لقد كان الشاعر في حياة الجاهلي رمزا للنبوغ والعبقرية فهو المقدم والمفضل لسموق موهبته وعلو كعبه، كان ينظر إليه بنوع من الإجلال وكثير من الإعجاب، لاسيما بعد تداول الناس خبر اتصاله بقوى خارقة يستمد منها سحر الكلام، أما عندما أطل الإسلام وأحدث انقلابا شاملا و "جاء النبي بدين جديد، ولكنه جاء ببينة على ما يقوله وهي معجزة نبوية أي القرآن الكريم، وكان عليهم أن يأخذوه بجدية لأنه جاءهم بكلمة وعليهم أن يفسروا (من هو؟) إن رفضوا نبوته"(1).
وقد عاشوا فترة تخبط شديد وارتباك صور القرآن الكريم بعض مشاهده لحظة تلقيهم نبأ الرسول المبعوث والوحي.
يقول تعالى- (بل قـالوا أضغـاث أحـلام بل افتراه بل هو شاعر)(2).
- (ويقـولون أئنا لتاركـوا آلهتـنا لشـاعر مجنـون)(3).
- (أم يقولـون شاعـر نتـربـص به ريـب المـنون)(4).
من خلال هذه الآيات أعلاه يتضح لنا أن العرب قد جعلت النبي شاعرا في بادئ الأمر، زمن الجاهلية. وأمام اندهاش العرب وانجذابها للشاعر، وعجزها عن تفسير إبداعه وعوامله، نسبته لقوى خارقة وجعلته مثل النبي تقديرا وتقديسا. وفي العصر الإسلامي حين أحست العرب بالدهشة أمام وحي السماء، ولم تقدر إيجاد جواب لإعجاز القرآن الكريم، زعمت العرب أن محمدا شاعر، لماذا؟ لأنهم لما "تحيروا فيما يصفون به الرسول، وأي مطعن يوجهونه إلى القرآن، فقالوا هو شاعر، لما في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته"(5). لا نظن أن هذا الزعم؛ جعل الشاعر نبيا والني شاعرا من لدن العرب، محض صدفة، بل نابع من شعور حقيقي كان يخالج نفوس العرب اتجاه الشاعر أولا، واتجاه النبي ثانيا. إن العرب حين ووجهت بسؤال الوحي، فوجئت ولم تدري أين تصنف الرسول، لقد كان "عليهم أن يضعوه مع أولئك الرجال الذين ارتبطوا في أذهانهم بقوى ما وراء الطبيعة وهم المجنون والساحر والكاهن والشاعر"(6).
وفعلا، نعتت العرب النبي بأنه ساحر، مصداقا لقوله عز وجل: (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين)(7).
اتضح من خلال ما سلف، أن العرب اعتبرت النبي شاعرا ثم ساحرا، ويكشف لنا هذا الزعم، أن الشعر عند العرب نوع من السحر لما يخلفه في النفوس من أثر. ولم تكن هذه نظرة العرب في الجاهلية فقط، بل كانت نظرة الرسول أيضا، يروى أن الرسول سأل عمرو بن الأهتم عن الزبير بن بدر، فقال: "إنه لمانع لحوزته، مطاع في أدنيه" وقال الزبرقان: "إنه يا رسول الله ليعلم مني أكثر مما قال، ولكنه حسدني شرفي، فقصر بي".
قال عمرو: "هو والله زمر المروءة، ضيق العطن، لئيم الخال". فنظر النبي في عينيه فقال: "يا رسول الله، رضيت فقلت أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الآخرة. فقال رسول الله : "إن من البيان لسحرا"(8)، إن ربط الرسول بين البيان والسحر إشارة لبعد التلقي الموجود في البيان.
إن أداء السحر وظيفته في المتلقي رهين بحسن استخدامه من لدن الشاعر، لأن "المتأمل في البنية اللغوية لهذا الحكم يلاحظ ترابطا متينا بين النص ومفعوله وذلك واضح أساسا في التركيب الحرفي من البيان.. فليس كل بيان سحرا بل منه ما هو سحر"(9). ولإيضاح مفعول السحر من خلال البيان، أي الشعر، لابد من تحديد ماهية السحر، فما السحر؟
أتى في المصباح المنير في مادة سحر "قال ابن فارس: هو إخراج الباطل في صورة الحق ويقال هو الخديعة و(سحره) بكلامه استماله برقته وحسن تركيبه. قال الإمام فخر الدين في التفسير ولفظ (السحر) في عرف الشرع مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع"(10).
وقال الأزهري: "وأصل السحر صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره فكأن الساحر لما رأى الباطل في صورة الحق وخيل الشيء على غير حقيقته فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه"(11).
يستخلص مما أتى في شروح مادة سحر أن مدار سحر في المعجم على التمويه والخداع والحيلة من لدن الساحر للمسحور، أو لنقل من الملقي على المتلقي.
هكذا، يضعنا مفهوم السحر كما بسط معانيه أهل اللغة في حضرة التلقي. ولكن السؤال الذي يتبادر ههنا، هل السحر كما عرف في الجاهلية هو السحر الذي أشار إليه الرسول(ص) ؟
إننا كما نعلم، فالسحر الجاهلي مذموم لقوله تعالى: (لا يفلح الساحر حيث أتى)(12) وقوله: (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب)(13) وقوله (كـذلك ما أتى الذين من قبلـهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون)(14) تؤكد هذه الآيات أن للسحر قوة ونفوذا في التعبير عن حقائق الأشياء وقلبها ولكن يغلب على هذه الأمثلة القلب السلبي للأشياء فإذا السحر كما ورد في هذه الأمثلة خداع وكذب وتضليل وقدرة تصرف في الشر والنفاق"(15).
بناء على ما سلـف فالسحر الجاهلي مذموم، لأنه يتصل بالشيـطان، وهو عمله المفضل.
لهذا حرص الفيومي على بيان اختلاف معنى "سحر" باختلاف حال ورودها، يقول: "وإذا أطلق ذم فاعله، وقد يستعمل مقيدا فيما يمدح ويحمد نحو قوله عليه الصلاة والسلام "إن من البيان لسحرا".. لما كان في البيان من إبداع التركيب وغرابة التأليف ما يجذب السامع.. شبه بالسحر الحقيقي وقيل هو السحر الحلال"(16).
إن مفهوم العرب في الجاهلية للشعر وربطه بقوى خفية خارقة، منسجم مع ادعائها بأن الشاعر ساحر، لأنها لما اعتقدت أن الشعر من وحي الجن والشياطين صار الشعر مرادفا عندها للسحر باعتبار هذه القوى تقول الشعر كما تفضل السحر، وينسب إليها.
ولما ادعت العرب أن الرسول شاعر ثم ساحر، فقد رأته امتدادا لما عهدته في الشعراء باتصالهم بتلك المصادر غير المرئية.
ولما جاء الإسلام نسخ هذه المعتقدات، ومنح السحر معنى جماليا يتصل بالتلقي خاصة وفصل بين عمل الشيطان وعمل الإنسان المبدع.
نلاحظ بعد هذا العرض، أن العرب نزلت الشاعر منزلة النبي في الجاهلية، وأنها قلبت الصورة فنزلت النبي منزلة الشاعر والساحر. كما نستنتج أن تصورات العرب في الإسلام امتداد للجاهلية.وحين نقول إن رؤى العربي في الإسلام كانت امتدادا لأفكاره الجاهلية، لا نعني أن الدين الجديد أخفق في تصحيح المفاهيم وتسديد العقول، بل إننا نصف أجواء الاحتكاك التي تم في بادئ الأمر، قبل حصول الاقتناع بتصورات الإسلام.
الإحــــــــالات


1- الأسطورة والشعر العربي، 48.
2- الأنبياء، 5.
3- الصافات، 36.
4- الطور، 28.
5- حسان بن ثابت، للدكتور طاهر درويش,35 ،دار المعارف بمصر ط. 2.
6- الأسطورة والشعر العربي، 48.
7- سبأ، 43.
8-- البيان والتبين للجاحظ،تح وشرح ع السلام محمد هارون ، 3/349،مطبعة المدني ط:5،1405/1985.
9-النص ومفعول النص، نور الهدى باديس، مجلة علامات في النقد: ج 19، المجلد 5، مارس 1996، 231.
10- المصباح المنير مادة سحر..
11-لسان العرب، مادة سحر.
12- طه، 68.
13- ص، 4.
14-الذاريات، 52.
15- النص ومفعول النص، 241.
16- المصباح المنير، سحر.