وفي اليوم التالي انتابته حمى قوية. وبفضل المساعدة السخية من طقس بطرسبرج، تقدمت العلة بسرعة أكبر مما كان متوقعاً. عندما وصل الطبيب، وجس نبضه، علم أنْ لا كثير يمكن القيام به لأجله، وصف له دواءً رخيصاً، قال إنه مجرد رجل مريض لن تنفعه الأدوية لكن ينبغي ألا يحرم منها. وفي الوقت نفسه تنبأ بأنه لن يعيش أكثر من ست وثلاثين ساعة. بعد ذلك، التفت إلى مالكة البيت قائلاً: (أما أنت أيتها الأخت، فلا تضيعي وقتك معه، ابحثي عن نعش من الصنوبر، نعش البلوط سيكون مكْلِفاً بالنسبة له).
هل سمع أكاكي أكاكيفتش تلك الكلمات القاتلة؟ وإن كان قد سمعها فهل ساهمت في التعجيل برحيله؟ هل شعر أخيراً بمرارة حياته؟ لا نعرف إلا أنه استمر في الهذيان، لم تنقطع عنه الرؤى والتخيلات: رأى بتروفيتش وطلب منه أن يخيط له معطفاً جديداً يضمنه بعض الفخاخ لمنع اللصوص من سرقته، كان يصرخ أحياناً منبهاً إلى أن اللصوص قد قبعوا تحت سريره، بكى طالباً من مالكه البيت إخراج اللصوص من تحته، ثم تساءل لماذا علقت أمامه المعطف القديم بدلاً من معطفه الجديد، أحياناً كان يقف أمام (الشخصية الهامة) قائلاً: سامحني معاليكم، لكن في النهاية بدأ يشتم بأبشع الألفاظ، حتى مالكة البيت رسمت إشارة الصليب حين سمعته يشتم، أبداً لم تسمعه في حياتها يتكلم بهذه الطريقة، كانت هذه الكلمات تأتي مباشرة بعد كلمة (معاليكم). ثم تحدث بكلمات لم تعد مفهومة، لكن بدا واضحاً أن كل هذه الكلمات حامت دائماً حول شيء واحد هو المعطف.
أخيراً لفظ أكاكي أكاكيفتش أنفاسه الأخيرة. لم يختموا غرفته ولا أملاكه، لأنه أولاً لم يكن له ورثة، وثانياً لأنه لم يكن هناك سوى قدر ضئيل جداً من الإرث: أقلام كتابة من ريش الإوز، ملزمة ورق، وثلاثة أزواج من الجوارب، اثنان أو ثلاثة أزرار خاصة بالسروال، و معطف رث معروف للقارئ. لمن ذهب هذا الإرث؟ الشخص الذي اخبرني بذلك لم يستفد شيئاً من هذا كله. حملوا جثمان أكاكي أكاكيفتش ودفنوه. وبطرسبرج تُرِكَتْ دون أكاكي أكاكيفتش كأنه لم يعش فيها من قبل. كائن اختفى، كائنٌ كان مختبئاً أصلاً، لم يحمه أحد، لم يحترمه أحد، كائن دخل قبره دون أن ينجز شيئاً غير عادي، لكنه مع ذلك، وفي نهاية حياته، زاره كائن جميل ومشرق على شكل معطف، وهلل لمعطفه الجديد كما يفعل الفقراء، لكن عاوده سوء الحظ وهوى به على رأسه كما يفعل مع الفقراء دائماً.
بعد عدة أيام من وفاته، جاء فراش من الدائرة إلى بيته، يحمل له أمراً بأن يعود على الفور إلى عمله حسب (أوامر الرئيس!). لكن الفراش عاد محملاً بالخيبة، مع الإجابة أنه لا يستطيع الحضور، والسؤال، لماذا؟ والجواب شديد الوضوح: (حسناً، لأنه مات بالفعل، وتم دفنه قبل أربعة أيام). بهذه الطريقة سمعوا عن موت أكاكي أكاكيفتش في الدائرة، وفي اليوم التالي كان آخر، (ربما كاتب عمومي شرفي في الدرجة التاسعة) يجلس في مكانه وينسخ الرسائل لكن بطريقة أسوء.
لكن من كان يتصور أن هذه لم تكن نهاية أكاكي أكاكيفتش فقد كان مقدراً له أن يثير الاضطراب بعد موته، وكأن في ذلك بعض التعويض له عن مرارة حياته؟ وهذا ما حدث، وكُتِب على قصتنا البائسة أن تنال نهاية غريبة.
فجأة انتشرت شائعة قوية في بطرسبرج أن رجلاً ميتاً قد عاد إلى الظهور على جسر كالينكين، وأنه يترصد الموظفين العموميين ويسرق معاطفهم وذلك تحت ذريعة كونها معاطف مسروقة، هو يسحب المعاطف من على الظهور والأكتاف دون اعتبار للرتبة أو الوظيفة، أو نوع قماش الياقة: فرو القط، قندس، محشو، ثعلب، راكون، باختصار هو يسحب كل أنواع الفراء والجلد الذي يضعه الرجال على أكتافهم وظهورهم. أحد موظفي الدائرة رأى شبح الرجل الميت بأم عينيه، وسرعان ما لاحظ أنه أكاكي أكاكيفتش، خاف ومُلئ بالرعب، وركض بكل قواه، ولم يعد للبحث عن معطفه خصوصاً بعد أن هدده الشبح من بعيد بإصبعه.
تدفقت الشكاوى من مختلف الجهات، مشيرة إلى أن ظهور وأكتاف ليس الكتاب العموميين فقط بل حتى المستشارين تتعرض للبرد بسبب كثرة سحب معاطفهم، قامت الشرطة ببعض الترتيبات للقبض على الجثة، وبأي ثمن، حية أو ميتة، ومعاقبتها حتى تكون عبرة لغيرها، وبأقسى طريقة, ويبدو أنهم نجحوا في ذلك بعض الشيء، فقد قام شرطي من حرس زقاق كيروشكين، بالقبض على الجثة وهي تحاول سرقة معطف موسيقي متقاعد كان أحد أفضل نافخي المزمار في زمنه. بعد أن أمسك بالجثة من الياقة، صرخ في اثنين من رفاقه طالباً مساعدتهم، فمن المفترض السيطرة عليها وإمساكها بسرعة، لكنه في نفس الوقت التفت إلى حذائه، كان يرغب في سحب علبة السعوط، من أجل تدفئة انفه المتجمد، لكن يبدو أن السعوط كان من نوعية لم تستطع حتى الجثة تحمل رائحته. الشرطي لم يكن مستعجلاً، أقفل منخره الأيسر وسحب السعوط بمنخره الأيمن، لكن الجثة عطست بعنف، الأمر الذي أدى إلى ملء وجوه الحراس الثلاثة بالرذاذ واللعاب، وبالتالي رفعوا اكفهم لمسح وجوههم، ثم اختفت الجثة تماماً، حتى أنهم شكوا عما إذا كانت الجثة فعلاً كانت بين أيديهم على الإطلاق. بعد ذلك أصيب الرجال الثلاثة بحالة من الرعب بسبب رؤيتهم لعدد من الأموات وقد أحاطوا بهم، وأخيراً صاروا يصيحون من مسافة بعيدة: (أنت هناك، اذهب في طريقك) ومرة أخرى عاد الشبح للظهور على جسر كالينكين، مسبباً الكثير من الرعب للمارين من فوقه.
لعلنا أهملنا تماماً (الشخصية الهامة)، الذي يمكن اعتباره سبب التحول الغريب في هذه القصة الحقيقية. أولاً وقبل كل شيء، والعدل يضطرنا إلى القول إنه بعد رحيل البائس أكاكي أكاكيفتش شعر (الشخصية الهامة) بما يشبه الندم. المعاناة تتعبه وفي قلبه الكثير من الدوافع الجيدة، ولأن رتبته كثيراً ما تمنعه من الظهور على حقيقته. فإنه حالما ترك مكتبه، بدأ التفكير في أكاكي أكاكيفتش. ومنذ ذلك اليوم كان أكاكي أكاكيفتش الذي لم يستطع تحمل التوبيخ الرسمي يتكرر في عقله كل يوم تقريباً. التفكير في أكاكي أكاكيفتش شغله إلى حد ما، بعد أسبوع، عقد العزم على إرسال أحد موظفيه للتقصي عما يمكن عمله فعلاً لمساعدته وذهل عندما قيل له أن أكاكي أكاكيفتش توفي فجأة من الحمى. أنبه ضميره، واكتأب باقي يومه ذاك.
ولرغبته في نسيان الموضوع بطريقة أو بأخرى، والتفكير بعيداً عما حدث، قرر زيارة منزل أحد أصدقائه حيث سيجتمع هناك بأصدقاء آخرين، وأي شيء أفضل من ذلك، سيكون الجميع من نفس رتبته، ولن يشعر بالحاجة إلى تقييد نفسه ومحادثاته وتصرفاته. وكان لهذا تأثير رائع على حالته الفكرية. توسع في المشاركة، وكان مقبولاً في المحادثة، ساحراً ومرحاً. باختصار ، فإنه أمضى وقته مسروراً. وبعد العشاء شرب بضعة أكواب من الشمبانيا. قرر عدم العودة إلى بيته، ولكن الذهاب لرؤية صديقة يعرفها، كارولينا ايفانوفا، وهي سيدة ألمانية، وكان على علاقة ودية قديمة معها. تجدر الإشارة هنا إلى أن (الشخصية الهامة) لم يعد شاباً صغيراً، ولكن زوجاً، وأباً محترماً لعائلة تتكون من ولدين، أحدهما في السادسة عشرة من عمره، ومظهره جذاب، وابنه فتيّة ذات أنف صغير وجميل تقبل يده كل صباح قائلة: (بنجور، بابي)، أما زوجته، فحسنة المنظر، يقبل يديها وتقبل يده. لكن (الشخصية الهامة) حتى ولو اقتنع تماماً بالعلاقات الأسرية، رأى أنه من المناسب أن يكون له صديق في ربع آخر من المدينة. هذا الصديق كان بالكاد أجمل و أصغر من زوجته. عموماً هناك الكثير من الإلغاز في هذا العالم، وليس بإمكاننا الحكم عليها.
هكذا نزلت (الشخصية الهامة) من الدرج، ركب عربته، وقال للحوذي (ايفانوفا كارولينا)، وبترفٍ لف نفسه في معطف دافئ، وجد نفسه مسروراً في موقف لا يجد الروسي أفضل منه، عندما تكون مع ذاتك، وتراودك الأفكار الجميلة، تأخذ منها ما تشاء، وتدع مالا تريد، فذلك سيجعلك سعيداً ومرتاحاً بالتأكيد، تذكر كل أوقات مرحه هذا المساء، والطرف التي أضحكت مجموعة الأصدقاء، وكرر بعضها بصوت خفيض، ووجدها مازالت مضحكة حتى الآن، لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يكرر الضحك من القلب مرة أخرى.
لكن مع ذلك، كانت هَبّات الريح الفجائية تشوش عليه أفكاره في بعض الأحيان، وأحياناً كانت تصفع وجهه نثرات الثلج الباردة، وتملأ سترته حتى تشبه الشراع، أو تمر فوق رأسه محدثة صوتاً قوياً. فجأة شعر (الشخصية الهامة) بأن هناك من يجره من ياقته البيضاء، التفت فرأى رجلاً ذا قامة قصيرة، في ملابس رثة وبالية، ولاحظ برعب أكاكي أكاكيفتش، كان وجهه أبيضاً كالثلج، وكان يتطلع إليه مثل جثة، لكن خوف (الشخصية الهامة) بلغ حده الأقصى عندما رأى الرجل الميت وقد فتح فمه لتخرج منه رائحة القبر الرهيبة قائلاً له: (آه، أنت هنا أخيراً! وصلت لك، من الياقة البيضاء! أنا بحاجة إلى معطفك، . لم تفعل أي شيء لأجل معطفي، فقط قمت بتوبيخي، الآن اخلع معطفك)، بهتت (الشخصية الهامة) حد الموت، على الرغم من أنه كان شجاعاً في المكتب وبحضور من هم أدنى منه رتبه، ومتميزاً بكامل صفات الرجولة في الشكل والمظهر، الآن وفي هذه الأزمة، أصبح مثل عديدين يملكون قوى خارجية، لكنهم في مواجهة الرعب يصابون بالخوف، ويعانون الفشل.
على عجل قذف معطفه من على كاهله، وصاح في الحوذي بقوة: (البيت بأقصى سرعة)، يعرف الحوذي النغمة التي تستخدم عادة في اللحظات الحرجة، لوح بسوطه وطار إلى البيت كالسهم. وفي خلال اقل من ست دقائق كان (الشخصية الهامة) أمام مدخل بيته. خائفاً، وبلا معطف، ذهب إلى بيته بدلاً من ذهابه إلى كارولينا ايفانوفا، توجه إلى غرفته، كانت ليلته كئيبة ومرعبة، في صباح اليوم التالي وعلى مائدة الشاي قالت له ابنته: (أنت شاحب اليوم، بابي)، أطرق (بابي) ولم يقل لأحد ما حدث له، وأين كان، وأين كان ينوي الذهاب. ما حدث خلف أثراً عميقاً في نفسه، وبدأ يقلل من مقولاته الشهيرة لمرؤوسيه: (كيف تجرؤ؟ هل تدرك من الذي يقف أمامك؟) وحين يتحدث أصبح أكثر رغبة في معرفة تفاصيل الموضوع. النقطة الأهم هو أن شبح أكاكي أكاكيفتش لم يعد للظهور، يبدو أن معطف (الشخصية الهامة) قد ناسب كتفيه، وفي جميع الأحوال لم يعد يُسمَع عن حوادث خطف معاطف مؤخراً.
لكن يبدو أن العديد من الأشخاص القلقين لا يرغبون في جلب الطمأنينة حتى لأنفسهم، أصر بعض هؤلاء على أن الكاتب الميت مازال يظهر نفسه في أماكن مختلفة من المدينة، في الحقيقة فإن خفيراً ضعيفاً في كولومنا شاهد بعينيه شبحاً قادماً من خلف أحد المنازل، لكنه لم يقبض على الشبح، بدلاً من ذلك اتبعه إلى الظلام، لكن الشبح توقف فجأة ثم التفت إليه وسأله: ( هل تبحث عن المشاكل؟)، وهز أمامه قبضة ضخمة، أضخم من أي قبضة يمكن أن تجدها في كائن حي. (لا) أجابه الخفير عائداً، هذا الشبح كان أطول عموماً، كما أن له شارباً ضخماً، مشى باتجاه جسر أوخوف وحالاً ذاب في ظلمة الليل.
.
.(( تمـــت))
مــودتي
المفضلات