اجرة البواب على حساب مدام جورجيت
مدام جورجيت
صلاح ابوشنب
أرض الباشا خربة واسعة تقع على شاطىء بحر المينـــــاء الشرقى بحى الانفوشى . بانوراما رائعة تمد بها عمائر الصف الثانـــى لطريق الكورنيش ُيرى من خلالها الساحل كاملا من لسان السلسله حتى لسان قلعة قايتاباى الذى شيده الاسكندر ليصل به الى جزيرة فاروس . . عمائر الصف الاول للشاطـــىء متباعــدة البنيان تفصل بينها مسافات واسعه .. مأذنة جامع القائد ابراهيم .. تمثال سعد باشا زغلول . تمثال الخديوى اسماعيل . المحكمة الكلية .. بانوراما رائعه .. خليج الميناء الشرقى .. نجمتى البوغاز الحمراوتين تومضان من بعيد .. فى هذا المكن المتميز تقف عمارة جورجيت ذات الواجهه الايطاليه المزخرفه شامخه بجبسياتها الناتئه ، ورؤس الأسود المكشرة عن أنيابها ، ُشرفاتها محاطه ببرامك مرمرية من رخام الكرارة الايطالى الناصع البياض ، فخامه ، ضخامة ، مهارة .. يعرف السكان بعضهم بعضا .. يجمعهم الود والوئام ، يتجالسون ويتسامرون . زمن ولى وانطوت صفحاته ، كان للطهى فيه رائحه جذابة مشهية ، وللطعام مذاق ولذه . كان الاخلاص يملأ قلوب الناس .. وكان الطعام يُطهى مختلطا بالاحساس والأنفاس .. من باب العماره تداعب روائح الاطعمه انوف سكان الحارة . . الاطباق الاولى حق الجار الاول . . هكذا كانت تقول امى .. أما جلسة العصارى فكان لها مذاق خاص ، حيث تتواعد النسوة ويصعدن الى السطوح الواسع لقضاء الامسية .. نسيم البحر الطلق يضفى على وجوههن بشاشة ونضارة . وملوحته تكسبهن حلاوة واحمرارا ، اطفالهن من حولهن يرتعون ويلعبون .. بعضهم يحلو له استراق السمع من أفواه الامهات .
عمارة جورجيت تتكون من خمس طوابق ارتفاع الطابق اربعة امتار . ايجار الشقه فى الشهر خمسة جنيهات . وأجرة البواب واستهلاك المياه على حساب مدام جورجيت .. تستخدم أم شادى المصباح ذو الشمعات الخمس اقتصادا فى الاستهلاك ، تتفاخر أمام جاراتها وهى تعطى القريشات لمحصل الكهرباء لقاء فاتورة الاستهلاك الشهرى ، كلما تحركت اصابعها لاضاءة السهارى الوحيده تحركت مقلتيها نحو قرص العداد لتطمئن الى انخفاض سرعته فان رأته بطيئا يحدو هواها ، امتلئت سرورا . تركبُ الغيرةُ كهرمانه لنجاح ام شادى فى ترويض عدادها ، فتسارع هى الاخرى الى زوجها تطلب منه أن يشترى لها مصابيح الخمس شمعات كى توفر من مصروف بيتها ما يمكنها من الدخول فى جمعية مع باقى جاراتها لشراء كردان ذهب بندقى عيار اربعة وعشرين قيراطا من الخواجه انطوان صاحب محل الذهب بزنقه الستات .
حين ارتفعت الاسعار ووصلت أوقة اللحم الشمبرى أربعين قرشا طالبت مدام جورجيت سكان العمارة برفع الاجرة ولكنهم رفضوا ، يأست .. تفتق ذهنـُها عن طريقه تطرد بها السكان دون اللجوء الى القضاء الذى لن يكون فى جانبها ، بسب تأبيد عقد الايجار الذى كان يعطى الحق للساكن بأن يتحول الى مالك مقابل خمسه جنيهات فى الشهر . توجهت للمشرحة الاميرى ، طلبت من التمرجى ان يزودها بزجاجة من الماء المتخلف عن غسيل قتلى الحوادث ، بعد أن دست فى قبضته قرشين ونصف القرش ، اخذت الزجاجة ، طلبت من الحارس أن يرشها على سلم العمارة بحجة طرد الحسد ففعل بثقه . كانت الست فادية وزوجها الحاج مهران كييفة قهوة لا سيما أن الحاج مهران تاجر بن مشهور فى سوق الدقاقين . تستمتع الست فادية بتحميــص البـن حسبما علمها زوجها ، تطحنه بمطحنتها النحاسيــــة أثناء جلوسها بين جاراتها فوق السطوح تتحدث تارة وتحرك مقبض الطاحونة تارة اخرى .. مع دوران الطاحونة وسمر العصارى تمر الساعات كالثوانى . كانت رائحة البن اليمانى الفاخر المخلوط بالهال تدعو الى ارتشاف فنجال القهوة باشتياق ، مهام مقسمه فيما بينهن . الست أم رشدى مسؤلة السبرتايه والكنكة النحاسية والفناجيل الواردة من الصين ورثتها عن أمها التركيه . وبطبيعة الحال كانت الست فادية هى المكلفة بالبن اليمانى المعتبر . الست أم نورهان مسؤلة تموين السكر والشاى .. الست ذكية مكلفة بطبق المكسرات الفاخر الذى لا يخلو من ابو فروة المحمص والبركه فى زوجها الحاج جميل تاجـر المكسرات بشارع السكه الجديده . كل النسوان كييفه لم ينقصهن سوى الدخان والشيشه .
كهرمانة أحدث عرائس سكان العمارة وأصغرهن سنا ، تلاحظ أن جاراتها يسارعن بانهاء أمسيتهن قبل دخول الليل رغم ان ازواجهن يعودون الى بيوتهم فــى ساعات متأخرة من الليل . انتبهت لقيامهن بتحذير اولادهن بعدم البقاء فى الشارع بعد الغروب . كانت اغلب الشقـق لديها مصباح متنقل يتدلى عنـــــد صعود أو نزول احد السكان أو الزوار فى ساعات متأخرة من الليل . سالم زوج كهرمانة صاحب كيف فى شرب القهوة ، ذات ليلة طلب مــــــن عروسته كهرمانه أن تصنع له فنجال قهوة ، فوجئت بـــأن البن قد نفذ ، طلب اليها النزول الى الست فاديه لاستعارة حفنة من البن.
قالت كهرمانه لسالم : من الافضل أن تنام فالصبح على وشك الطلوع . لكن سالم ركب رأسه .أبى أن ُيغمض له جفنٌ حتى يشرب القهوة مع الكيف الهُبَاب . فتحت كهرمانة الباب ، هبطت الدرج المظلم متوجهة الى الطابق الثانى من العمارة . الجميع نيام ، السكون مطبق ، الرعب يحيط بها . وضعت كهرمانة كف يدها فوق الكابستان الخشبى للدرج . وصلت الى الدرجه السادسه عشر ويدها فوق الكابستان .. فجأة أحست بقشعريرة انتشرت فى انحاء جسدها ، تصلب شعر رأسها تسمرت فوق الدرج قدماها .. قطعة من لحم نيىء مسربله بدماء حارة ، أحست بسخونتها تستقر فوق قبضتها ..تحاول الصراخ فلا تستطيع .. خيالات تتراقص امام عينيها .. عيون كثيرة حمراء تنظر اليها ، تطلق شررا .. اصتكاك اسنانها لا يسمعه سواها فجأة .. انعكس شعاع ضوء القمر من خلال فتحة السلم العليا ، عندئذ انطلقت صرخاتها تهز اركان العمارة .
+++++++++++++
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خالد ساحلي
المفضلات