الحقوق الصحية للإنسان في الإسلام
الدكتور صلاح الدين محمد أبو الرب
بسم الله الرحمن الرحيم
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً)
( الإسـراء 82)
خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وسخر له ولذريته الأرض وما عليها بيئة طيبة ليعيش فيها, مستمتعاً بما سخر له من نبات, وحيوان, وماء وهواء، وبما وهبه من معرفة, ومن مقدرة على البحث والإستنباط والإستنتاج.
وطرأت متغيرات على الحياة في هذا الكوكب, تراوحت بين التغيرات البطيئة والسريعة, مما أدى إلى التغير في السلوك البشري وعلاقته مع نفسه أو مع غيره, مما أحدث تأثيراً مباشراً على الإنسان ,فأختلفت مفاهيمه ونظرته للأشياء, بما فيها صحته والتي كان يحاول دائماً أن يصل فيها إلى درجة عالية من القوة, تمنحه فرصة البقاء حياً للتمتع في مباهج الحياة، فأتبع بذلك وسائل عديدة تختلف بإختلاف علومه ومداركه وما توفره له البيئة من مواد أوليه، تحقيقاً لمصالحه الشخصية الفردية والجماعية ، متعاوناً بذلك مع غيره من بني البشر.
يقول الشاعر :
الناس للناس من بدو ومن حضر بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وكانت الصحة أحد أهم الأمور لتي بحثها وخاض فيها العلماء من بني البشر, وأختلف مفهوم الصحة مع إختلاف الحضارات, وتطور العلم وتعديل سلم الأولويات بين فترة وأخرى... فنجد في الحضارة الفرعونية, الحث على النظافة الشخصية في الإستحمام اليومي والحمية والصحة الغذائية وكانوا يهتمون بأكل الخبز بكامل مكوناته ,حتى أطلق عليهم البعض " أكلة الخبز ".
وجمع المصريون كل ما عرفوه من أعراض الأمراض, وما توصلوا إليه من علاجات, في كتاب السفر المقدس, فكان الطبيب منهم يلتزم بما ورد بهذا الكتاب حرفياً ولا يحيد عنه, وإلا إعتبر مخالفاً يتحمل وزر موت المريض.
وفي العهد البابلي ظهرت قوانين حمورابي, وهي قوانين صارمة لمزاولة مهنة الطب, فيها عقوبات شديدة, كانت من أسباب عزوف الناس عن مهنة الطب والعلاج.
وجاء أبقراط الذي أعتبره المؤرخون أبو الطب, بقسمه المشهور ,فكانت بنوده ذات إلتزام أدبي أكثر من تحديد المسؤولية والعقوبات على الخطأ الطبي.
وفي الحضارة الصينية كانت هناك دعوات للإبتعاد عن وصف الدواء بقدر الإمكان والإهتمام بالأغذية الضرورية, واللازمة .
وأهتم اليونانيون بالمدن,فكانوا يفضلون المنازل الواسعة والأجواء المفتوحة,والمعرضة للشمس, وأهتم الرومان بالصحة البدنية والرياضية.
- 1 -
أما في أوروبا في العصور المظلمة فقد سادت الخرافات والسحر والشعوذة وأختفت القوانين الطبية، حتى أنه في بعض الأماكن إذا مات المريض أثناء العلاج,كان يسلم الطبيب المعالج لأهل المتوفى ولهم الخيار بين تركه أو قتله.
وفي بيت المقدس في القرن الثالث عشر كانت المحاكم الصليبية تحكم بمسؤولية الطبيب عن كل ما يظهر بأنها أخطاء وتصل العقوبة فيها للقتل.
وفي الجزيرة العربية لم يكن هناك حضارة ذات أقدام ثابتة, فأنتشرت الشعوذات والعادات السيئة, مع البيئة غير الصحية, فكثرت الامراض,وزادت وفيات الأطفال لأسباب مرضية, وكان الإعتقاد أن الشيطان يسكن في جسم الإنسان ويسبب له الأمراض .. وكانت مهنة الطب في الغالب حكراً على الكهنة.
وبدأ يتغير الأمر مع ظهور الدين الإسلامي وإنتشاره, والذى كان من أهدافه إقامة مجتمع مثالي, معتمداً على تشريع إلهي, مصدره القرآن الكريم والسنة النبوية, والرأي والإجتهاد،لإدارة شؤون المجتمع في كافة نواحيه ومنها النظام الصحي .. فكان لهذا النظام العقائدي مفعول المعجزة.
وقبل الحديث عن صحة الإنسان والمجتمع, علينا أن نتعرف على بعض المفاهيم التي لها علاقة:
فالصحة وحسب تعريف منظمة الصحة العالمية, هى : حالة السلامة والكفاية البدنية والنفسية والإجتماعية وليس مجرد الخلو من المرض والعجز.
وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في 12/1948 نجد مجموعة من الأمور يرى الموقعون على هذا الإعلان أنها حقوق للإنسان, ولا يوجد فيها نص واضح للإلتزام فى التنفيذ إلا في المادة 29 :
أ- على كل فرد واجبات إزاء الجماعة.
ب- لا يخضع أي فرد في ممارسة حقوقه وحرياته إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفاً منها ضمان الإعتراف بحقوق وحريات الآخرين.
ولم يختلف كثيراً الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي نشر في سبتمبر / 1997 فهو يحتوي على مجموعة من الحقوق وكثير من البنود بدأت بكلمة لا يجوز.
أن حقوق الإنسان وحرياته جاءت في القوانين والتشريعات المدنية والعهود والمواثيق , تعداداً ومناشدة, ليس لها صفة الإلزام سوى الإلتزام الأدبي فقط ,وحتى البنود الخاصة بذلك في العهود والمواثيق, ما هي إلا جمل إعلامية رنانة, بقيت دون تفعيل ولم تبين أي من هذه القوانين أو المواثيق كيفية الحصول على هذه الحقوق، وما هي الطرق الواجب إتباعها في حال إنتهاك هذه الحقوق ، سوى الإلتجاء للقضاء أوالشكوى للجمعيات الاهلية, أوالإقتناع بحملة ( الشكوى لغير الله مذلة).
أما الإسلام فقد إرتقى بهذه الحقوق إرتقاءا كاملاً وطرحها بصورة مختلفة، فوضع تصوراً عاماً للحياة الدنيا, ينبثق من العقيدة ويهتدي بهداها.
- 2 -
ومن أجل ذلك نجد أن العبد المسلم يحاسبه الله على كل أفعاله إن كانت له أو عليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما فعل فيه وعن ماله من أين إكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه".
ولكي يحاسب الإنسان على كل أعماله كان من المنطقي والضروري أن يكون التشريع الإسلامي شاملاً جميع جوانب الحياة وليس الروحي منها فقط. فلم يغفل الإسلام عن أمر من أمور الدنيا والآخرة لنا فيها منفعة إلا أشار إليها أو فصلها.
قال تعالى :
" ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"
( سورة النحل آية 89)
لقد بين الدين الاسلامي موضوع الحقوق بالشكل التالي:
1- نعم وهبات منحها الله للإنسان مسلما كان أو غير مسلم, وهذه الهبات إما أن تكون في ذات الإنسان كنعمة البصر والسمع وبقية الحواس، ونعمة ذاتية الدفاع ضد الأمراض بما ينتجه الجسم من مضادات للجراثيم، وهناك التشريعات التي أمر بها لله الإنسان في الأديان السماوية ومنها الدين الإسلامي بأمر إفعل ولا تفعل، وفيها العبادات وتحريم بعض الأفعال، وبعض الطعام وبذلك تتحقق أسس وظيفة الخلافة في الأرض وإعمار هذا الكوكب، وعلى الإنسان بعد ذلك أن يسعى لحماية صحته وإصلاح بدنه ليستمر في هذا العطاء وهي التي يسأل عنها العبد( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) (سورة التكاثر آية 8)
2- وهناك واجبات على الفرد أن يقوم بها، هي عبادات يتعبد بها المسلم ويتقرب بها إلى الله جل وعلا، من ناحية ومن ناحية أخرى هي أعمال تصب في فائدة الأفراد الآخرين لتغطي نقصاً لديهم في أمر مهم لإستمرارالحياة, وهي التي تسمى حقوق الإنسان، ويحصل عليها الفرد في المجتمع المسلم من خلال أداء الغير لواجباته، وعليه نستطيع أيضاً أن نقول بأن كل حق هو واجب للغير، وكل واجب تجاه الغير هو حق ينتفع به العبد.
أما إنتهاك حقوق الإنسان فهي شكل من أشكال(البغي، الظلم، العدوان، الإفساد في الإرض) وعليه نستطيع القول إن حقوق الإنسان في الإسلام:
" هي الواجبات والمباديء والتعاليم التي لا يمكن أن يعيش بدونها الإنسان ولا تستمر الحياة كما يصورها الإسلام إلا بتوفرها ... ومنها حق الصحة والحياة.
نستطيع القول أيضاً بأن أي إنتهاك لحق من حقوق الإنسان في المجتمع الإسلامي هو سقوط في الجاهلية وخروج عن تعاليم الدين فقد حفظ الإسلام للإنسان كرامته، فمن حق الإنسان أن يستمتع بالهواء النقي ويشرب الماء النقي ويأكل طعاماً جيداً ويسكن مسكناً جيداً ويستمتع ببيئة جميلة وأن الذي يفكر بإنتهاك حقوق الإنسان بأي صورة من صورها فهو ينتهك حرمة المجتمع وتكاتفه وترابطه فنعتبره بذلك هو الضحية الأولى لهذا الإنتهاك،إن أرقى مظاهر التدين وهي حالة حفظ وإحترام حقوق الإنسان.
- 3 -
وحسب الشريعةالإسلامية فإن الحقوق التي تجب على الإنسان المسلم هي أربعة أقسام :
- حقوق الله من عبادات وواجبات.
- حقوق النفس
- حقوق الغير من العباد.
- حقوق الغير من غير بني البشر (الحقوق البيئية).
هذه الحقوق تفسر على شكل قوانين وتعليمات يبين بعضها القرآن والسنة صراحة وبعضها ضمناً أو قياساً وهذه شرائح هي لحفظ الضروريات الخمس (الدين ، والنفس والنسل والمال والعقل) أما حفظ النفس والنسل والعقل فلا تتم إلا بحفظ الصحة مما ممكن أن نسميه فقه الصحة.
تقول الدكتورة عائدة عبد العظيم البنا في كتاب الإسلام والتربية الصحية وهو أصلاً رسالة دكتوراه قدمت لجامعة أنديانا الأمريكية تقول:
" يحتوي القرآن والسنة على العديد من التعاليم الصحية .... فإذا ما جمعت هذه التعاليم الصحية وصنفت على نحو صحيح فسوف تكون أساسا يبنى عليه برنامج متطور شامل للتربية الصحية، ... وفي نهاية الأمر فسوف تصبح السلوكيات والإتجاهات الصحية السليمة جزءاً من أسلوب المسلم في حياته وليس مجرد مادة يتم تدريسها في المدارس".
ولما كانت الصحة نعمة من نعم الله فعلى الإنسان أن يحافظ عليها بما وهبه الله من مقومات الحفاظ المادية المحيطة به وبإتباع التعليمات والنواهي التي أمره بها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعمتان مغبون فيها كثير من الناس الصحة والفراغ " (رواه البخاري)
أما ذاك الذي ينفر بنفسه وبقوته وبشبابه ويتبع الأسلوب العكسي مستهلكاً فيه قواه في الملذات من الطعام والشراب وينغمس بالكحول والمحرمات ويقبل على التدخين متحدياً الأمراض عليهم أن ينتبهوا للآيه:
"ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
(سورة الأنفال آية53)
لقد إهتم الإسلام بصحة الفرد وصحة المجتمع، بما قدم من توجهات قرآنية لحماية صحة الإنسان بطريق مباشر أو غير مباشر فكان القرآن بذلك منهاج حياة نستمد منه الهداية والدستور الذي نسير عليه في مختلف نواحي الحياة ... ويقر الإسلام بوجود المرض فإذا حدث المرض على المسلم أن يسعى للعلاج وعليه أن يتحمل الألم ويعتبره نوع من الإبتلاء يكفر الذنوب، وهو فرصة للثواب إن صبر وإحتسب ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلــم " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياها".
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص حيث أصيب بمرض ما :
"إنك رجل مفؤود فأتى الحارث بن كلده أخا ثقيف ، بأنه رجل يتطبب" وفيها دعوة صريحة للعلاج والبحث عن الطبيب الماهر.
- 4 -
ويروي الإمام أحمد في مسنده عن أسامة بن شريك قال " كنت عند النبي وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله انتداوى قال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داءا إلى وضع له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله.
المفضلات