لم يصل إلينا ، ولا حتى إلى غيرنا من القدماء ، كتاب الخليل ابن أحمد المسمى بـ"كتاب العروض"، كما هوالشائع يين جمهور الرواة والمترجمين. وأما الكتابان المسميان بـ"الفرش والمثال" في رواية الزبيدي ففيهما رواية مغايرة لما ورد عن الخليل. وكان الزبيدي قد أشار في كتابه "طبقات النحويين واللغويين" قد أشار لخبر رحلة عباس بن فرناس إلى المشرق لجلب الكتاب الثاني وهو الفرش بعد أن اكتشف وجود نسخة من الكتاب الأول موجودا في قصر الأمير عبد الرحمن تتلاهي به الجواري ويقول بعضهن لبعض " صيّر الله عقلك كعقل الذي ملأ كتابه من مِمّا، ومِمّا " . وقد رجحنا في مقدمة تحقيقنا لـ"شواهد الخليل في كتاب العروض "من العقد الفريد أن يكون "الفرش والمثال" مصدر ابن عبد ربه الوحيد في تأليف "الجوهرة الثانية: في أعاريض الشعر وعلل القوافي" لا سيما وقد وجدنا السخاوي في "الضوء اللامع" يشير إلى كتاب الفرش للخليل ومختصره لابن عبد ربه.
وكذلك لم يقع بين يدي كتاب الخليل المسمى "علم أوزان الشعر" الموجود لدى معهد المخطوطات بأذربيجان وقد كنت وجهت نداء على موقع "الوراق"، ولكن لا مجيب، ثم إني انتهزت فرصة سفر الأخ الدكتور ياسر منجي في رحلة ثقافية إلى العاصمة باكو وسألته، على صفحته من منتديات واتا الحضارية، أن يتصل برئيس معهد المخطوطات للتحري عن الكتاب وأن يكتب لي بعنوانهم باللغة الأذرية ليتسنى لي طلب الحصول على نسخة مصورة منه، فأجابني مشكورا على طلبي، ولكن المعهد ورئيسه الذي كتبت له لم يردا على خطابي المسجل حتى اليوم .
ذكرت هذه المقدمة لأبين أن للخليل، رحمه الله ، رأيين متناقضين في مسألة ( بناء الشعر العربي على الوزن المخترع، الخارج عن بحور شعر العرب). فأما الرأي الأول ، فقد نقله الأخفش، ووافقه عليه كل من الزجاج وتلميذه أبو الحسن العروضي، وهو ينص على أن " ما وافق هذا البناء الذي سمته العرب شعرا في عدد حروفه ساكنة ومتحركة ، فهو شعر، وما خالفه وإن أشبهه في بعض الأشياء فليس اسمه شعراً" . وأما الرأي الثاني فهو الذي وجده ابن عبد ربه في نسخته من كتاب الخليل، واستنكره أبلغ الاستنكار، قائلاً في أبيات من أرجوزته في العروض:
هذا الذي جربه المجرب *** من كل ما قالت عليه العرب
فكل شيء لم تقل عليه *** فإننا لم نلتفت إليه
ولا نقول غير ما قد قالوا *** لأنه من قولنا محال
وأنه لو جاز في الأبيات *** خلافه لجاز في اللغات
وقد أجاز ذلك الخليل *** ولا أقول فيه ما يقول
لأنه ناقض في معناه *** والسيف قد ينبو وفيه ماه
ولم يكن لرأي الخليل هذا أن يذيع لولا أبيات الهجاء هذه التي لم يلبث أن التقط فحواها الزمخشري وزعم بناء عليها القول بوجود مذهبين متنازعين في قضية القول على الوزن المخترع ، الخارج عن بحور شعر العرب، وقد انتصر هو للمذهب الثاني بقوله: " فالحاصل أن الشعر العربي ، من حيث هو عربي ، يفتقر قائله إلى أن يطأ أعقاب العرب فيه، فيما يصير به عربياً وهو اللفظ فقط، لأنهم هم المختصون به، فوجب تلقيه من قبلهم. فأما أخواته البواقي ( يقصد المعنى والوزن والقافية) فلا اختصاص لهم بها ألبتة، لتشارك العرب والعجم فيها".
وتسلم الراية منه الزنجاني فقال في كتابه "معيار النظار" : المختار أن الشعر العربي على الوزن المخترع الخارج عن بحور شعر العرب شعرٌ، لأن حد الشعر: قول موزون مقفى... وأما الثلاثة الأخر، وهي المعنى والوزن والقافية ، فالأمر فيها على التساوي بين الأمم قاطبة". وهو كما ترى نقل حرفي عن القسطاس للزمخشري .
فمن نصدق إذن في أن المذهبين المختلفين يرجعان إلى مصدر واحد هو الخليل، صيّر الله عقلنا كعقله الذي وصفه ابن المقفع بقوله : رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه، وكان الخليل قد وصف ابن المقفع بقوله : رأيت رجلا علمه أكثر من عقله. ذلك العقل الذي لم يستوعب علم العروض ، الأمر الذي حدا بالخليل أن يحاول صرفه عن المضي في تلقيه عنه، كما جاء في تلك الرواية المشهورة .