفعل عندما التحقوا بمدارس البيض وجابهتهم اللغة الإنجليزية –– وهي لغة ذات بنية أقل تماسكا، وتسود فيها الصفة. ومع ذلك، فلم تكن النقطة الأساسية لمكلووان، وليتون هي فقط أن الاختلافات في التركيز على أشكال النعوت والأفعال كانت تتسبب في مصاعب في المدارس، بل أيضا أن التوجه الإجمالي للغتين كان مختلفاُ، مما دفع بالمجموعتين لملاحظة أشياء مختلفة تماما أو للفشل في ملاحظتها في الطبيعة. وبما أنني عشت مع النافاجو، وتعاملت معهم لعدد من السنين، فإنه لا يساورني شك في أنهم يفكرون بطريقة مختلفة عن الإنسان الأبيض، ليس هذا فحسب، بل أيضا أن جزءا كبيرا من هذا الفرق يمكن على الأقل اقتفاء أثره مبدئيا في لغتهم. ولما كنت قد اشتغلت بنظم ثقافية أخرى، فقد وجدت دليلا على أن المرء لا يجد مثل هذه القيود في اللغة وحدها، بل في أشياء أخرى أيضا، على شرط أن يكون المرء محظوظا بالقدر الكافي عن طريق دراسة ثقافات مختلفة اختلافا كافيا عن ثقافته بحيث يمكنه وضع بنياتها الكامنة في بؤرة التركيز.



    وعند أخذ المعلومات الواردة في هذا الكتاب في الحسبان، فإنه من المهم للقارئ أن يتوصل إلى فهم جيد للنموذج الخاص بثقافته هو بشكليها الظاهر والكامن، لأن ما أهدف إليه هو رفع بعض النواحي الكامنة إلى درجة الإدراك الواعي وإعطائها شكلا محددا بحيث يمكن التعامل معها. ومن الناحية الفنية، فإن نموذج الثقافة الذي يقوم عليه عملي هو أكثر شمولا من النماذج الخاصة ببعض زملائي. ويقع تركيزي على الجانب غير اللفظي وغير المعلن في الثقافة. وبالرغم من أنني لا أستبعد النظم الفلسفية والدين والتنظيم الاجتماعي، واللغة، والقيم الخلقية، والفن، والثقافة المادية، فإنني أشعر أنه من الأهم أن ننظر إلى الطريقة التي يتم بها جمع الأشياء بعضها إلى بعض، أكثر من النظر إلى النظريات.



    ومع ذلك، وبالرغم من كثير من الاختلافات في التفصيلات، فإن علماء الأنثروبولوجيا يتفقون بشأن ثلاث خصائص للثقافة: وهي أننا لا نولد بها، بل يتم تعلمها؛ وأن الجوانب المتعددة للثقافة مترابطة –– فإذا لمست الثقافة في موضع ما ستجد أن كل شيء قد تأثر؛ كما أنها مشتركة بين الجميع، وفي حقيقة الأمر تبين الحدود التي تميز الجماعات المختلفة.



    والثقافة هي مجال الإنسان؛ وليس هناك جانب واحد من حياة الإنسان لا تمسه الثقافة أو تغِّير منه. وهذا يعني الشخصية، وكيف يعبر الناس عن أنفسهم (بما في ذلك إظهار العواطف)، والطريقة التي يفكرون بها، وكيف يتحركون، وكيف يتم حل المشكلات، وكيف يخططون مدنهم، وكيف تعمل وسائل المواصلات وكيف يتم تنظيمها، بالإضافة إلى كيفية تأليف النظم الاقتصادية والحكومية وكيفية عملها. ومع ذلك، مثلها في ذلك مثل الحرف الطباعي غير الواضح، فإن أكثر الأمور وضوحا وأكثرها حسبانا أمرا مسلما به –– والتي كثيرا ما تكون أقل جوانب الثقافة حظا من الدراسة –– هي التي تؤثر في السلوك بأعمق الطرق وأكثرها خفاء.



    وللتدليل على ما نقول، فلنقم بفحص كيف يقع الأمريكيون البيض أسرى لنظامي الزمن والمكان الخاصين بهما –– بادئين بالزمن. فالزمن الأمريكي يتسم – كما أسميته – بأنه "أحادى الزمن"؛ بمعنى أن الأمريكيين، حينما يأخذون الأمور مأخذ الجد، فإنهم عادة يفضلون أن يقوموا بعمل الأشياء واحدا تلو الآخر، وهذا يتطلب نوعا ما من أنواع الجدولة، سواء الضمنية أو الصريحة. ولكننا لانلتزم جميعا بالمعايير الأحادية الزمن. ومع ذلك، فإن هناك ضغوطا اجتماعية وضغوطا أخرى تجعل معظم الأمريكيين لا يخرجون عن إطار الزمن الأحادي. ومع ذلك، فإن الأمريكيين عندما يتعاملون مع أناس ينتمون إلى ثقافات أجنبية، فإن النظم المختلفة للمزمن تتسبب في مصاعب جمة.



    والزمن الأحادي (ولنرمز له بالزمن أ) والزمن المتعدد (ولنرمز له بالرمز م) يمثلان حلين مختلفين لاستخدام كلا الوقت والمكان بحسبانهما إطارين منظِّمين للنشاطات. ويدخل المكان في الحسبان نظرا لأن النظامين (الزمن والمكان) مترابطان وظيفيا. فالوقت أ يركز على الجداول، والتجزئة، والسرعة. أما نظم الزمن م فإنها تتميز بعدة أشياء تحدث في الوقت نفسه. وهي تركز على اشتراك البشر وإكمال العمليات أكثر من تركيزها على الالتزام بالجداول الموضوعة سلفا. والزمن م يعامَل بحسبانه ملموسا بصورة أقل بكثير من الزمن أ. ومن المحتمل أن يُعتبر الزمن م نقطة أكثر منه شريطا أو طريقا، وتعتبر هذه النقطة مقدسة.



    ويعاني الأمريكيون في الخارج من ضغط نفسي بطرق متعددة عندما تصادفهم نظم الزمن م مثل تلك المستخدمة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ففي أسواق دول البحر المتوسط ومتاجرها، يحاط المرء بغيره من الزبائن الذي يتنافسون على جذب انتباه أحد العاملين. وليس هناك نظام خاص بمن يتم تقديم الخدمة له في التالي، مما يعني بالنسبة للأوروبي الشمالي أو الأمريكي أن الاضطراب والصخب سائدان. وفي سياق آخر، فإن النظم نفسها تُطبق داخل المكاتب الحكومية في دول البحر المتوسط: فالمسئول في إحدى الوزارات، على سبيل المثال، قد يكون لديه منطقة استقبال واسعة خارج مكتبة الخاص. وهناك دائما تقريبا مجموعات صغيرة تنتظر في هذه المنطقة، وهذه المجموعات يزورها مسئولون حكوميون يتحركون في أرجاء الحجرة متحدثين مع كل منها: وكثير من أعمالهم يتم إنجازه على الملأ بدلا من عقد سلسلة من الاجتماعات الخاصة في مكتب داخلي. أما ما يسبب إزعاجا خاصا للأمريكيين فهو الطريقة التي يتم بها التعامل مع المواعيد من جانب أولئك الذين يتبعون الزمن م. إذ إن المواعيد لا تحمل الثقل نفسه الذي تحمله في الولايات المتحدة. فالأمور يتم تعديلها باستمرار. ولا يبدو أن هناك شيئا متماسكا أو محددا، وخاصة الخطط المتعلقة بالمستقبل، وهناك دائما تغييرات في أكثر الخطط أهمية حتى آخر دقيقة.



    وعلى النقيض من ذلك، فإنه في العالم الغربي، يجد الإنسان القليل في حياته مما يمكن إعفاؤه من اليد الحديدية للزمن أ. وفي حقيقة الأمر، فإن حياته الاجتماعية وعمله، بل وحياته الجنسية، عرضة لأن تكون واقعة تحت السيطرة الكاملة للزمن أ. فالزمن منسوج بدقة في نسيج الوجود بحيث أننا لا نكاد نشعر إلى أي درجة يحدد وينسق كل شيء نفعله، بما في ذلك تشكيل العلاقات مع الآخرين بوسائل خفية عديدة. وعن طريق الجدولة، فإننا نقسم العمل إلى أجزاء؛ وهذا يمكِّننا من التركيز على شيء واحد في كل مرة، ولكنه أيضا يحرمنا من السياق. ونظرا لأن الجدولة بطبيعتها تختار ما سوف يتم رؤيته وما سوف لا يتم رؤيته والانتباه إليه، وتتاح الفرصة لعدد محدود فقط من الأحداث في نطاق فترة محددة، فإن ما يتم جدولته في الداخل أو الخارج يمثل نظاما لتحديد الأولويات لكل من الناس والأعمال. فالأمور المهمة يتم البدء فيها أولا ويُخصص لها معظم الوقت؛ أما الأمور غير المهمة فإنها تترك حتى النهاية أو يتم حذفها إذا ما انقضى الوقت.



    والزمن وكيفية تناوله يشيران أيضا إلى الأهمية والأولويات. فحجم المكان المخصص، والمكان الذي يتم وضع شخص ما فيه داخل مؤسسة يكشفان الكثير عنه وعن علاقته بالمؤسسة. ومن الأمور التي لها القدر نفسه من المغزى هي كيفية تدبيره لوقته. وفي حقيقة الأمر، فإن التحفظ حول الجدولة – وتحديد متى يتواجد المرء في المكتب – يشيران إلى أن المرء قد وصل. والاستثناء هم مندوبو المبيعات الذي تتطلب أعمالهم الابتعاد عن مكاتبهم، أو أولئك الذين يشغلون وظائف غير معتادة، مثل محرر شئون المدن في صحيفة على سبيل المثال، والذي يُعتبر عمله بطبيعته متعدد الزمن. وقد أصبحت أهمية المكان – حيث يتم السماح بمزاولة الأنشطة – جزءا لا ينفصل من الديوانية الحديثة بمعنى أن بعض العاملين الذين يمكن لأدائهم أن يتحسن بصورة كبيرة إذا استطاعوا الابتعاد عن مكاتبهم، نادرا ما يُسمح لهم بأن يفعلوا ذلك. وعلى سبيل المثال، فإن مسئولي الخدمات الأجنبية الأمريكية المكلفين بأمريكا اللاتينية ينبغي أن يخرجوا للتفاعل مع السكان المحليين، ولكن بسبب العادات المكتبية الجامدة فإنهم لا يمكنهم مغادرة مكاتبهم. فإذا ما كانوا معزولين عن الناس الذين ينبغي أن يقيموا صلات معهم، فكيف يتسنى لهم أن يؤدوا عملهم بصورة فعالة؟ وفي ديوانية أخرى تتخذ مقرا لها في أمريكا، فإن برنامج بحث مهم وشهير تعرض للتوقف لأن المكان المطلوب للتجارب كان أكبر من المكان الملائم لمكانة الباحث. جنون؟ نعم، جنون مطبق؛ ولكنه من الناحية الديوانية واقعي جدا.



    وبالنسبة للأناس المنتمين للزمن أ الذي تربوا على التقاليد الأوروبية الشمالية، فإن الزمن خطى ويتم تقسيمه مثل طريق أو شريط يمتد إلى الأمام ناحية المستقبل وإلى الخلف ناحية الماضي. كما أنه أيضا ملموس؛ فهم يتحدثون عنه بحسبانه يمكن توفيره، وإنفاقه، وإضاعته، وخسرانه، وتعويضه، وإسراعه، وإبطاؤه، وزحفه، وانتهاؤه. وهذه التعبيرات المجازية ينبغي أخذها مأخذ الجد إلى حد كبير، لأنها تعبر عن الطريقة الأساسية التي يتم بها النظر إلى الزمن بحسبانه محدِّدا غير مُدْرَك إدراكا واعيا أو إطارا ينبني عليه كل شيء آخر. وتستخدم الجدولة الأحادية الزمن كنظام تصنيفي يرتب أمور الحياة. فباستثناء الميلاد والموت، فإن جميع الأنشطة المهمة تتم جدولتها. وينبغي أن نذكر أنه بدون الجداول وشيء يشبه كثيرا نظام الزمن أ، فإنه من المشكوك فيه أن حضارتنا الصناعية كان من الممكن أن تتطور بالكيفية التي تطورت بها. ومع ذلك، فهناك نتائج أخرى. فالزمن الأحادي يعزل شخصا أو شخصين عن المجموعة ويدعم العلاقات مع شخص آخر واحد، أو على أكثر تقدير، مع شخصين أو ثلاثة. وبهذا المعنى، فإن الزمن أ يشبه حجرة ذات باب مغلق تضمن الخصوصية. أما المشكلة الوحيدة فتكمن في أنك لابد من أن تخلي "الحجرة" في نهاية خمس عشرة دقيقة أو ساعة، أو يوم، أو أسبوع، وفقا للجدول، وأن تفسح الطريق للشخص التالي في الصف. أما الفشل في إفساح الطريق والتعدي على وقت الشخص المنتظر فيعتبر أنانية، ونرجسية، وسلوكا سيئا.



    والزمن الأحادي استبدادي ومفروض؛ بمعنى أنه يتم تعلمه. وبما أنه يتم تعلمه بدقة ويعتبر جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا، فإنه يُعامل كما لو كان الطريقة الطبيعية و"المنطقية" الوحيدة لتنظيم الحياة. ومع ذلك، فهو ليس كامنا في إيقاعات الإنسان ودوافعه الخلاقة، كما أنه ليس وجوديا بطبيعته. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المنظمات، وبصفة خاصة الأعمال والدواوين الحكومية، تُخضع الإنسان للنظام، وهي تحقق هذا أساسا عن طريق الكيفية التي تتناول بها النظم الزمانية–المكانية.



    ولابد لكل شيء في حياتنا من أن يتوافق مع المتطلبات البروكرستيزية([3]) للجدول. وكما يمكن لأي أمريكي أن يخبرك، فإن هناك أوقاتا تبدأ فيها الأمور في التطور بالطريقة المرغوبة؛ ومع ذلك فلابد من إيقافها لكي تتماشى مع الجداول الموضوعة سلفا. وعلى سبيل المثال، فإن ميزانية البحث تنفد تماما في الوقت الذي تبدأ فيه النتائج في الظهور. كم مرة شعر القارئ أنه غارق باستمتاع في نشاط خلاق ما، وهو غير مدرك على الإطلاق للزمن، بل هو مدرك فقط للعمل الذي بين يديه، ثم تتم إعادته إلى "الواقع" مع الصدمة القاسية التي يشعر بها عندما يدرك أن التزامات مسبقة كثيرا ما تكون غير ذات أهمية تقيد من حركته؟



    من هذا يتضح لنا أن كثيرا من الأمريكيين يقعون في الخطأ السائد الخاص بالربط بين الجدول والواقع أو ذات الشخص أو النشاط بحسبانه شيئا منفصلا عن الحياة. فالزمن أ يمكن أن يسبب لنا حالة اغتراب عن أنفسنا ويحرمنا من الإحساس بالسياق بمعناه الأوسع. وبمعنى آخر، فإن الزمن أ يضيق من وجهة نظر المرء إلى الأحداث تماما مثلما يؤدي النظر من خلال أنبوب من الورق المقوى إلى الحد من الرؤية، وهي تؤثر بطريقة خفية وبعمق على كيفية تفكيرنا –– فنفكر على شكل أقسام مجزأة.



    ومن المحتمل أن هذا التقييد للقياس يفسر لنا جزئيا الصعوبات التي تواجهها المشروعات الأمريكية في التكيف مع النظم الزمنية الأخرى. وقد أخبرني أحد الاقتصاديين ذات مرة أن الإسكيمو العاملين في شركة للأسماك في ألاسكا كانوا يعتقدون أن صفارات المصانع شيء سخيف. إذ بدت لهم فكرة أن الرجال من المفروض أن يعملوا أو يتوقفوا عن العمل بسبب صفارة بحسبانها محض حماقة. فبالنسبة للإسكيمو، فإن حركة المد والجذر هي التي تحدد ما يفعله الرجال، وكم من الوقت يستغرق عمله، ومتى يقومون به. فإذا ما انحسر المد فإن هذا يعني مجموعة من الأنشطة؛ فإذا دخل مد آخر بدأت مجموعة أخرى. وقد عمل هذا الشخص نفسه فيما بعد في وكالة دولية كبيرة ولاحظ على نفسه علامات الضغط العصبي الناجمة عن محاولاته الفاشلة لربط إنتاجيته، وخاصة جوانبها الإبداعية، بجدول زمني. وفي النهاية عندما اقتنع بأنه من المستحيل جدولة الإبداع، توقف عن المحاولة، وتوصل إلى حل وسط عن طريق اتباع جدول يجلس بمقتضاه إلى طاولة مكتبه لفترات يؤدي فيها توافه الأمور، تتبعها فترات أخرى كان يعمل فيها طوال اليوم. ويتساءل المرء: كم من الأفراد الذين اضطروا إلى التكيف مع جداول الساعات الثماني من التاسعة إلى الخامسة([4]) قد ضحوا بإبداعهم، وكم بلغت التكلفة الاجتماعية والإنسانية لهذه التضحية.



    وللزمن والمكان تأثير في كل منهما الآخر. فعلى سبيل المثال، كيف يمكنك الالتزام بموعد نهائي إذا كنت عرضة لأن يقطع عليك أحد عملك باستمرار؟ وإلى أي حد يتم قطع عملك يعتمد على الوقت الذي أنت متاح فيه. والوقت الذي أنت متاح فيه يتوقف على إلى أية درجة يتم حجبك عن الآخرين. وأيضا، كيف يتسنى لطبيب أن ينصت بعمق واعتناء إلى سرد مريض لحياته دون انعزال مناسب؟ من المستحيل تحقيق ذلك. وأنا أشير هنا إلى الأحوال المثالية. إذ إن كثيرا من الناس يضطرون إلى تحمُّل أماكن تعرقل إنجاز أعمالهم. وبعض هذا يتأتى بسبب التشدد الذي يتم به الربط بين المكان وأيضا الزمن وبين نظام التدرج الديواني. ومن الواضح كثيرا، على سبيل المثال، أن المكلفين بدراسة الحالات في أقسام الرعاية الاجتماعية يتطلبون الخصوصية التي يتيحها لهم المكتب، ومع ذلك فإن مرتبة نشاطهم والوضع المتدني الذي يُنظر به إلى المحتاجين من شأنها أن تجعل من توفير مكتب شيئا غير متاح من الناحية الديوانية (إذ إن المكاتب للناس "المهمين"). وتصبغ المتناقضات من مثل هذا النمط وعلى كل المستويات –– حيث تستدعي متطلبات النشاط شيئا ما في حين تتطلب حاجات المؤسسة شيئا آخر–– كثيرا من جوانب الحياة بصبغة تشبه أليس في أرض العجائب([5]).



    وهذا هو الجانب الذي تتمايز فيه الثقافات بعضها عن بعض؛ فأصحاب الزمن المتعدد مثل العرب والأتراك، الذين يندر أن تجدهم بمفردهم، حتى في بيوتهم، يستخدمون نظام الحجب بشكل مختلف. فهم يتفاعلون مع عدة أشخاص في الوقت نفسه، وهم دائما منهمكون مع بعضهم البعض. والجدولة صعبة إن لم تكن مستحيلة مع أصحاب الزمن م إلا إذا كانوا قد اعتادوا على الزمن أ بصورة فنية بحسبانه نظاما مختلفا جدا، وهو نظام لا يخلطون بينه وبين نظامهم الخاص ولكنهم يستخدمونه عندما يكون مناسبا للموقف، فيما يشبه كثيرا استخدامهم للغة أجنبية.



    ومن الناحية النظرية، فإنه عند النظر إلى النظام الاجتماعي، نجد أن نظم الزمن م ينبغي أن تتطلب مركزية للسيطرة أكبر بكثير، وأن تتسم ببنية ضحلة أو بسيطة إلى حد ما. وسبب ذلك هو أن الشخص الجالس على رأس العمل يتعامل باستمرار مع كثير من الناس، معظمهم يظلون على علم بما يحدث: فهم متواجدون في الأمكنة نفسها، ويتم تعويدهم على الانهماك بعمق مع بعضهم بعضا، ويسألون أسئلة باستمرار لكي يظلوا على علم بالأمور. وفي هذه الظروف، فإن تخويل السلطة وتعزيز المستويات الديوانية لا ينبغي أن تكون مطلوبة لإنجاز أحجام كبيرة من العمل. أما نواحي القصور الرئيسية للديوانيات ذات الزمن م فهي أنه عندما تزداد الأعمال فإن المرء يتوقع أن يجد تكاثرا في الديوانيات الصغيرة بالإضافة إلى الصعوبة في تناول مشكلات الأشخاص الذين لا ينتمون للديوانية. وفي الواقع، فإن غير المنتمين الذين يسافرون إلى دول البحر المتوسط أو يقيمون فيها يجدون أن الديوانيات غير متجاوبة بصورة غير معتادة. وفي الدول ذات الزمن المتعدد، لابد للمرء من أن يكون منتميا وإلا فلابد من أن يكون له "صديق" يمكن أن يجعل الأشياء تتحقق. فجميع الديوانيات ذات توجه نحو الداخل، غير أن النوع ذا الزمن م يتسم بهذه الخاصية بصفة خاصة.



    وهناك أيضا نقاط مثيرة للاهتمام من الممكن إثارتها فيما يتعلق بعملية الإدارة كما يتم النظر إليها في هذين السياقين. فالإدارة والتحكم عند أصحاب الزمن المتعدد (في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية) هما أمران يتعلقان بتحليل العمل. فالإدارة عبارة عن أخذ عمل كل مرءوس وتحديد الأنشطة التي يتألف منها العمل. ثم يتم تحديد هذه الأنشطة والتأشير عليها مرارا في الجداول المعقدة مع مراجعات تمكِّن المدير من التأكد من أن كل عمل قد تم إنجازه. وبهذه الوسيلة، فإنهم يشعرون أنهم يمارسون السيطرة الكاملة على الفرد. ومع ذلك، فإن كيفية الأداء الفعلي لكل نشاط ووقته هي من الأمور المتروكة للموظف. إذ إن جدولة أنشطته له يعتبر انتهاكا استبداديا لفرديته.



    وعلى النقيض من ذلك، فإن أصحاب الزمن أ يجدولون نشاطهم ويتركون تحليل أجزاء العمل للفرد. والتحليل من طراز الزمن م، حتى وإن كان فنيا بطبيعته، يُذكرِّ المرءوس باستمرار بأن عمله عبارة عن نظـام وأنه أيضا جزء من نظام أكبر. وعن طريق تجزئة العمل، فإن أصحاب الزمن أ تصبح لديهم فرصة أقل لرؤية أنشطتهم في سياقها بحسبانها جزءا من كل أكبر. ولا يعني هذا أنهم لا يدركون "النظام" –– إذ إن هذا بعيد عن الواقع؛ كل ما في الأمر أن العمل نفسه أو حتى أهداف المؤسسة نادرا ما يتم رؤيتها في سياقات أكبر. ومرة ثانية، فإن وضع المؤسسة فوق ما هو مفترض فيها القيام به أمر شائع في ثقافتنا ونرى صورة مصغرة له في سماحنا لإعلانات التليفزيون، أو لـ "الرسالة الخاصة"([6]) بكسر استمرارية حتى أكثر أنواع التواصل أهمية. وعلى النقيض من ذلك، فقد قمت في إسبانيا ذات مرة بإحصاء واحد وعشرين إعلانا تجمعت معا في نهاية برنامج استغرق ساعة. إذ قام الإسبان ذوي الزمن م بصورة بدت معقولة جدا لهم بوضع الإعلانات بين البرامج الكبرى، وليس داخلها.



    ولكلا النظامين نواحي القوة والضعف فيهما. وهناك حدود للسرعة التي يمكن بها تحليل الأعمال، وذلك بالرغم من أنه بمجرد تحليلها فإن التقرير المناسب يمكن أن يُمكِّن الإداري ذا الزمن م من قيادة عدد مدهش من المرءوسين. وبالرغم من ذلك، فإن المؤسسات التي تدار وفقا للنموذج المتعدد الزمن تكون محدودة الحجم، وتعتمد على وجود رجال موهوبين في القيادة، وتتسم بالبطء وثقل الحركة عندما تتعامل مع أعمال من لا ينتمون إليها. وبدون الرجال الموهوبين، يمكن للديوانية ذات الزمن م أن تصبح كارثة، كما يعرف كثير من الناس. وتسود النماذج ذات الزمن م الديوانيات كوسيلة للتعامل مع تزايد الطلب على النظام.



    وتسلك المؤسسات ذات الزمن أ الاتجاه المضاد. فهي يمكن أن تكبر بل وتكبر بالفعل بصورة أكبر بكثير من المؤسسات ذات الزمن م. ومع ذلك، فإنها تضم ديوانيات متكاثرة، ومن أمثلتها المدارس الموحدة([7]) والأعمال المختلطة، والأقسام المهيمنة الجديدة التي نقوم بتطويرها في الحكومة اليوم.



    أما العمى المميز للمؤسسة الأحادية الزمن فيتمثل في عدم الانتباه إلى إنسانية أعضائها. أما ضعف النمط المتعدد الزمن فيكمن في اعتماده إلى أقصى حد على المسئول الأول في التصرف في حالات الطوارئ وفي البقاء على قمة الأمور. كما أن الديوانيات ذات الزمن أ، عندما تكبر، تتجه إلى الداخل، وتفقد القدرة على النظر إلى بنيتها الخاصة؛ وهي تتصلب بل وتصبح عرضة أيضا لفقدان الرؤية لغرضها الأصلي. ومن الأمثلة الكبرى فرقة مهندسي الجيش، ومكتب الاستصلاح، اللذان يسببان فوضى شديدة لبيئتنا في إطار جهودهما الجادة للبقاء في العمل عن طريق بناء السدود أو الإسراع في جريان مياه الأنهار إلى البحر.



    والنظامان الأحادي الزمن والمتعدد الزمن يتعلقان بالطريقة التي يتم بها تنظيم الزمن والمكان وكيف يؤثر هذا التنظيم على حقيقة الوجود ذاته. ويمكننا النظر إلى الأمور بطريقة تتسامى فوق الثقافة، وفي فعلنا هذا، نصل إلى تصميمات بشأن كيفية تنظيم الثقافة. وتختص إحدى هذه التصميمات بالعلاقات الخفية والمعقدة في الوقت ذاته بين المعنى والسياق والتي نصفها في الفصول السادس والسابع والثامن. في حين تتناول إحدى التصميمات الأخرى الإنسان بحسبانه منتجا للامتدادات التي تشكل بدورها حياته (الفصل الثاني). وما يسميه عالم الأعراق سلسلة الأعمال (الفصل العاشر) والإطار الموقفي واللهجة الموقفية (الفصل التاسع) كلها عبارة عن ملامح تركيبية للثقافة غير المُدْرَكة إدراكا واعيا …







    --------------------------------------------------------------------------------

    ([1]) عاش الفيلسوف اليوناني سقراط بين 470 و 399 ق.م. ويُعد هو وأفلاطون وأرسطو واضعي أسس الثقافة الغربية. (المترجم)

    ([2]) الأخوان رايت هما ويلبور وأخوه أورفيل رايت. وكان ويلبور (1867-1912) رائد طيران أمريكي صنع هو وأخوه (1871-1948) أول طائرة ذات محرك وطارا بها عام 1903. (المترجم)

    [3] نسبة إلى بروكستيز، وهو لص إغريقي خرافي يمد أرجل ضحاياه أو يقطعها لكي يجعل طولهم منسجما

    مع فراشه. والمعنى :المتطلبات التي يُكره عليها المرء وفقا لما يمليه "الجدول". (المترجم)



    ([4]) هذه هي ساعات العمل المعتادة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض الدول الغربية. (المترجم)

    ([5]) مغامرات أليس في أرض العجائب عبارة عن قصة مغامرات من تأليف لويس كارول (1823-1898) وتدور حول الطفلة الصغيرة أليس التي تحلم بأنها تتبع أرنبا أبيض داخل حجرة حيث تقوم بمغامرات غريبة وتلتقي بشخصيات عجيبة. (المترجم)

    ([6]) نوع من أنواع الإعلانات التجارية في التليفزيون. (المترجم)

    ([7]) المدرسة الموحدة : مدرسة ابتدائية عادة تنشأ بدمج بعض المدارس ببعضها الآخر. (المترجم)

    أ. د. أحمد شفيق الخطيب
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية - كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    (حاليا أستاذ بكلية التربية للبنات - الطائف - السعودية)
    مشرف على منتدى علم اللغة
    محرر باب (مقالات لغوية (وترجمية)) على بوابة الجمعية

  2. #2
    شـاعرة الصورة الرمزية رحاب حسين الصائغ
    تاريخ التسجيل
    21/02/2007
    العمر
    58
    المشاركات
    180
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    لفاضل: أ. د. أحمد شفيق الخطيب الموقر
    جل ما يسعدني هو القيام بمثل هذا العمل القدير ، جزاك الله كل الخير بترجمتك هذا الكتاب وانشأالله تأتي على ترجمة المزيد فنحن بحاجة لكشف بعض الغموض وما نعيشه من انغلاق يزيد من عتمة الوضع العام
    شكري وتقديري لجنابكم الكريم
    مع خالص مودتي


  3. #3
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية
    كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    الصورة الرمزية Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    1,295
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    الأستاذة الكريمة رحاب حسين الصائغ
    جزاك الله خيرا على كلماتك الطيبة.
    أدعو الله –سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بما علَّمنا.
    وأسألك الدعاء أن يعينني الله على ترجمة باقي الكتاب.
    تجدين ترجمة مقدمة الكتاب على الرابط التالي.
    http://www.arabswata.org/forums/show...CF%E3%C9يسعدني تلقي ملاحظاتك.
    تحياتي.

    أ. د. أحمد شفيق الخطيب
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية - كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    (حاليا أستاذ بكلية التربية للبنات - الطائف - السعودية)
    مشرف على منتدى علم اللغة
    محرر باب (مقالات لغوية (وترجمية)) على بوابة الجمعية

  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية اسامه مصطفى الشاذلى
    تاريخ التسجيل
    30/05/2007
    المشاركات
    493
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    جزاك الله كل الخير أستاذنا عهدناك دائما
    فعالا ومؤثرا .. اننا حقا فى حاجه ماسة لان
    نعرف كيف يفكر القوم لكى نستخدم ما توصلوا
    اليه بعد ان نعرضه على ديننا الحنيف اولا ونرد مالا
    يتفق مع شرعنا .. فهناك الكثير من العلوم ليس عندنا إلا
    النذر اليسيرعن ماهيتها كالبرمجة اللغوية والقراءة التصويرية وغيرها
    فجزاك الله خيرا استاذى
    وأسأل الله ان يجعل ذلك فى ميزان حسناتك

    [align=justify][align=center]مشى الطاووس يوماً باعوجاجٍ *** فقلدَ شكلَ مِشيتهِ بنوهُ
    فقال علام تختالون؟ قالوا: *** بدأتَ ونحنُ مقلدوهُ
    فخالف سيركَ المعوجّ واعدل *** فإنا إن عدلتَ معدلوهُ
    أما تدري أبانا كلُّ فرعٍ *** يحاكى بالخطى من أدَّبوهُ
    وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوَّدهُ أبوهُ[/align][/align]

  5. #5
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية
    كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    الصورة الرمزية Prof. Ahmed Shafik Elkhatib
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    1,295
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اسامه مصطفى الشاذلى مشاهدة المشاركة
    جزاك الله كل الخير أستاذنا عهدناك دائما
    فعالا ومؤثرا .. اننا حقا فى حاجه ماسة لان
    نعرف كيف يفكر القوم لكى نستخدم ما توصلوا
    اليه بعد ان نعرضه على ديننا الحنيف اولا ونرد مالا
    يتفق مع شرعنا .. فهناك الكثير من العلوم ليس عندنا إلا
    النذر اليسيرعن ماهيتها كالبرمجة اللغوية والقراءة التصويرية وغيرها
    فجزاك الله خيرا استاذى
    وأسأل الله ان يجعل ذلك فى ميزان حسناتك
    أخي الكريم الأستاذ أسامة الشاذلي
    أتفق معكم في أهمية منهجكم، وندعو الله العلي القدير أن يهدينا إلى ما ينفعنا.
    وجعل ما قلت في ميزان حسناتك إن شاء الله.

    أ. د. أحمد شفيق الخطيب
    أستاذ علم اللغة - قسم اللغة الإنجليزية - كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر
    (حاليا أستاذ بكلية التربية للبنات - الطائف - السعودية)
    مشرف على منتدى علم اللغة
    محرر باب (مقالات لغوية (وترجمية)) على بوابة الجمعية

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •