سبق و أن تشرفت من قبل بإيراد جانب من سيرة أحد الفنانين التشكيليين المصريين ممن رحلوا و طواهم النسيان، إذ لم يكن لهم حظ من مهارات تلميع الذات و تسويق النفس في حلبات الشهرة و مواطن الصيت؛ و هو الأستاذ "زكي مرسي" رحمه الله، و ذلك على منتدى الحوار البصري و التشكيلي.
و إذا بيد العناية الإلهية توجهني لأقع على جانب من تراث واحد من المغبونين الراحلين ممن أثروا حياتنا الثقافية في عقدي الخمسينيات و الستينيات في مجالات الشعر و علوم اللغة و البحوث الدينية، فضلا عن اضطلاعه بمهمة تربية أجيال على خير ما يكون من خلال موقعه كأستاذ معلم و رائد من رواد التربية و التعليم؛ ذلك هو الأستاذ "محمد مرسي حسان" الشاعر و الباحث و اللغوي، و الذي ما زال تراثه محفوظا لدى ابنته الكريمة الدكتورة/ أميرة محمد مرسي التي نفخر جميعا بزمالتنا إياها في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، و هي بدورها إحدى الجنديات المجهولات في الحركة التشكيلية المصرية في شقها الأكاديمي؛ نظرا لما أسدته من أياد لمكتبة الكلية التي أضحت تفخر بفضلها باقتناء مئات المراجع النادرة في شتى مباحث الفنون البصرية على شمولها.
و لي رغبة هنا في أن أسير عكس المتبع المعروف من إيراد السير الذاتية للمبدعين و جوانب من حياتهم قبل إيراد شواهد من إبداعاتهم؛ حيث أرى أن خير تعريف بهذا الرجل إنما ينبع من التعرف على نتاجات قريحته التي تكشف عن طوية سليمة و انشغال دائم بطلابه الذين كانوا مدار حياته في ذلك الزمن الذي كان فيه الأستاذ أستاذا.
و كان له - رحمه الله - مذهب غريب في شعره؛ إذ وقفه جله إن لم يكن كله على هدف واحد هو تثقيف طلابه و ترقيق مشاعرهم و توجيههم نحو مواطن الجماليات اللغوية و كنوز التراث، لذا تراه يربأ بنفسه عن التكسب من القريض أو التماس الشهرة من طريق غشيان المحافل الأدبية، إذ كان يرى أن غرس يديه في عقول و قلوب طلابه أجدى و أنفع في دنياه و أخراه، و لهذا كنت لا تعدم أن تراهم أبطالا لقصائده و محاورا لأفكارها.
يقول رحمة الله عليه في قصيدة معنونة ب(مثال الشقاء)، بمناسبة انتحار إحدى طالباته في يوم 20/ 10/ 1965:
كرهت الحياة فماذا صنعت بموت كريه كثير العناء
شربت السموم بقلب عنيد و عقل سقيم كثير الغباء
فيا قاتل الله نفسا تموت انتحارا و تكفر عن كبرياء
كأن الحياة عطاء قليل و هل فوق تلك الحياة عطاء
وهبنا الوجود بخيراته أفي القبر نبغي سعيد البقاء
دعونا نفكر أين السعادة أين النعيم و أين الهناء
هناك بقبر دليل كئيب و دود و بعد عن الأصدقاء
أم السعد في العيش وسط الحياة كفاحا و حبا و حسن رجاء؟؟
لحا الله عقلا يفضل موتا على العيش مهما استطال العناء
فكل عناء يهون إذا ما قهرنا بنا اليأس أصل الشقاء
هبي كل بؤس أتى في الحياة أنهرب منها لدار الفناء؟
هنالك رب شديد العقاب لكل كفور بذاك الرخاء
ظلمت أباك الكبير المسن و تلك الغريقة وسط البكاء
ظلمت أخاك و أختك لما قضيت بنفسك ذاك القضاء
ظلمت الزميلة حين أقمت أمام العيون مثال البلاء
فهلا رحمت الدموع الغوالي و عشت لنا يا أعز رجاء
إلى الله نرجو لك الرحمات فأنت لعمري مثال الشقاء
المفضلات