آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

    هذه الدراسة مهداة إلى أخى الأصغر مختار، الذى يحب الأستاذ محمد عفيفى مطر الشاعر المعروف إلى درجة الافتتان، سواء على المستوى الإنسانى او بوصفه شاعرا، والذى كان فى منتصف السبعينات من القرن المنصرم طالبا فى المدرسة الثانوية العسكرية بكفر الشيخ حيث كان الأستاذ مطر يشتغل بها مدرسا، فقامت علاقة بينهما ما زالت ماضية حتى الآن رغم أنهما لم يلتقيا منذ زمن طويل إلا قبل أشهر. وقد كنت أتممت هذه الدراسة قبل أشهر أنا أيضا، إلا أن هذه أول مرة أنشرها. ويسعدنى أن تكون ساحة منتديات واتا هى أول مكان يتم نشرها فيها. ولكن ماذا فى الدراسة؟ الجواب فى الملف المرفق، وكل عيد أضحى وأنتم بخير وسعادة. وأرجو أن تجدوا فيما سطرته مفاتيح كاتوبى شيئا نافعا.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

    هذه الدراسة مهداة إلى أخى الأصغر مختار، الذى يحب الأستاذ محمد عفيفى مطر الشاعر المعروف إلى درجة الافتتان، سواء على المستوى الإنسانى او بوصفه شاعرا، والذى كان فى منتصف السبعينات من القرن المنصرم طالبا فى المدرسة الثانوية العسكرية بكفر الشيخ حيث كان الأستاذ مطر يشتغل بها مدرسا، فقامت علاقة بينهما ما زالت ماضية حتى الآن رغم أنهما لم يلتقيا منذ زمن طويل إلا قبل أشهر. وقد كنت أتممت هذه الدراسة قبل أشهر أنا أيضا، إلا أن هذه أول مرة أنشرها. ويسعدنى أن تكون ساحة منتديات واتا هى أول مكان يتم نشرها فيها. ولكن ماذا فى الدراسة؟ الجواب فى الملف المرفق، وكل عيد أضحى وأنتم بخير وسعادة. وأرجو أن تجدوا فيما سطرته مفاتيح كاتوبى شيئا نافعا.


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    محمد عفيفى مطر مترجما للشعر
    د. إبراهيم عوض
    Ibrahim_awad9@yahoo.com
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    قال الجاحظ فى كتاب "الحيوان" بشأن الترجمة عمومًا، وترجمة الشعر بوجهٍ خاصّ: "والشعر لا يُسْتَطاع أن يُتَرْجَم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حُوِّل تقطَّع نَظْمُه، وبطَلَ وزنُه، وذهب حسنُه، وسقطَ موضعُ التعجب، لا كالكلام المنثور. والكلام المنثور المبتدَأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي تحوّل من موزون الشعر... وقد نُقِلَتْ كتب الهند، وتُرْجِمَتْ حكم اليونانيّة، وحُوِّلت آدابُ الفرس، فبعضها ازدادَ حُسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا. ولو حوّلت حكمة العرب لبطل ذلك المعجزُ الذي هو الوزن، مع أنهم لو حوَّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكرْه العجم في كتبهم التي وُضِعَتْ لمعاشهم وفِطَنهم وحِكَمهم. وقد نُقِلَتْ هذه الكتبُ من أمَّةٍ إلى أمّة، ومن قَرْن إلى قرن، ومِن لسانٍ إلى لسان، حتى انتهت إلينا، وكنا آخر مَنْ وَرِثها ونظر فيها، فقد صحّ أن الكتب أبلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر. ثم قال بعضُ مَنْ ينصر الشعر ويحوطه ويحتجُّ له: إنَّ التَّرجُمان لا يؤدّي أبدًا ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهِبه ودقائق اختصاراته وخفيَّاتِ حدوده، ولا يقدِر أن يوفيها حقوقها، ويؤدِّيَ الأمانة فيها، ويقومَ بما يلزمُ الوكيلَ ويجبُ على الجـَرِيّ. وكيف يقدِر على أدائها وتسليمِ معانيها والإخبار عنها على حقِّها وصدقها إلا أنْ يكونَ في العلم بمعانيها واستعمالِ تصاريفِ ألفاظِها وتأويلاتِ مخارجِها مثلَ مؤلِّف الكتاب وواضعِه؟ فمتى كان رحمه اللّه تعالى ابنُ البِطرِيق وابن ناعمة وابن قُرَّة وابن فِهريز وثيفيل وابن وهيلي وابن المقفَّع مثلَ أرِسطاطاليس؟ ومتى كان خالدٌ مثلَ أفلاطون؟".
    وقال أيضا: "ولا بدَّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقولِ إليها، حتَّى يكون فيهمِا سواءً وغايةً. ومتى وجدناه أيضًا قد تكلّم بلسانين علمنا أنَّه قد أدخل الضيم عليهما لأن كل واحدةٍ من اللغتين تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها. وكيف يكون تمكُّن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكُّنه إذا انفرد بالواحدة، وإنَّما له قوّةٌ واحدة، فإنْ تكلّم بلغةٍ واحدةٍ استُفْرِغَتْ تلك القوّة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين؟ وعلى حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات. وكلما كانَ الباب من العلم أعسرَ وأضيق، والعلماءُ به أقلّ، كان أشدَّ على المترجِم وأجدرَ أن يخطئ فيه. ولن تجد البتّةَ مترجمًا يفي بواحد من هؤلاء العلماء"(1).
    كما نقل ياقوت فى مقدمة "معجم الأدباء" عن جاحظنا أيضا قوله: "عيوب المنطق التصحيف وسوء التأويل والخطأ في الترجمة: فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف والتثقيل، ومن قبل الإعراب، ومن تشابه صور الحروف. وسوء التأويل من الأسماء المتواطئة. أي أنك تجد اسمًا لمعان، فتتأول على غير المراد. وكذلك سوء الترجمة"(2).
    وأرود أبو حيان التوحيدى فى كتابه: "الإمتاع والمؤانسة" حوارا بين متى بن يونس (ت 328هـ) المترجم الذى كان متعصبا لليونان وثقافتهم وأبى سعيد السيرافى النحوى المشهور (ت 368هـ) ذكر فيه السيرافى، على نحو غير مباشر، عدة من المحاذير التى يمكن جدا أن يقع فيها المترجم، بل لا تكاد الترجمة تنفك منها: "قال متى: يونان، وإن بادت مع لغتها، فإن الترجمة حفظت الأغراض وأدت المعاني، وأخلصت الحقائق. قال أبو سعيد: إذا سلّمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوَّمت وما حرَّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلَّت بمعنى الخاص والعام ولا بأخص الخاص ولا بأعم العام، وإن كان هذا لا يكون، وليس هو في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وضعوه، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه"(3).
    وواضح من هذه النصوص مدى وعى علمائنا القدامى بأن المترجمين لا يمكنهم نقل الأصل على وجهه الذى أبدعه فيه صاحبه إلى اللغة التى يترجمون إليها مهما بذلوا وسعهم واستفرغوا كل جهدهم. أى أنهم كانوا على علم بطبيعة الترجمة وحدودها، وأن ما يؤديه المترجمون لا يمكن أن يجىء مطابقا تمام المطابقة للنص الأصلى. وهذا ما يعنيه الأوربيون حين يتحدثون عن صعوبة الترجمة فيقولون على سبيل المجاز: "traduttore traditore, the translator is a traitor, le traducteur est un traître"، أى "المترجم خائن"، بمعنى أنه من الصعوبة عليه بمكانٍ الخلاصُ تماما من الأخطاء مهما احترز وبذل من جهد وفتح عينيه طوال الوقت وقبض على زمام اللغتين اللتين يعمل بينهما وراجع ونقح.
    ذلك أن المترجم الأدبى، وهو الذى يهمنا هنا، إنما يحاول الدخول إلى عقل إنسان آخر واقتناص خواطره وانفعالاته وأفكاره ودقائق معانيه. وأنَّى له ذلك، والسياق الذى يعمل هو فيه يختلف عن السياق الذى أبدع فيه صاحب النص نصه، والخلفية الثقافية والفنية والأدبية التى ينتمى إليها المبدع تختلف عن خلفيته هو، والظروف الشخصية تختلف فى حالته عن حالة من يترجم له؟ كما أن الأديب لا يقول فى إبداعه كل شىء، ولا يكون واضحا فى ذهنه كل شىء، بل تظل هناك زوايا وخبايا ومناطق مظلمة أو معتمة أو مغبَّشة أو تغشّيها الظلال على الأقل، ومعان وأحاسيس روّاغة تستعصى على القنص، وأقصى ما يمكنه عمله إزاءها هو أن يشير ويومئ. فإذا أضفنا إلى هذا أن العمل الأدبى ليس كلمات وجملا ناجزة فحسب، بل ثغرات ومساحات متروكة أيضا، وأنه يقوم على الإيجاز والتكثيف والتقديم والتأخير والمجازات والاستعارات والكنايات والتوريات، وأن فيه كثيرا من العبارات والصُّوَر والتراكيب والألفاظ والألوان البديعية والإيحاءات التى لا تقابلها عبارات وصور وتراكيب وألفاظ وإيحاءات فى اللغة المنقول إليها، أو على الأقل: لا تقابلها مقابلة مباشرة، علاوة على أن إشعاعات كل لفظة والتاريخ الذى تحمله على ظهرها والتقاطعات والعلاقات اللفظية التى ترتبط بها تحتلف عن إشعاعات اللفظة التى تقابلها على الناحية الأخرى والتاريخ الذى تحمله على ظهرها والتقاطعات والعلاقات التى تربطها بغيرها من الألفاظ والعبارات، وإذا عرفنا فوق ذلك أن مبدعه كثيرا ما يقصد الغموض قصدا، إن لم يَنْحُ نحو الاستغلاق نحوًا، تلذذًا منه أو فلسفةً أو تفلسفًا، وأن الشعر، إلى جانب هذا كله، يقوم ضمن ما يقوم على الوزن والقافية والتقطير الشديد والتصرف فى اللغة تصرفا واسعا تحت ضغط المساحة الضيقة التى يتحرك فيها والقيود الثقيلة التى تطوق قدميه ويديه، تبين لنا أن الترجمة ليست أبدا بالمسألة الهينة. وهذا كله إن لم يتعمد المترجم الخيانة تعمدا كى ينقل شيا آخر غير ما فى النص، وربما عَكْس ما فى النص، وكثيرا ما يحدث هذا لغرض فى نفس يعقوب، أو على الأقل: قد يقتحم ذلك الميدان اقتحاما دون أن يكون مؤهلا له فلا تكون معرفته باللغة التى يترجم منها كافية لتمكينه من أداء المطلوب كما هو الحال فى كثير ممن يتصدَّوْن لتلك المهمة الشاقة ولا يأخذون فى اعتبارهم حجم المشكلة التى يحاولون النهوض بأعبائها. وهذا أيضا لون من الخيانة، وإن كان أقل فى الفداحة من الناحية الخلقية من اللون السابق. ويدخل فى الخيانة أيضا أن يقوم شخص ما بالترجمة دون أن يبذل الجهد المطلوب الذى يستطيعه لو أراد.
    ويقول بروس ميتزجر، فى دراسة له بعنوان "Trials of the Translator"، إن المترجم، بالغا ما بلغ الجهد الذى يبذله والتركيز الذى يقوم به، فإن النتيجة التى يصل إليها لا تأتى أبدا وفاق المطلوب ولا يمكن أن تحظى برضا الجميع، فضلا عن أن يكون الراضى هو المترجم ذاته إذا كان ذا حساسية وضمير. ذلك أن النص يحتوى فى كثير من الأحيان على عدد من الشِّيَات الدقيقة المتقاربة، وعلى المترجم أن يوازن بين تلك الشِّيَات ليختار منها ما يراه أقرب إلى ما فى النص. ومن ثم يصف الساخرون عملية الترجمة بأنها "فن القيام بالتضحية المناسبة"(4).
    كذلك وقعتُ فى نفس السياق على مقال فى الترجمة الأدبية بقلم فرانسواز ويلمار (Françoise Wuilmart) عنوانه: "La traduction littéraire bien comprise، وفيه أن الترجمة نوعان: ترجمة علمية، وتتطلب أقصى قدر من الحيادية والموضوعية، وترجمة أدبية، وهنا مكمن الصعوبة، ذلك أن النص الأدبى إنما يعكس نظرة المبدع إلى الحياة والعالم، وهى نظرة فردية ملونة تتمحور حول ذات صاحبها فتعطى النص نكهته وصوته المتفرد، فضلا عن أن النص فى حد ذاته نسيج معقد من الكلمات والروابط والتراكيب والإيقاعات والأنغام لا يقول كل شىء، بل يترك أشياء كثيرة لا يتحدث عنها حديثا صريحا، مكتفيا بالإيماء والحديث الضمنى. ثم إن هناك عقبتين تواجهان المترجم فى النصوص الأدبية هما الإطار الثقافى الذى ينتمى إليه المبدع واللغة التى يكتب بها. يقصد اختلافهما عن نظيريهما عند المترجم، مما يجعل التقاطه لما فى النص من شيات وتلوينات مسألة صعبة(5).
    فى ضوء ما مر نقرأ تلك الفقرات التى كتبها الشاعر المصرى محمد عفيفى مطر فى مقدمة ترجمته العربية للمختارات الشعرية التى ترجمها إلى الإنجليزية البروفيسر الأمريكى كيمون فرايار من شعر الشاعر اليونانى الفائز بجائزة نوبل للآداب عن عام 1979م أوديسيوس إيليتيس، تسويغًا لإقدامه بدوره على ترجمة تلك المختارات من الإنجليزية إلى العربية على رغم المشاكل التى اعترضت طريقه فى هذه الترجمة، إذ كان عليه أن ينقل شعر الشاعر اليونانى عن الإنجليزية التى يعترف فى شجاعة تقدَّر له أنه لا يعرفها كما ينبغى، فضلا عن أن شعر ذلك الشاعر قد نُقِل بدوره من اليونانية إلى الإنجليزية، بما يعنى أن هناك مسافة لا ندرى مداها بينه وبين ذلك الشاعر، لأننا لا ندرى إلى أى حد نجحت الترجمة الإنجليزية فى نقل شعر الشاعر إلى لغة جون بول. فإذا عرفنا أن الترجمة الأدبية هى أصعب أنواع الترجمة، وأن ترجمة الشعر بالذات هى بدورها أصعب أنواع الترجمة الأدبية، وأن شعر إيليتيس هو شعر غير مفهوم سواء فى عباراته أو صوره أو لفتات ذهن صاحبه، تبين لنا حينئذ وجوه الصعوبة التى كان على الأستاذ محمد عفيفى مطر أن يكابدها وهو يتصدى لتلك المهمة.
    ولنستمع إليه إذن وهو يحكى لنا عن هذه الصعوبات، التى لم يذكر منها رغم ذلك تأبِّىَ شعر الشاعر اليونانى على الفهم والتصور والتذوق رغم أهمية ذلك العامل فى كثرة أخطاء الترجمة، إذ لو كان ذلك الشعر مفهوما لتبين المترجم فى بعض الحالات على الأقل أن الترجمة لا تصح لأنها لا تؤدى معنى مفهوما، أو على الأقل: لأن المعنى الذى تؤديه لا ينسجم مع السياق. أمّا وأن النصوص الشعرية التى بين أيدينا غامضة فى كل الأحوال فإن دقة الترجمة أو عدم دقتها، بل إن صحتها أو عدم صحتها، لا تقدم ساعتئذ ولا تؤخر، لأن النتيجة واحدة كما أشرتُ أكثر من مرة فيما يلى من هذه الدراسة.
    يقول الأستاذ مطر فى مقدمة المختارات الشعرية التى ترجمها لإيليتيس من الإنجليزية: "للحمق بدرات ونزوات لا تبرَّر ولا يمكن الدفاع عنها. هكذا أقول لنفسي وأنا أسأل قبل أن يسألني أحد: لماذا أوقعت نفسك في ورطة هذه الخيانة المثلثة؟ يعرف الجميع خيانة ترجمة الشعر، ويعرف الشاعر عنها ما لا يعرفه الجميع. أما الخيانة الثانية فهي خيانة الاعتماد على لغة وسيطة تبعد النص المنقول خطوتين أكثر إيغالا في البعد عن أصله الجوهري. وأما الخيانة الثالثة فهي ورطة التصدي للترجمة عن اللغة الوسيطة، وهي هنا الإنجليزية المتأمركة، بينما يوجد من هو أقدر وأعمق تفقها وأشد مراسا وممارسة. فما الذي أوقعك أيها الشاعر في مشتبك هذه الخيانات؟ قلت لنفسي: هذا هو فرض الكفاية ما دامت قد أُهْمِلَتْ فروض العين من النَّقَلة والمترجمين: إن يكن جهد مُقِلٍّ فهو شرف محاولة. وإن تكن قطرة من بحر القصائد ففي ملحها طعم الدليل وإشارة البلاغ وتلويحة العابر وخطفة النظر. وإن تكن تهور جرأة أو وقاحة اقتحام فإنها إثارة وإغراء للقادرين الفقهاء العالمين بأن يفتحوا نوافذ ما يعرفون من لغات على تراث الدنيا ليكون في العربية من ثقافات الأمم والشعوب في مشارق الأرض ومغاربها ما يثري ويفجر الحوار ويؤكد المكانة والمكان على خارطة الحياة والإنسان الناطق المبدع.
    لم أكن أعرف شيئا عن الشاعر ولا مكانته بين شعراء قومه أو بين جماهير المثقفين في أوروبا. وفي أعقاب قراءتي لبعض أشعاري أمام جماعات من محبي الشعر في كافالا (قولة) وسالونيك وأثينا، وأُلْقِيَتْ مترجمةً إلى اللغة اليونانية عَبْر لغة وسيطة أيضا، عبّر بعض المستمعين عن وجود قواسم مشتركة من ملامح القرابة الشعرية بين قصائدي وقصائد شاعرين يونانيين هما أوديسيوس إيليتس وأندرياس آمبريكوس... وحينما علمت أن أوديسيوس إيليتس قد فاز بجائزة نوبل سنة 1979 أدركت أن وراء الفوز، علاوة على عبقرية الشاعر واستحقاقه، انغماسا وإلحاحا على قضايا الصراع الوطني والقومي وانحيازا خاصا أكاد أشمه في كل شيء في مشتبك الصراع اليوناني العثماني والتركي. وقلت متحفزا: فلتعرف مزيدا من التواريخ الحية التي تخفي وتبين وراء مجمل العصر الحديث لحوض البحر المتوسط، بحر الآلام والثارات والدم، فبلادك على ثغر منه، وأنت من الثغر على رباط بين مرابطين.
    لم يخب توقعي ولا ظني، وخوّضت في زلق هذه الخيانة المثلثة، مترجما لمجموعة القصائد المختارة من دواوين أوديسيوس إيليتس التي ترجمها عن اليونانية واحد ممن كرسوا حياتهم للشعر اليوناني الحديث ترجمة ودراسة وتأريخا، البروفيسور كيمون فرييار (Kimon Friar)، وقدم لها بدراسة ممتعة أقوم هنا بتقديم ترجمة وتلخيص لها بتصرف تقتضيه حاجة القاريء العربي"(6).
    ولا شك أنها جرأة وصراحة عظيمة من الشاعر، ولا أقول: "وقاحة" كما قال هو، أن يُقِرّ، رغم كل شىء ورغم أنه قام بالترجمة وانتهى الأمر وأخرجها فى كتاب، بأنه غير مؤهل كما ينبغى للقيام بتلك المهمة. وهذا ما ستثبت الفقرات التالية صحته حينما نقف أمام بعض نماذج تلك الترجمة ويتبين لنا أن الشاعر يقصد فعلا ما يقول ولا يتظاهر بالتواضع. وإذا كان لنا من كلمة فى هذا الموضوع فهى: لماذا يا ترى لم يستعن الشاعر بمن يتقن الإنجليزية من أصدقائه وزملائه كى تخرج الترجمة أقرب ما تكون إلى الصحة والدقة؟ ذلك أن هناك مآخذ كثيرة، وبعضها يتعلق بأشياء أولية فى اللغة الإنجليزية، كان يمكن تجنبها لو لجأ الشاعر، كما قلت، إلى من يعينه على بلوغ مقام الصحة والتجويد. لكن لا بد من التنبيه إلى ما لاحظته فى تلك الأشعار من انغلاق أبواب الدخول إليها ونوافذه رغم خلوها، فى الترجمة الإنجليزية التى هى سبيلنا إليها، من أية لفظة صعبة أو تركيب متعثكل. فما السبب يا ترى؟ السبب هو أن الشاعر كثيرا ما يكتفى بإيراد الاسم فقط دون سائر عناصر الجملة، كما أن صوره تستعصى على التصور فيُلْفِى القارئ نفسه حائرا بائرا إزاء ما يريد الشاعر أن يقول. وهذا إن كان هناك شىء يريد الشاعر فعلا أن يقوله. وأنا، فى الحق، لا أستطيع أن أهضم هذا اللون من الشعر. وأزيد على ذلك بأنى صريح لا أورّى ولا أجمجم فترانى أقول رأيى دون تردد، وهو ما فعلته أكثر من مرة وأنا أنظر فى ترجمة شاعرنا المصرى لتلك المختارات. ولم يمنعنى قط أن الشاعر اليونانى حاصل على جائزة نوبل، فحصوله على جائزة نوبل أمر لا يدخل عندى فى عملية التقويم النقدى. ولقد كانت لى بالمناسبة تجربة مع أديب آخر فاز بتلك الجائزة قبل إيليتيس هو شموئبل عجنون الكاتب الإسرائيلى الذى أثار فوزه بها فى ستينات القرن الفائت ضجة فى الصحف والمجلات عندنا ما زلت أتذكرها رغم أنى كنت شابا صغيرا آنذاك، ولما ذهبت إلى أوكسفورد وقعتْ فى يدى ترجمة لبعض قصصه فوجدتها متدنية المستوى ودنيئته فى آن، ولا تصلح للفوز ولا بجائزة "أبو زعيزع" نفسه.
    ثم فلنفترض أن الرجل عبقرى لم تلده ولاّدة وأن المشكلة فىّ أنا وفى أمثالى، وهذا أمر من الإمكان بمكان، فهل ينبغى أن يمنعنى ذلك من التصريح برأيى مهما كان رأيًا فَطِيرًا أو ضَحْلاً؟ أبدا، بل لى مطلق الحق والحرية أن أقول ما فى نفسى، على الأقل: من نفسى، حتى لا أطقّ من أجنابى وأموت. ولا أظن أحدا من القراء يرضى لى أو لغيرى ذلك، وإلا فلنكف عن مناحة الكلام عن الديمقراطية، والديمقراطية كما يقولون، أصلها يونانى، فالذى بنى اليونان، كما يقولون ويزعمون، كان فى الأصل ديمقراطيًّا، ولم يكن حَلَوانِيًّا كبانى مصر المحروسة. ثم إن حكمى على الشاعر، إن كان حقا شاعرا عبقريا وكانت المشكلة فى العبد لله لا فيه هو، لن يضيره فى شىء، لأن كلامى فى هذه الحالة لن يزيد عن أن يكون مجرد ضجيج تبخر وضاع فى الهواء، أو كما يقولون: "ذهب مع الريح"، وتبقى قيمة الرجل وشعره كما كانت لم يمسسها سوء إن شاء الله. أليس كذلك؟
    والآن إلى النظر فى الترجمة. وأول شىء نقف عنده هو أول شىء ترجمه الشاعر، وهو العبارة الفرنسية التى صدّر بها نظيرُه اليونانى قصيدته الأولى فى المختارات التى بين أيدينا، ألا وهى قول رامبو الشاعر الفرنسى: "Départ dans l'affection et le bruit neufs"(7)، إذ نقلها إلى العربية على النحو التالى: "فلترحل فى العاطفة والضجة الجديدتين"(8)، جاعلا كلمة "Départ" فعل أمر بمعنى "ارحل"، على حين هى اسمٌ بمعنى "رحيل"، ومترجِمًا كلمة "affection" إلى "عاطفة"، والأصح أنها ليست أية عاطفة، بل عاطفة معينة هى عطفة "المودة والحنان". وبهذا يكون الشاعر قد ارتكب غلطتين فى ترجمة "Départ"، إذ ظن أنها من الفعل "départir"، وأنها فعل أمر، فى حين أن فعل الرحيل هو "partir"، أما "départir" فمعناه: "يوزّع، يقسّم، يَفْصِل"، كما أن الأمر منه هو "dépars"، وليس "départ"، مثلما أن الأمر من الفعل: "partir" هو "pars" وليس "part"، أى أن فعل الأمر لا ينتهى فى الحالتين بـ"t" على عكس ما هو عليه الأمر فى كلمة "Départ" التى قلنا آنفًا إنها اسم (بمعنى "الرحيل") لا فعل (بمعنى "ارحل" أو "فلْترحل")، إذ إن اشتقاق الأمر الفردى من مثل هذا الفعل يقوم على أخذ صيغة المضارع المسند إلى ضمير المخاطب المفرد دون ذلك الضمير. وعلى هذا فمعنى العبارة الصحيح، حسبما تبدو لنا مقطوعةً عن سياقها، هو: "الرحيل فى المودة والضجة الجديدتين"، بغض النظر عما إذا كان لهذا الكلام معنى أو لا، فمعظم ما نقرأ من شعر للحداثيين فى هذه الأيام لا معنى له ولا لهم، إذ لا أظن أن من يكتبون هذه الطلاسم وذلك الهراء يمكن أن يكونوا فاهمين شيئا مما يكتبون، وذلك رغم أنف النقاد الذين لا يقلون عنهم طلسمية وهرائية ويُفْسَح لهم فى أوراق الصحف والمجلات ليغثّونا بهذا السخف الذى أصبح مقررا على الناس حتى كرهت الناس الشعر وسنينه وانصرفت عنه وعن الأدب كله، ولم يعد أحد يقرأ لأحد، اللهم إلا تلك الطائفة من الشعراء والنقاد الذين ينطبق عليهم قوله تعالى: "ذرية بعضها من بعض"، ولكن بالمعنى المعاكس، أى أنهم جميعا طينة واحدة فى الفهلوة والبكش والمثابرة على إفساد العقل والذوق مع الدعاوى العريضة والكلام الثخين الذى يخيِّل لمن ليس عنده فكرة عن الأوضاع المهترئة فى دنيا الأدب والشعر أنه بإزاء عباقرة زمانهم، بل عباقرة كل الأزمنة. والعجيب أن نسمع من أولئك النقاد، نقاد آخر زمن، أن اللغة فى يد الشعراء ليست للتواصل. فلأى شىء هى إذن؟ الواقع أنه ليس هناك إلا العبث، أما اللعب فالمعروف أن له أصولا، وأن البشرية قد اخترعته لكى تتواصل بعضها مع بعض: لاعبين ومتفرجين ومحكَّمين. وما دامت اللغة ليست للتواصل فلأى شىء تضّيّع وقتك ووقتنا، أيها الناقد الهمام العبقرى، فى الشرح والتحليل؟ ولأى شىء تعنّى نفسك وتبذل جهدك وتعرق كل هذا العَرَق وتُجْحِظ عينيك حتى ليكاد يطقّ لك عِرْق من أجل إقناعنا فى ذات الوقت أن الشاعر غير المتواصل يشير إلى كذا ويقصد كذا، بما يفيد أن ثمة تواصلا من جانبه وأنه يريد أن يقول لنا شيئا؟
    ***
    ولننتقل إلى شىء آخر، وليكن القصيدة الثانية فى هذه المختارات، وهى بعنوان "The Girls Who Trod on the Few"(9)، وقد ترجمه الشاعر بــ"الفتيات اللائى خطون قليلا"(10). وواضح أنه فهم "on the Few" على أنها تعنى المفعول المطلق: "قليلا"، على حين أنه لو كان هذا مقصد الشاعر اليونانى لقال مثلا: "a little". أما "a few" فلا تستعمل للمشى وأمثاله، فضلا عن أن تُعَرَّف فيكون معناها: "الأقلية أو القليلين"، وفضلا عن أن يُسْتَخْدَم معها حرف الجر: "on". ثم إن الفعل: "To tread" الذى استُخْدِمَتْ منه صيغة الماضى: "Trod" هنا وأتى معه حرف الجر "on" يناسبه أكثر أن يترجَم بــ"يَدوس"، وإن كنت مع هذا لا أفهم ماذا يريد الشاعر أن يقول. ذلك أنه لم يحدد الأشخاص القليلين الذين داستهم هؤلاء الفتيات، أو الأشياء القليلة التى دُسْنَها. ويمكنك الآن، أيها القارئ، أن تدرك إلى أى مدى ابتعد المترجم عن معنى العبارة.
    وهناك أيضا ترجمته فى نفس القصيدة للظرف: "unsuspectingly" إلى شبه الجملة: "بتوجُّسٍ"، مع أن المعنى عكس ذاك تماما. والمقصود هو أن ما حدث كان على غير توقع أو انتظار، بل تم بغتة، أو كما يقول التعبير العامى: "على خوَانة"، تلك الكلمة التى لم أجدها فيما رجعت إليه من المعاجم، بل وجدت "خيانة" لا غير كما توقعت، وإن كنت لم أيأس رغم هذا فمضيت فى التنقير حتى عثرت فى الموسوعة الشعرية على الشاهد اليتيم التالى لابن المعتز، الذى إن صحت رواية البيت يكن قد رجع بالكلمة إلى أصلها الواوى:
    وَلَحْظِ عَينٍ يُريدُ ذاكَ وَذا* خِوانَةٌ تُجْرَى عَلى العَيَنِ
    قلت: إن صحت رواية البيت لأنه قد ورد فى الديوان بتحقيق د. محمد بديع شريف (ط. دار المعارف) على نحو مخالف، هكذا:
    وَلَحْظِ عَينٍ يُريدُ ذاكَ وَذا* خَوّانةٍ تجترى على الفِطَنِ
    وقال فى الهامش عن الرواية التى أوردتُها أولاً إنها "تحريف غامض"(11).
    ***
    وفى القصيدة المسمّاة: "Breasting the Current"(12)، نراه قد ترجم عنوانها بــ"يصطخب التيار"(13)، وهى ترجمة خاطئة، إذ الفعل: "To breast" هو فعل متعد، ومعناه: "يقاوم، يواجه" وليس فعلا لازما معناه: "يصطخب" كما فهم الأستاذ مطر، ولا أدرى لماذا، فليس هناك صلة بين معنى الفعل وما قاله تخوّل خطور معنى "الاصطخاب" فى باله.
    أما السطران الثانى والثالث اللذان يجريان فى الترجمة الإنجليزية على النحو التالى: "Fish that seek translucency in another climate/ Hand that believes in nothing"(14) فقد جعلهما مترجمنا: "السمك الذى يلتمس صفاء فى مناخ آخر يرمى بما يعتقد إلى العدم"، وهى ترجمة تدل على أن آجرومية اللغة الإنجليزية غير واضحة فى ذهن شاعرنا. وعلى رغم غموض ما يريد الشاعر اليونانى أن يعبر عنه فسوف أجترئ وأحاول ترجمة العبارة الإنجليزية التى يهمنى منها جزؤها الأخير، ذلك الجزء الذى يكشف عن اضطراب الرؤية النحوية الإنجليزية لدى المترجم العربى. وهذه هى محاولتى، أسوقها وأنا واضع يدى على قلبى لأن هذا الذى أمامى الآن من شعر هو شىء فوق الفهم والتصور. أقولها دون خوف لأنى لست ممن يجمجمون أمام الألاعيب البهلوانية التى يصطنعها بعض الأباء والشعراء ويخاف مَنْ حولهم أن يكونوا صرحاء فيقولوا رأيهم فيها، أو ليسوا من حسن الثقة بأنفسهم بحيث يجرؤون على البوح بما يرَوْنه ويعتقدونه، بل أقول ما أراه وما أعتقده دون أى اعتبار للبهلوانات أو من يصفقون لهم.
    وهذا يذكّرنا بذلك الإمبراطور الذى جاء فى الأساطير أنه كان يستقبل حاشيته وهو عريان، مؤكدا لهم، حسبما أوهمه وزيره المدلس، أنه يرتدى ملابس مصنوعة من خيوط الشمس لا يراها إلا الصادقون، فكانوا يوافقونه على ما يقول حتى لا يُعَدّوا من الكاذبين، بل يزيدون فيمدحون جمال تلك الملابس ويبالغون فى المديح وإظهار الهيام بها وبأناقتها وروعة صناعتها وعبقرية تفصيلها... إلى أن دخل طفل صغير لم يتلوث بعد بداء النفاق والجبن، فصاح فى براءةٍ، وإن شئت فقل: فى سذاجةٍ، قائلا: ولكن الإمبراطور عريان لا يضع ملابس على جسده! فكأنك قد أتيت بجردل ماء بارد وصببته على الجميع: الحاكم والحاشية على السواء! اللهم إلا إذا كانت الترجمة الإنجليزية هى المسؤولة عن ذلك الغموض: كله أو بعضه!
    أما ترجمة هذين السطرين مع احترام تراكيب اللغة الإنجليزية بغض النظر عن صواب المعنى أو لا للسبب المذكور آنفا فهو: "أسماك تبحث عن الصفاء فى مناخ آخر. يَدٌ تؤمن بلاشىء، (أو إن شئت فقل: "لا تؤمن بشىء")". أما ما قاله الأستاذ مطر فربما صح نوعًا ما لو جاء تركيب الكلام هكذا مثلا: "Fish that seek translucency in another climate hand over what they believe to nothing ".
    وأرجو من القارئ أن يقارن بين التركيبين: من حيث الضمائر وأسماء الإشارة وتصريف الأفعال حتى يتضح له الفرق بين المعنيين. هذا، ولا بد من مصارحة القارئ الكريم بأن العفريت الرابض فوق كتفى الآن ولا يفارقنى أبدا وأنا أكتب يصيح بى متهكما: "وما الجدوى من كل هذا الذى تقول يا أخانا؟ هل تراه يؤدى إلى فهم المعنى؟ إن المعنى يا ولدى مفقود مفقود مفقود! فأرحنا من وجع الدماغ، ولا تفتح فمك". بيد أنى، رغم كل ما خوّفونا به فى طفولتنا الريفية من العفاريت والجن والنَّدّاهات، لا أبالى بعفريتى ذاك لمعرفتى بأنه عفريت من عفاريت الأدب التى لا تضر ولا تؤذى، بل وظيفتها الإلهام ليس إلا، وذلك لمن يعتقدون فى تلك الخرافات، وأنا بحمد الله لست منهم!
    ***
    أما محطتنا التالية فسوف تكون قصيدة "Below, on the Daisy's Small Threshing Floor"(15) التى ترجم شاعرنا عنوانها هكذا: "أسفل، على حوض الأقحوان الصغير"، محوّلاً كما ترى كلمة "the threshing floor" إلى "حوض"(16) بدلا من "الجُرْن، أو البيدر" الذى هو معناها الصحيح. ولست أفهم السبب فى أنه عدل عن هذا المعنى إلى المعنى الآخر الذى لا يربطه بالسياق شىء. وهذا الخطأ هو خطأ معجمى، أما الخطأ التالى فى ذات القصيدة فخطأ خاص بفهم التركيب لا بالمعنى، إذ ترجم شاعرنا عبارة "Seasame seeds of fire" بــ"حبات من سمسم النار"، على حين أن ترجمتها الصحيحة هى "حبات السمسم النارية". ذلك أنه لا يوجد شىء اسمه "سمسم النار"، بل الذى يقصده الشاعر هو أن حبات السمسم هى التى من النار، لا السمسم ذاته.
    وإلى الاضطراب فى تتبع تركيب الكلام أيضا يرجع الخطأ فى ترجمة السطر التالى: "Tall stalks of corn bend the sunburnt sky"، إذ جاء عند شاعرنا هكذا: "عيدان القمح الطويلة محنية بالشمس الملتهبة"، بينما الصواب أن نقول: "عيدان الذرة الطويلة تقوّس السماء التى أحرقتها أشعة الشمس". ولاحظْ وَصْف الشاعر للعيدان بالطول، ومن ثم قلت أنا: "عيدان الذرة" رغم أن كلمة "corn" فى الإنجليزية تصلح للقمح وللذرة على السواء، إذ العيدان الطويلة هى عيدان الذرة لا عيدان القمح كما جاء فى الترجمة.
    أما ترجمة الصورة التالية: "The sun sweats, the water trembles" بــ"الشمس فى دأب..." فلا يرجع إلى هذا ولا إلى ذاك، بل مرجعه إلى أن الشاعر المترجم قد ترك الصورة الخيالية مكتفيا بتأدية ما تصور أنه معناها الإجمالى قياسا، فيما يبدو، على تعبير يرد فيه ذكر العَرَق فى العامية المصرية، إذ نقول: "يأكل لقمته بعَرَق جبينه"، أى بتعب ومشقة، فقاس عرق الشمس على عَرَق البشر، مع أن عَرَق البشر فى التعبير العامى المصرى هو عرق الجبين لا أى عرق، كما أن السياق فى المثل العامى المصرى يرشّح أن يكون العَرَق رمزا على الدأب والجهد المتواصل. فهل هو متأكد أن الشاعر اليونانى قد قصد بعَرَق الشمس ذلك المعنى رغم أن السياقين والعبارتين مختلفان كما نلاحظ؟ لا ننس أن الشاعر يخلق صورا جديدة لا تعنى شيئا على الإطلاق. وعلى هذا أرى أنه كان ينبغى أن يلتزم المترجم بنقل الصورة كما هى، وإلا فلماذا أبقى على صورة "الماء المرتعش" (أو "المترجرج" حسب تعبيره، وهو تعبير بالمناسبة غير دقيق) كما هو فى النص الإنجليزى فلم يقل: "رُعْب الماء" مثلا؟
    وفى سطر آخر من سطور القصيدة نقرأ ما نصه بالإنجليزية: "On the tambourines of large fields that set their dung to dancing"، ومعناه، إن كان لمثل ذلك الـخَبَل من معنى، هو: "(تَحْلُم الخيل بسحابة برسيم توشك أن تنفتق هاطلةً) فوق دفوف الحقول الفسيحة التى تدفع برَوْثها (أى رَوْث الخيل) للرقص". بيد أن الاستاذ مطر يترجمها على النحو التالى: "على إيقاع دفوف حقول واسعة تطن دقاتها للرقص"، وهذا إبعاد فى النُّجْعة كما يلمس القارئ بنفسه. ذلك أن "dung" هو "الروث أو الجلّة"، فكيف يترجمه الشاعر بــ"دقات"؟ كذلك لو كان المعنى "على إيقاع الدفوف"، وليس فوق الدفوف، لقال المترجم الأمريكى مثلا: "to the airs of the tambourines" بدلا من "on the tambourines". لكن المترجم المصرى ظن، فيما يخيَّل لى، وأرجو ألا أكون مخطئا فى هذا الظن، أن حرف الجر فى اللغة الإنجليزية هنا هو هو نفسه فى العربية، مع ما نعرف من أن اللغات لا تتفق دائما فى استعمالات تلك الحروف. ثم لم يكتف بهذا، بل زاد من لدنه كلمة "إيقاع"، التى لا وجود لها فى النص الإنجليزى.
    ***
    وآخر مثال نأخذه هو ترجمة قصيدة "Little Green Sea"(17)، التى ترجم شاعرنا عنوانها هكذا: "بحر صغير أخضر"(18)، وكنت أوثر أن يجعله: "أيها البحر الصغير الأخضر" كما جعله داخل القصيدة، إذ من الواضح أن الشاعر ينادى البحر ولا يتحدث عنه. لكن ليس هذا على كل حال هو بيت القصيد، بل بيت القصيد هو عدة أخطاء وقع فيها المترجم هنا رغم بساطتها، وهو دليل على أن الخطأ يمكن أن يقع حتى فى أصغر الأشياء بسبب عدم إحاطتنا بها.
    فعلى سبيل المثال نراه يترجم الفعل: " To adopt" بــ"يُعِدّ"، مع أن معناه واضح معروف، وهو "يتبنى"، وذلك فى قول الشاعر للبحر إنه يريد أن يتبناه ويرسل به إلى المدرسة ليتعلم. كما وقع المترجم فى غلطة أخرى بسيطة، لكنها تشف عن عدم ألفته لتركيب الكلمات المركبة فى الإنجليزية، إذ ترجم كلمة "wormwood" إلى "دودة الخشب"، مع أنه كان ينبغى أن يعكس وضع المضاف والمضاف إليه فى الاسم العربى فيقول: "خشب الدود" بدلا من "دودة الخشب" كما هو جلىٌّ بيّن، إذ إن لسان الضاد فى تركيب مثل هذه الأسماء يسير فى اتجاه يخالف ما يسير فيه لسان جون بول، أما "دودة (أو سوسة) الخشب" فهى "woodworm". وذلك كله لو أراد المترجم الالتزام بحرفية الترجمة، إن صحت الحرفية هنا، وهى لا تصح بالنسبة إلى هذه الكلمة التى لا صلة لها مع ذلك بالخشب ولا بالدود، لأن معناها بكل بساطة: "الشِّيح"، ذلك النبات المعروف. وغلطة أخرى صغيرة من هذا النوع هى نقله عبارة "… and how\ From hill to hill our distant\ Relatives still signal one another\ Who like statues hold the air" إلى لسان العرب هكذا: "... وكيف/ أن الأقرباء البعيدين ما زالوا يلوّحون لبعضهم البعض/ من تل إلى تل/ يشبهون التماثيل الشاخصة فى الهواء". فمن الواضح أنه أخطأ فهم وظيفة "like" هنا، إذ ظنها "فعلا" بمعنى "يشبه"، وهو خطأ صراح لأن هذه الكلمة لا تأتى فى لغة جون بول "فعلا" بهذا المعنى، بل بمعنى "يحبّ أو يودّ". أما دلالتها على التشبيه ففى مثل قولنا: "To be like" أو "To look like" مثلا. وعلى كل حال فهى هنا ليست فعلا بل ظرفا، وشبه الجملة: "like statues" هو فى الواقع عبارة اعتراضية بين الاسم الموصول وصلته، ومعنى الجملة هو: "وكيف أنه من تل إلى تل ما زال يلوّح، بعضًا لبعضٍ، أقاربنا الذين، كالتماثيل، يمسكون الهواء". وليسامحنى القراء فى هذا التركيب الغريب المتعثكل الذى تعمدت رغم هذا صياغة الجملة عليه كى أوضح ما أريد أن أقوله عن العبارة الاعتراضية فيها.
    كذلك لم يتنبه الأستاذ مطر إلى أن "God have mercy" و"Glory be"، ومعناهما على التوالى: "رحماك يا إلهى" و"المجد (لله)"، وقد وردتا فى قول الشاعر حسب النص الإنجليزى: "To copy reflections for me on the ceiling\ From the God have mercy and the Glory be"، قد كتبتا بحروف مائلة وسبقت كلاًّ منهما أداةُ التعريف: "the" دليلا على أنهما عنوانان لشىء ما: دعاءين أو ترنيمتين مثلا، ومن ثم أخطأ ترجمتهما ظنًّا منه أنهما عبارتان عاديتان فأدخلهما فى صلب الكلام مرتكبا بعض التعسف كى تلتحما بسائر الجملة. وهذه هى ترجمته: "لتنسخ لى تأملات على السقف/ عن الرب الرحيم له المجد". أما ترجمة الكلام كما أتصوره فهى: "لتنسخْ لى صُوَرًا (reflections) على السقف من ‘رحماك يا رب‘ و‘له المجد‘"، وأرجو ألا أكون أنا المخطئ.
    الهوامش:
    (1) كتاب "الحيوان" للجاحظ/ موقع الوراق المشباكى.
    (2) من مقدمة "معجم الأدباء" لياقوت الحموى/ موقع الوراق.
    (3) كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبى حيان التوحيدى/ موقع الوراق.
    (4) TheologyToday - Vol 33, No. 1 – April 1976 – CRITICSCORNER, P. 96.
    (5) francais.agonia.net/index.php/article/194764/index
    .html
    (6) إيليتيس/ الشمس المهيمنة/ ترجمة محمد عفيفى مطر/ دار شرقيات/ 1998م/ 7- 8.
    (7) Odysseus Elytis, The Sovereign Sun, Translated by Kimon Friar, Bloodaxe Books, Newcastle upon Tyne, 1990/ P. 45. والفضل فى الحصول لى على هذا الكتاب يرجع، بعد الله، إلى د. سعيد الوكيل المدرس بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس، فهو الذى أحضره لى عن طريق صديق له من مكتبة الجامعة الأمريكية. كما أهدانى مشكورا نسخة من كتاب الأستاذ مطر.
    (8) ص 33 من الترجمة العربية.
    (9) P. 47 من الترجمة الإنجليزية.
    (10) ص 35- 36 من الترجمة العربية.
    (11) ديوان أشعار الأمير أبى العباس عبد الله بن محمد المعتز بالله الخليفة العباسى/ دراسة وتحقيق د. محمد بديع شريف/ دار المعارف/ سلسلة ذخائر العرب 54/ 2/ 311.
    .P. 48(12)
    (13) ص 36.
    (14) P. 48.
    (15) P. 77.
    (16) ص 82.
    (17) P. 146.
    (18) ص 148- 149.

    Ibrahim_awad9@yahoo.com
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9


  4. #4
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    10/09/2009
    المشاركات
    25
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي رد: محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

    اهلا دكتور ابراهيم انا نجوي طالبة فى كلية الاداب قسم اللة العربية وحضرتك كنت تدرس لى نقد القصة والترجمة انا كنت محرجة اكلم حضرتك لكن من كل قلبى اقول لك انت من ابرز الدكاترة اللذين كانوا فى الكلية واسلوبك راقى معنا فى الحديث حضرتك شرف لينا (انا عن نفسى كنت افرج اهلى واصدقاءى مؤخرة كتبك التى تعلن عن كفاح كبير وذكاء من عدد الكتب ومرات السفر الى الخارج والابحاث) بجد بارك الله فيك ربنا يحمى كل العلماء امثالك شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


  5. #5
    شاعر
    نائب المدير العام
    الصورة الرمزية عبدالله بن بريك
    تاريخ التسجيل
    18/07/2010
    العمر
    62
    المشاركات
    3,040
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

    شكراً جزيلاً ،أستاذنا الكريم ،إبراهيم عوض، على هذه المعلومات الغزيرة.

    أصفى تحية.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: محمد عفيفى مطر مترجما للشعر؟ وماذا فى ذلك؟

    الشكر الجزيل لكل من الآنسة نجوى والأستاذ عبد الله على رسالتيهما. وكل عام وهما طيبان، وكذلك كل أهل واتا. أنا آسف أننى لا أستطيع أن أجازى كلا من المعلقين الكريمين بما هو أهل له، ولكن الجود من الموجود، والموجود عندى شكر وتمنيات طيبة. مرة أخرى كل عام وأنتما طيبان


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 1

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •