النظام العالمي الجديد لن يكون أمريكياً

أميركا...الرجل الذي فقد ظله

إنه لمن دواعي السخرية أن من ينادون اليوم بالنظام العالمي الجديد ويروجون له لن يكونوا هناك في عداد المؤلفين له والواضعين لقواعده والمشاركين في ريادته. فالنظام العالمي الجديد الذي تشدقت به كونداليزا رايس ليس هو النظام العالمي الي سيتم ترقيته في الواقع بدلاً من النظام المهترئ الحالي. ومن الواضح أن أميركا التي تزعمت العالم في قيادة أحادية بعد تفكك الإتحاد السوفياتي لم تستطع أن تمسك بزمام الأمور وتلعب دور القائد لأسباب عديدة أهمها عدم وجود البعد التاريخي في العقلية الأميركية وعدم حساب أي اعتبار للتراث الحضاري للأمم التي كانت تسعى لقيادتها، فبدت كطفل شاءت الظروف في مملكة أن يقود الكبار.

بيد أن البعض لا يزال يفكر تحت تأثير تعاطي الوهم القائل بأن أميركا لا تقهر وأن الألة الأميركية بإمكانها أن تفرم كل من تسول له نفسه معارضتها. وذلك إنما مصدره التركيز علي التاريخ المعاصر وإهمال الحراك التاريخي الذي يشير دائما إلى أن عوامل القيادة لا تتوقف عند القوة وحدها. وكما زالت امبراطوريات وأمم من قبل، فإن أميركا قد استنفذت مرحلتها التاريخية وأضاعت الفرصة على شعبها أن يفخر بتقديم تراث فكري للبشرية مثل الحضارات التي نشأت واختفت من قبل. ولم تضف إلى تراث الإنسانية شيئاً غير التقدم المادي الذي لم تصاحبه طفرة موازية على الصعيد الفكري، وخرجت إسهامات الأميركيين في مضمار حداثي متحلل من كافة الأطر الدينية والإجتماعية. فلقد ساد الشذوذ الفكري والجنسي كل توجهاتها وأصبح ما كانت ترفضه الثوابت التاريخية مشروعاً باسم الديمقراطية وحرية الفكر والعقيدة، في حين أن حرية الفكر والعقيدة مقيدة على المستوى الفعلي ولصالح الصهيونية المتطرفة، ويكفي في أي بلد أوربي أن يتهم كاتب مقالة ما بأنه معاد للسامية حتى يذهب مستقبله الأدبي أدراج الرياح، إن لم يفقد حريته ويسجن، فضلاً عن تراجع كافة دور النشر عن التعامل معه تحت تهديدات شتى. ومثال ذلك الكاتب الفرنسي رجاء جارودى الذي كتب مفنداً أكاذيب المحرقة (الهولوكوست) وما أصاب غيره والملف في ذلك ضخم ومخيف.

لقد رشح البعض من المنظرين السياسيين أن تلعب أميركا دور القاضي في النزاعات الدولية، فإذا بها تسعى إلى دور الشرطى، ولم تحقق سوى دور المجرم المخالف للقوانين والأعراف الدولية، ولم تمر فترة في التاريخ يمتهن فيها القانون وتتردى فيها العلاقات الدولية مثل الحقبة الأخيرة من القرن الماضي والأولى من هذا القرن الذي بدأ ساخناً وتزداد سخونته يوماً بعد يوم بما ينذر بتحوله إلى قرن عاصف ودموى مثل القرن الماضي الذي لطخت الدماء حقبتيه الثانية والخامسة بحربين عالميتين خلتا من أى قيم أخلاقية ومعايير. ولعل غياب التأثير الإسلامي في صياغة أحداث القرن الماضي هو السبب الرئيسي في تهافت القيم الجماعية للمجتمع الدولي إلى هذا المستوى المتدني للغاية. ولم يجد العالم سوى الثورة البلشفية وحروب الإحتلال والتحرير وتقسيم ألمانيا وكوريا وتفتيت الوحدة الإسلامية والعربية والحربين الساخنتين والحرب الباردة والتراشق الإعلامي ومخلفات شتى تعوق التنمية وتقتل البشر إلى يومنا هذا. وبرغم كل ذلك لا زالت هناك جوائز تمنح للسلام. وهذا هو بعض حصاد القيادة الأميركية الباغية للعالم فضلاً عن إعتداءاتها اللاإنسانية على حريات وحقوق دول عديدة مثل فيتنام وكوبا وأفغانستان والعراق وليبيا والسودان وغيرها من الإعتداءات التي لن ينساها التاريخ أبدا.

وكما هو الحال في قيادات العالم السالفة تأتي العوامل الإقتصادية في مقدمة العوامل التي تجبر الأمم على الإنسحاب نحو الداخل والإنكفاء على الذات والعزوف عن المشاركة التاريخية بفعالية. هكذا سوف تبدأ أميركا في المرحلة التاريخية القادمة في الإنزواء والتركيز على مشاكلها الإقتصادية التى لن تمهلها الفرصة للعودة إلى محك الأحداث. ويكفيها ما يدور حالياً في كواليس المؤتمرات الإقتصادية والسياسية حول البحث عن بديل للدولار الأميركي الفاقد للأهلية، بل بديل لأميركا نفسها والتي يتوقع الإقتصاديون لها أن تتنحى عن المقدمة بخطوات كثيرة جداً إلى الوراء بسبب العوامل الإقتصادية التي ستركعها في القريب العاجل. وقد بدأ فعلاً سيناريو التنحي الأميركي على المستوى الإقتصادي وينتظر أن يخلف بوش المتهور جورباتشوفاً أميركياً يأخذ بيد الأميركانيين إلى الصف الأخير ويغرق في حل النزاعات التي ستتفجر بين الولايات الأميركية التي تتحول بعضها إلى دويلات وتلتحم بعضها بدول أخرى مجاورة أو تعود إليها. هذا فضلاً عن مشاكل الأفارقة السود والهنود الأصليين والمهاجرين مما يصعب على أى زعيم مهما بلغت حنكته تأليفهم.

يبقى سؤال رئيسي وهو: من الذي يمكنه أن يسد الفراغ الذي سيحدث في مركز قيادة العالم؟ إن روسيا السابقة قد تركت إرثاً من المرارة وعدم المصداقية لدى مناصريها الذين اكتشفوا خواء مزاعمها وعدم اتساق مواقفها وتركهم نهبا للمعسكر المقابل فجأة وعلى حين غرة، فليس سهلاً أن يعود إليها كرسي العرش، فضلاً عن أهنا لم تشف من جراحها بعد وفقدت الكثير من معسكرها الذي انضم إلى الإتحاد الأوربي أو يوشك أن ينضم. والصين تعوقها مسألة عدم بناء الجسور وعدم وجود رؤية واضحة لدى المجتمع الدولي حول ما يمكن أن تفعله الصين إذا ما أمسكت بقيادة العالم، هذا فضلاً عن العوامل الثقافية التي تفصل بين الصينيين البوذيين وبين المسلمين وأهل الكتاب. وأما بالنسبة إلى الإتحاد الأوربي فهو لا يصلح للمهمة لخلفية معظم أعضائه العدائية وتاريخ الإحتلال القريب والذي لن يسمح بمد جذور التقارب بين الشعوب الأوربية والشعوب الأخرى في الشرق الأوسط وآسيا. ولم يبق هنا سوى المارد الإسلامي الذي بدأ يفيق من غفوته وبدأت الصحوة الإسلامية تعبر عن نفسها بشكل منتظم، وما هذه الهجمات التي يتعرض لها الإسلام سوى محاولات مستميته من القوى المعارضة للنهوض الإسلامي لمنع ما لا يمكن منعه. فالإسلام ينتشر في ربوع أوربا، شاء ذلك قادتها أم أبوا، ويدخل كل دار ويؤسس وجوداً قوياً سوف يستمر إلى ما شاء الله له أن يستمر. وما حال المسلمين اليوم إلا نموزجاً متكرراً لحالهم قبيل كل صحوة. فمقتل صدام حسين وما أورثه من إحساس بالمهانة لدى كل عربى أيا كان موقفه من الرجل، ليس بأوقع أثراً من مقتل خليفة المسلمين العباسي على يد هولاكو خان بعد أن سلم نفسه له وأهله طواعية وبانكسار أذل المسلمين. وما فقدت بغداد اليوم ليس ليقاس (نسبياً) بما فقدته قبيل الصحوة التي عصفت بالتتار وعادوا من بعدها قوماً مسلمين. هذا وإن غداً لناظره قريب.