مــــــــواطن مــن ورق
لصلاح ابوشنب


خرج من امتحان الثانوية العامة بمجموع قليل فلم يجد امامه سوى المعهد الذى يتنـدّ ّر عليه الطلاب ، كان المعهد العالى بجوار منزله لايكلفه عناء ركوب المواصلات ولا الأنتظار الممل امام محطة الركاب . كان يمنى نفسه بانهاء الدراسة والحصول على البكالوريوس ، ثم السفر الى الخارج . كان مناه الا ّيصيبه الدور، فاحتال حتى حصل على الاعفاء من الخدمة العسكرية لكونه الابن الوحيد العائل لابيه البالغ من العمر الستين ولاخوته البنات ، كان سروره لا يوصف لحظة امساكه بشهادة الاعفاء ، أحس بانها بداية فتح الابواب الى خارج الوطن ، والخروج من دائرة الفقر والتخلف فى آن واحد كما كان يدعى ، انتسب الى مركز ثقافى لدولة تغنى بفكرها كثيرا، وتشدق بقوتها مرارا ، كانت سعادته غامرة عندما عرف أن رسوم الدراسة والتسجيل لا تتعدى جنيه مصرى واحد فى العام الدراسى كله ، ورغم هذا الاغراء لم يفلح فى دراستها ، ثقلت عليه واستصعبها ، فمال الى كـُتبها المترجمه الى العربية . كتب الى من كتب فبعثوا له بأكوام من كتب ، جراتيس ، أى بلا مقابل . فسُّرّ وابتهج واقتفى المنهج المنتهج ، ومرت الايام تجرى مُسرعة وفجأة وجدوا الشاب المعتدل قد انقلبْ ، وخُفى عن الناس السببْ . وكانت أول علامات انقلابه تركه الفرائض والتزامه النقائض ، وبغضه للأقارب والأباعد ، وانتقاده لكل معروف تليد ، وتهكمُه على المتبّع من التقاليد ، وكان أول رد فعل جاء من خطيبته حيث انتزعت الخاتم الذى كان قد أهداه اليها فى حفلة عائليه وألقته فى وجهه على مرْأى ومسمع الحاضرين ، التقطه من فوق الارض وضرب بالأرآء العرض ، وانسحب فى هدوء كقطٍ ينوء بالأمراض موبوء . فلما انحسر عنه الناس شعر بالغربة ووجد نفسه وحيدا بعد أن وقع فى حيص بيص . سافر الى أوروبا عله يجد فى صخبها ونيس . هناك افتتن بكل شىء من حوله حتى نعومة الاسفلت قال فيها شعرا ، ونظافة الارض كتب فيها نثرا ، وأسره التزام الناس بالنظام ، وكثرة العمل وقلة الكلام ، لكن فرحته تلك لم تدم طويلا ، وسريعا ما ألقى القبض عليه دون الاخرين لعدم حمل اقامه نظاميه ، ورُحّل وعاد بخفى حنين يجر اذيال الفشل ، كان ترحيله القسرى قد زاده حنقا وازدراءا لكل ما حوله ، فنقم على النظام والملوك والحكام ، ازداد كراهية وسخطا وندما على حظه التعيس ، انتقد العباد والجماد والحمير والجياد ، والمدن والبلاد ، حتى وصل الى اعتقاد ظن به انه فى مرتبة يسمو بها فوق رؤس العباد. تخيل انه هو الوحيد الفصيح الذى لم ير بناظره فى البلاد شيئا جميلا أو مريح ، كل شيىء فى ناظريه قبيح . لعبت مضامين الكتب التى كان يتلقاها لعب الخمر برؤس السكارى ، وفعلت بها الافاعيل أكثر مما يفعل أبليس فى رؤس الجواسيس ، فلعنة ُالله على الكتبِ وما حوتْ بما أودعتْ من سمومٍ فى الصدور وانطوتْ . كرهه أبواه وكثرت فيما بينه وبينهم المساجلات والشُـّحناء . استيقظ ذات يوم من نومه على ألم شديدٍ فى باطن قدميهِ ، ولم ينتصفْ النهارُ حتى تورمتا بشكل مخيفٍ ، أصابهما أحمرارُ أحس كأنما يحترقا بنار، لم يستطعْ ملامسه الأرض ِ ، كان يصرخ صريخ كالطفلِ الجريحِ ، حملوهُ الى الطبيبِ ذليلٍ كريبِ ، اندْهش من المرضِ العجيبِ، كتبَ له تذكرة دواء لم تجُدى مع الـّداء . شهرا كاملا قضاه ، منطرحاً علىَ َقفاه ، لآ يدرى ما اعْترآه ، حتى كان يُحمل حملاً كما يحملُ الطفل لأخراج أذآه ، أويجُر نفسَه على الارضِ جرًا بعكس الأتجاهِ رافعًا ساقيه الى أعلى َحشَاه ، خَشْية َأن تلامس الارضُ قدَمَاهُ .
كان حاله المُـزرىّ يُـّذكر مَنْ حَوْلهَ بالسّامِرىّ ، الذى دَعا عَليَهِ ُمُوسَى َفصَار أُضُحوكة ًللدّانى والقصّىْ أذِ قالَ : (( فاذهْبْ .. فان لك فى الحياةِ أنْ تقوُلَ لامِساسْ )) .97 طه
جَاءَهُ صَديقهُ الوحيد الذى كان على حاله شهيد ، يتفقدْ حاله بعد انقطاع ، احضر معه شيخا عالما علـّّه يرْجِع الى رُشْده فيأخذ ْعنهُ بذلك أجراً. لكنه هاجم الرجل وصاح فى وجهه وتشبّث بأفكاره القاتله فتركه الرجل وهو يقول : حسبنا الله ونعم الوكيل وأخذ يُرّددْ قول الحق تبارك وتعالى (( سنـُريهم أيآتِنا فى الأفـآق وفى أنفسُِهمْ حتى يَتبَيّنَ لهَمُ أنهّ الحقْ )) . سورة فصلت آيه 53
.. (( مِن ابتلاه بالدّاء قادر على أن يمُّنْ عليه بالشّفاء)) – بهذه العبارة علق الطبيب - ، وتصادف صدق الطبيب ، ولكن بعد شهر من الألم والعذاب ، وما أن تعافى وعادت اليه قوته وأصبح قادر على الحركة والقيام والخروج ، ازدادت أفكاره جرأة ، ودافع بحماس عن الفكر الداعمْ للقول بأن كل شىء تحركه الطبيعة من تلقاِء نفسِها ، لكنْ تلكَ الفرحة ُلم تدم طويلا ًحيثُ لمْ تمَْضِى ُسوى سَبْعة ُأيامٍ حتىّ استيقظ َمن نومه وكأن فى فمِه ثمرة ُمانجْو كبيرة ، توّرمَ لسانهَ وانتفختْ أوداجهُ وبدآ خـّدآه كبالونٍ على وشكِ الانفجاِر ، كلُ منْ يرآهُ يكتمُ ضَحِكهَ ُ، أما العينانُ فقدْ برزتا ، ناهيك عن ألألآم المُبْرحة فى الأُذنين والفم واللسان ، وما أن انتصف النهار حتى راح يجرى فى الغرفه ويقفز كما يقفز السعدانُ المصابُ بدآءِ السُّعَار ، فصار لا يتكلم الا ّ بالامارة ، رمزًا أو اشارة ، ورآح يطلب الماء البارد ليصبه على وجهه من شدة ما أصابه من حرارة ، ولم ينقضى اليوم حتى كان الفم قد سُدّ تمامًا وكأنه ألـُقمَ الطيّنَ اللاّذب والحجارة .
وقف الطبيبُ مذهولاً أمام تلك الحالة العجيبه والعائلة المُنهْارَة ، وغادر على الفور العمارة ، دون أن يكتبَ تذكرة ، أو يعطى استشارة .. كاظمًا غيظهَ ، وكل لبيب يفهم بالاشارة .حدث ذلك لما أبلغته والدة المريض بأن المرض السابق قد ذهب بغير أدوية فقال لها: مادام الأمُر كذلك فسوف يذهبُ هذا أيضا من تلقاءِ نفسِه اذا أرآد اللهُ .
سمع صديقه بما حدث فانتهزها فرصة واصطحب معه أحد العلماء فى محاوله لارجاعه الى حظيرة الايمان ، لكنه ازدرى، ولم يخشع قلبه لكلام الله بل تطاول واستهزأ فانصرفا موكلين أمره الى الله بعدما رفضا ان يقربا ما قدمته لهما والدته من واجب الضيافه وقررا أن يعتزلاه . كان والده قد أقسم بأغلظ الايمان الا يحادثه والا يخاطب لسانه لسانه حتى يرجع عما هو فيه .
لم تمر سوى ثلاثة أيام على مغادرة الشيخ المنزل حتى كان ماكان ، استيقظ والديه من نومهما على صراخ متواصل ، فاسرعت أمه اليه وما أن رأته حتى صرخت ورجت صرختها اركان العمارة فارتاع الناس وهرعوا اليهم ، انطلق أبوه من فراشه مفزوعا ، كان الفراش قد امتلأ بالدماء التى تنزف بغزارة من فمه وأنفه بينما صبغت الدماءُ بياض عينيه . فى سرعة البرق اختطفه والده بين ذراعيه ، كانت الحشرجه العاليه بداخل صدره مؤلمه وكـُف البصر ، والروح بين الصدر والحُلقوم محشورة ، والجسد ينتفض ، وكأن به مس من شيطان . تأكد والده أن ابنه يحتضر فراح يلقنه الشهادة ، كان القلب بالاقفال موصودا ، والجسد فوق الفراش ممدودا ، وزاد الرّان وطغى ، والتفت الساق بالساق ودمع الاب على الخدين يجرى من المئآق ، وها قد حانت اللحظه التى فيها الى الله المساق ، لكن الشاب أبى الشهادة، والوالد يلح الحاحا ويكرر تلقينه اياها وقد اصابه وجد شديد والفتى يحرك رأسه يمينا ويسارا وكأنه يأباها واخيرا نطق والحاضرون وقوف ينظرون قال فى سكرته : لينين .. كارل ماركس .. استالين .