فلسفة والم
خطبة فلسفية
القسم الثاني



وما نحن عليه الآن.. أيها الأخوة، هو أنني أحاول يائساً جذب انتباهكم ودغدغة أذهانكم، كي تصبروا لتقتنعوا بأنني عدت إليكم لحاجة ملحة في نفسي أفردها تحت مجاهر عقولكم كي تستبينوا ما كان خافياً عليكم... المشكلة الوحيدة التي تعترض سبيلي هي أنني لم أتوصل بعد إلى هذا الشيء الغريب العجيب والمشرق الذي قد يأسر عقيلتكم ويمتع ألبابكم.
ولكن ريثما أوفق بالعثور على هذا الشيء،اسمحوا لي مؤقتاً أن أحدثكم عن صديقي الصيدلي.. وهو رجل دمث الأخلاق، صبور ومتأن، رحب الصدر، كريم ومتسامح فكلما أتاه مريض بطلب الدواء طببه نفسياً برونق كلامه ودعائه له بالشفاء العاجل وعدم احتياجه إلى الأدوية مطلقاً !
فقلت له: تخيل لو أن الله عز وجل يستمع إلى دعاتك. ، فيشفي الناس من أمراضها ولا يحتاجون إلى الأدوية والصيدليات، فماذا كنت ستفعل... ؟
فقال وقد أحمرت وجنتاه: مشكلة... فقد أبخل بالدعاء لأن دعائي يناقض حلمي بالنجاح....هذا لا يعقل أن تسبب تمنياتي بالخير للآخرين عائقاً وسبباً يبعد الخير عني....هذا لا يعقل ! وأيضاً لا يعقل البتة الا أتمنى الخير للآخرين .... فأنا أحيا نقيض ما أحياه وأتمناه !!!
فقلت له: أرأيت... لأنك بعيد عن الروح... ولأنك تثمن كل شيء على أن يكون ماديا ملموساً...وجدت نفسك في مأزق فكونك لن تبيع الدواء الذي يشفي...
معناه أنك ستعلن إفلاسك.. ولكي لا تعلن إفلاسك تضطر قسراً الا تتمنى الشفاء للآخرين.. أهل هذا صحيح ؟
فماس برأسه أيجاباً ثم استطرد سائلا ً: وماذا كنت ستفعل أيها الشطار ؟
فقلت له مازحاً : لو كان الله يستمع إلى دعائي بإشفاء الناس لبدأت ببيع الدعاءات... إنها أهون وأربح !
فقال لي: اطمئن... الدعاءات باللغة العربية لا تُلبى
ولهذا يا صديقي فسيبقى المرض مرضا... وستبقى الأدوية أدوية.. وسأظل أتمنى الشفاء لهم !! هذا هو حالنا.
صحيح، هذا هو حالنا، وهذا هو حالي.... حالة متواصلة من التناقضات، لهذا فكثير ما أعجز من الوصول إلى قرار يحميني من جحيم الحيرة والبلبال ويمنحني نعمة الإتجاه الواحد... نعمة اليقين حتى ولو كنت على خطأ !! وعموماً، فأنا معتاد على مثل هذا الحال من التردد والتأرجح واستخدام حق الفيتو بالتملص من إدانة هذا السلوك اللامجدي أبداً في إخراجي من ورطاتي المتأصلة في نهج حياتي .
فماذا أفعل، وقد ابتليت بعقل ملحاح مقياسه الوحيد الحقيقة غير المرغوب فيها... وحظ أعور يأبى ان يرى الا عيوبي ومزالقي ؟ فتخيلوا ان ما يشغل بالي الآن، هو ما قاله لي أحد الناس البسطاء... اسمه معين، قال: آمن بالله إن كنت عاقلا ً... وأن كنت جاهلا ًتعقل !!
وهذا الكلام الجميل ينفي بشكل من الأشكال دور العقل الذي لم يفلح بأن يتخلص من قوانينه... والتي تتلخص في كونه لا يعقل الا ما يخضع لقوانينه.... أجل العقل البشري هو مجرد دكتاتور ينفي كل من لا يقع تحت سيطرته وسلطته... إنه الحاسوب في الجسد البشري ... الذي يتغذى من معلومات سببية... أجل وجدت الكلمة السببية ... فهولا يستطيع أن يفهم شيئاً غير سببي ! على كل شيء أن يتمرحل في عالمه كي يستوعبه في عالمه الإستنتاجي . ولكن، يُخيل لنا أحياناً بأننا نعاني الشيء دون أن نعيه.. نُحسه دون أن نفهمه ونفضح كنهه... وهذا جيد، بل قل، أحسن ما في العقل... وهو أنه يستوعب عدم الوضوح أيضاً...يستوعب ما لا يُفهم.. ولا علم لنا فيما إذا كان يرده إلى الإحساس كي يخلق انطباعاً ذاكرياً، ليتمسك به ريثما يغور إلى تفاصيله. المهم. أنه يملك قدرة الترصد والإحتفاظ بما لا يفهم !! ويملك قدرة التعايش مع لا يفهم.. له القدرة على الصبر والتأني حتى يفهم ! فالعقل البشري مبني على النقائض فهو لا يفهم...وعدم الفهم أحياناً سبب لفهمه... إلا لكان الإنسان مجرد حاسوب مجمل ظاهره كظاهرة بادية، هو بما يملك من معلمات سببية. ولكن من أبدعه، لم يشأ كما يبدو، بأن يجعل لميكانيكيته وجبريته الآلية سلطاناً ونفوذاً مطلقاً على الجسد البشري.... بل جعل له النفس والغرائز والإحساس والحواس معيناً يتغذى منه ويرتوي.... وينهل عينات فكره ونظامه المنطقي. ولهذا فهو يفكر تفكيراً تقربيباً ، ويفكر تفكيراً دقيقاً، ويفكر تفكيراً صورياً ، وتفكيراً تراكمياً وتشبيهياً ورمزياً وغيبياً وشاعرياً . شيء من كل شيء، فهو يلائم ويشابه ويطبق، ويتفق وينفي عن وعي وعن غير وعي.... فهل سمعتم عن حاسوب يستطيع العمل إن نقص من معطياته الملقمة له فرض واحد أو احتمال...؟
أكاد أشعر بالملل الذي أصابكم من هذا الشرح الذي هاجمت به صبركم ونباهتكم...وبالطبع أراكم تتساءلون ما لهذ ا وذاك، والحقيقة لا أستطيع الإجابة، فأنا نفسي، لا أعرف ما يحل بخيالي وما يحل بفكري الذي يشذ دائماً عن سياق ما أنا فيه من حديث.... هذه عادة... أصبحت في مصاف النمطية السلوكية والمنهجية في فكري... لربما نتجت هذه العادة عن كدس الأفكار والتراكمات والتلقيم المبالغ فيه لفكري بالكتب والمجلات والدراسات والتأملات والإصغاءات غير المحدودة للذي يحدث في هذا العالم الُمنطير، الضال، والذي بعكس ما تأمر به الهداية، يبحث عن ضلال أضل ليستظل بظلها !
هذا ما حدث دائماً، وهذا ما حدث لي في أحد الأيام، حين صفع هذا الضياع روح الأرض العظمى... كان ذلك حين صهل الشفق كحصان أصيل مغازلا ً الشمس المتسلله إلى خلف البحر الذي تكلل بظفائر شقراء... فأعتلاه المساء كفارس أسطوري، وراح يتسكع على أرصفة الإفق الكوني، لأهياً بمباهج الأحلام .... مودعأً بنغمة كئيبة .. حزينة، ألفين من الأعوام.... صاغياً منتظراً.. ساعة بعثٍ جديدة ...!
ولما انتصفت ساعة الأزمان العظيمة... وتأهب الكون لبداية ألف جديدة... أقبلت الريح ألعاتية، صاغرة.. صاغرة ...تعتمر رأفة الأمومة ولمسة الأنسام العليلة...مداعبة برقة حميمة مفاتن الأعشاب والأزهار والأغصان.... منتظرة
ساعة الولادة الجديدة !وشِِِقّت السماء أجفانها الذابلة كحلم عذراء لعوب، تستلقي على وسائد الرجولة..فتلألأت النجوم كدموع الفرح.. واسترسلت بضوء هامس تنير سحنة الأرض من ظلامها الدامس وتتهادى متراقصة خجولة... منتظرة لحظة اليقظة الكبيرة!!
وحين أشرقت اللحظات الأخيرة، العبور إلى منابع السكينة، تأججت والتهبت روح الكون الأبدية..وتعازمت إرداة الوجود وانبجست من مجاهل الغيب ضوءاً سحرياً،سرعان ما تكائف واستحال إلى جسد أنساني مستلق ٍ تحت أشجار الكرمل الظليلة متنعم بسبات عميق. ودنت منه الريح وراقصت شعره المرسل قائلة:
- أهلا ً..يا وليد الأسطورة الضائعة... قدمت إلينا من مجاهل الأزمان حاملا ً إلينا معالمها الخفية !!
ولامست أضواء القمر والنجوم سحنته البريئة وقالت:
- أهلا ًيا خبيئة الحقيقية.. يا كنزاً تكشف بريقه أمام حدقة الاخيلة الطليقة !!
وتململت روح الأرض الأزلية، وهمست في مسامع روحه الفتية :
أنهض يا رحيق المعرفة القدسية..انهض من بين ذراعي أحلامك المتهادية،على ضفاف شغفك الهائج، بمفاتن الحكمة ومسامي مباهجها الغيبية، أنهض وبشر الإنسان سيد الزمان بسر حكمتك العظيمة .
وتململ في هجعته،ثم فتح عينيه متثائباً، فتمطى حتى انتفخت أوداجه، وانتصب واقفاً ينظر إلى أطراف الغابة الخضراء ، وهمس في مسامع روحه :
أيتها الطبيعة...أيتها العروس المتجدده.... بثوبها الأخضر الفتان...الموشى بدرر الحياة...المحلى بإنفاس الأحياء المعطرة بأزهار الفل وشقائق النعمان.... ونسائم الصباح والغروب، المبلله برحيق الأقحوان وأنفاس الريحان !!
أيتها الطبيعة....الدائرة أبدأ، على محور البقاء، أدركت همسك ومكنون سرك....وأيقنت أن روحي العامرة بحقائق الصيرورة الأبدية....شرعت تتهادى على ضفاف العقل الهائجة صفحتُه فوق كنزه الدفين !
أيتها الطبيعة، أيتها الفاتنة المتجددة التي لا تسن ولا تشيب، ولا ترضخ لشيخوحة الفناء..
أيتها الأم التي لا يجف لها ثدي.... لا يمحل رحمها..... ولا يصاب سعيها بالشلل !!
إرفقي بروحي العطشى... إرفقي بمداركي الطموحة.... ومديني بقوت من الحقيقة....
فأنبثق صوت من المجهول ويقول:
إعلم يا سليل إرداتي إنك وروحي واحدة !
إعلم أن كل شيء تحقق في شكلٍ تلاءم وإرداته الجزئية
وأعلم أن من كل واحد في الكون، واحد فقط ....
وأن لا أرواح وإنما روح واحدة تربط الكون بالبقاء ...
أجل ... هذا ما حدث ... رغم أنه لم يحدث !!
أنه نوع من الحالة التي أصابتني أو جزء منها، فكما أنني لم أغادر ولذا فأنا عائد إليكم.. كذا الأمر هنا ... فهذا ما حدث رغم إنه لم يحدث... لأنه حلم ..... ولكن ورغم أنه حلم إلا أنه حقيقة... أجل حقيقة لا تستسيغها عقولنا ولا مداركنا بل تتراءى لحدسنا الفوقية... فكيف استميل نباهتكم لتصديق هذا الهوس الفجائي الذي ضرب عقيلتي فأدمى منطقها بهلوسات لا يتبناها عقل ولا يستضيفها فكر... فتخيلوا ما أحاول قوله: للكون روح واحدة تصول وتجول، تلامس بسحرها أجزاء الوجود فتدب بها الحياة، تلامس الجسد، فتستيقظ فيه الحياة وينمو الوعي، الإدراك والحس !!
لا توجد في الكون أرواح، لا بالجمع المؤنث ولا بالمذكر...توجد روح واحدة .. هذا ما أنبأني به الحلم ذاك.. الذي حلمته وأنا على شرفتي ارتشف من الغروب رحيق السماء.
تخيلوا ما أحاول سرده لكم من أننا جميعاً بنو البشر أخوة في الروح.... وأننا جميعاً أحياء الأرض، أخوة لإم واحدة، لها القدرة على خلق ما لا نهاية له من أشكال حياة ووعي !!
وليس هذا فحسب بل أني أحاول أن أقول بأن مصدر الكون الرحب هذا هو روح ووعي!!
فهل يفيدنا هذا القول بشيء نسد به رمقنا الحضاري والثقافي الإجتماعي؟
لا أعرف... وأراهن أنكم لا تعرفون أيضاً... لكن لا بأس في ذلك، فمصدر حضارة الإنسان ينبع من تجنيد كل معارفه من أجل ما لا يعرف.... كي يعرف في نهاية الأمر كم لا يعرف...وهذا ألامر العجيب الغريب، رغم تناقضه المفرط تعاكساً، يؤدي في نهاية المسلك إلى وضوح جزئي يمتع العقل والبصيرة...
فهل متعتم عقولكم ولو مرة واحدة ؟
أعرف...أعرف... لا تحبون أن يتدخل أحد بشؤون عقولكم... إنها مصانه بالذي فيها! والذي فيها لا يعرفه أحد... هذا حقكم .. وحقكم وقفٌ عليكم لا علي . !
ولا دخل لي بهذا كثيراً، فقد قال لي أحد الأصدقاء، بأن الشعوب العظيمة تخلق الأساطير لتمتع عقولها وتثيرها...
وكلما أصاب الخذلان شعب معين يعود إلى التمسك بإيمان العجائز وخرف المسنين! وهذه حقيقة نوعاً ما، فحين فقدنا الإحساس بأساطير ألف ليلة وليلة، وشعبيات: تغريبة بني هلال، فيروس شاه، عنترة العبسي، جحا ، أشعب وسيرة الأميرة ذات الهمة علي الزيبق المصري، علي بابا والأربعون حرامي وغيرها، فقدنا القدرة على خلق أساطير حديثة تدعم أحلام ثقافتنا وشعبنا....ولهذا لم يكن هاري بوتر وسبايدر مان (رجل العنكبوت )عربيين ولا شرقيين إنما إنجليزيين... ولم يكن سوبرمان وباتمان والمرأة الخارقة إلا أمريكيين، فهل أغضبكم تحرشي بعقولكم.... إذن إغضبوا فقد يفيدكم ويفيدني الغضب في أن نشرع في خلق أساطير نحقق بواسطتها أحلامنا !

حسناً أرى على سيمائكم اللاإكتراث بما أقول ... فاعذروني...كثيراً ما أقع في مثل هذه الأخطاء، فأجد نفسي أحدث الناس بأشياء لا تعنيهم وأشياء أخرى غير مفهومه، لأنهم لا يفهموها، وكثيراً ما أنال عقابي.. وكثيراً ما يكون العقاب مؤلماً ومحرجاً.
فقد شاءت الظروف أن أحضر حفلة زفاف كثر بها الهرج والرقص والغناء، فدب الطرب بعقولهم ونفوسهم وأقدامهم... وباتت الخمرة تزغرد من أفواههم وبطونهم وأطرافهم....وعلا الصراخ والتأوه حتى خيمت على الجو نشوة من طرب مخبولٍٍٍ ثملٍ... فملت على أحدهم، وكنت الصاحي الوحيد في الاحتفال وقلت له:
أتعرف بأن تطور الشعوب يقاس بالموسيقى الخالصة التي يؤلفها ملحنوها وليس بالأغاني الراقصة والإقاعية فقط!؟ فنظر إلى وقد أحمرت مقلتاه... وأنفجر ضاحاكاً..!