بسم الله الرحمن الرحيم...

الأساتذة الكرام...السلام عليكم و رحمة الله و بركاته...

كم أسعدني أن أتواجد على صرح كبير و عظيم في مثل هذا اليوم الجميل...هذا اليوم الذي تم فيه تكريم الفكر العربي في أسمى معانيه و في خيرة من مفكريه المحترمين البارزين... الذين يدركون قيمة الكلمة الصادقة المؤثرة...و الفكرة الفعالة العميقة...التي تخاطب القلب و العقل معا...

و يكفي الإنسان فخرا أنه عضوا من أعضاء "واتا" مجتمع العقول...و القلب النابض لفكر ثاقب...

و أتمنى أن تكون كلمتي في مثل هذا اليوم في مستوى الحدث...

إشكالية الوعي و الصدق و الغفلة...

بكل تأكيد هناك أنواع متعددة من الوعي ...هناك الوعي السياسي و الاقتصادي و الفني و العلمي و الديني إلى غير ذلك من أنواع الوعي المتعددة بتعدد مجالات الحياة....فكل مجال من مجالات الحياة يتطلب نوعا معينا من المعرفة...تلك المعرفة تسمى وعيا إذا كانت صادقة و مطابقة لواقع الأمر...و من تم تحسب في عداد "علم اليقين" على أساس أنها لا تختلف في جوهر وجودها عن الحقيقة...و الاختصاص هو نوع من الوعي في مجال معين دون المجالات الأخرى...و ما هو معروف أن الإنسان كائن اجتماعي يرتبط بعلاقات متعددة في حياته...فلا السياسي ينفصل انفصال كلي عن الاقتصادي و لا هذا ينفصل عن الثقافي و لا الفني ينفصل عن الديني و لا الديني ينفصل عن العلمي...فالإنسان انطلاقا من هذه الرؤية يجمع بين كل هذه "الثقافات" بأشكال متفاوتة في الدرجة و الاطلاع و التعمق إن صح التعبير...و على هذا الأساس تجد المختص في علم الاجتماع يهتم بالجانب النفسي و الجانب الاقتصادي و هلم جرا...لأن في الإنسان تجتمع كل النشاطات التي تشكل إنتاجه الفكري أو الفني أو العلمي أو ابتكاراته التقنية و السلعية و الاستهلاكية على حد سواء...فالإنسان كتجربة و ذاكرة يشكل منبعا للمعرفة التي يقدمها للآخر حتى تضاف إلى باقي المعارف الأخرى و إلى باقي التجارب الأخرى...لتصنع وعيا ينقل الإنسان من حالة جهل إلى حالة علم أو من ظلمات إلى نور أو من غموض إلى وضوح أو من قلق إلى اطمئنان أو من شك إلى يقين...

فهذه الحالات التي تم سردها و الانتقال من حالة إلى أخرى هي ما تسمى عند بعض المفكرين بحالة "لحظة الوعي" أو ما تسمى عند البعض الآخر "بالطفرة النوعية" إلى غير ذلك من التسميات التي تنطبق على هذا الانتقال من حالة إلى أخرى تكون بشكل أفضل من سابقتها...و ما سمي بقانون التطور و بفكرة التقدم إلا تعبير عن هذه الحالة التي يعيشها الإنسان انطلاقا من شروط معينة كلما توفرت تلك الشروط أدت إلى نتائج بحسب سنن الكون التي جعلها الله عز وجل سنن خالدة لا تستطيع إرادة الفرد أو مجموعة من الأفراد تغييرها إلا إذا كانت مستوفية الشروط التي حددها خالق كل شيء و مدبر كل شيء...

و من هنا كان الوعي بهذه السنن و هذه الشروط هو المحرك الأساس للعملية التاريخية و لعملية التغيير الذي ينشدها كل فرد فوق هذه الأرض كان عالما أو جاهلا مثقفا أو أميا منتجا أو مستهلكا...فكل إنسان يرغب و يريد الجيد و الجميل و الازدهار و التقدم و الرقي و الراحة و الطمأنينة و السعادة...فإذا ما تحققت له هاته الأشياء شعر بالفوز...و كم هو جميل ذلك الشعور عندما يفوز تلميذ أو طالب أو باحث أو عالم في إنجازه المعرفي؟ و كم هي عظيمة تلك الحالة التي تغمر الإنسان عندما يكون من الأوائل في مسابقة رياضية أو ثقافية أو إبداعية أو فنية؟ و كم سار ذلك النبأ عندما تسمعه من قريب أو صديق أو تجده على السبورة السوداء أو على اللوحة الإلكترونية...لقد فزت يا أخي...لقد فزت يا ولدي...لقد فزت يا ابنتي...لقد فزت يا صديقي...لقد فزت يا رجل...لقد فزت يا امرأة...

كم هو جميل الشعور و الإحساس بالفوز...و هذه سنة من سنن الله عز و جل جعلها في التكوين النفسي للفرد ليتمتع بحالة انشراح و فرح و سرور تغمره من رأسه إلى أخمص قدميه...و كأنه شلال من بهجة يغمره حتى يكاد يبكيه أو يفقده صوابه و وعيه...و هذا وجه الفرحة و البهجة و الفوز في الدنيا...لكن انطلاقا من باب استمرارية "الحالة" كم تدوم هذه الفرحة؟ كم هو عمرها؟ كم هي اللحظات التي يستمر فيها ذلك الإحساس بالفوز؟ هل تطول إلى ما لا نهاية؟ أم أنها تسقط مع أول هم أو غم أو أي شيء يصيب الإنسان و يعترضه؟ و لذلك يظل السؤال قائما كيف نحافظ على ذلك الشعور حتى ما بعد الحياة؟ و لأن الموت حقيقة لا مفر لنا منها...يظل السؤال كيف نحافظ على ذلك الشعور و ذاك الإحساس بالفوز و نضمن له إلى حد ما الاستمرارية حتى بعد الموت؟

و على هذا الأساس كيف يكون للوعي أثر و دور و فعالية في استمرارية هذه الحالة في الدنيا و الآخرة؟ أو في الحياتين معا...حياة الدنيا و حياة الآخرة؟ لأن الحياة حياة لا تنتهي إلا بالانتقال من حالة لأخرى على مر الزمن و من مكان لآخر...فالأرض...عالم الشهادة باختلاف أمكنتها و أزمنتها مرحلة من مراحل رحلة الإنسان...و الجنة أو النار...عالم الغيب بفوزه النهائي أو خسرانه المبين آخر محطات رحلة الإنسان في حياته...فإما سعادة أبدية أو شقاء أبدي...مع العلم أن الحياة في الدنيا و الآخرة هي استمتاع بالملذات التي سخرها الله عز و جل لهذا المخلوق الذي نفخ فيه من روحه لتدب فيه الحياة...فمن فاز استمتع و من خسر فلا هو مات و لا هو عاش...لأن الموت بالنسبة لبعض المخلوقات هو انفصال تام عن الإحساس و الشعور بما يفرح و يبهج و يسر...أما بالنسبة للإنسان في حالة الخسران[و العياذ بالله] فلا حياة و لا موت بل هو عذاب في عذاب...

فكيف يكون للوعي دور و أثر و فعالية في تحديد الفوز الآني و المستقبلي؟
الواقع أن حضور الشيء هو حقيقة وجوده و ليس غيابه الذي ينتج الأثر أو يقوم بالدور أو يحدث فعالية معينة...فحضور الوعي هو إثباتا لصدق و لصحة الاعتقاد أو الفكرة و غياب الوعي هو غفلة عن صدق و صحة الاعتقاد أو الفكرة... فالغفلة هي نفي للوعي مع حضور الذات كوجود منعزل عن صدق الحقيقة و صحة وجودها...كما تشكل الغفلة غموضا يجعل من الذات وهما لا علاقة له بالحقيقة...لذلك كانت علاقة الصدق بالوعي كعلاقة الحق بالحقيقة...فإذا كانت الغفلة هي غياب للوعي في وجود الذات و نفي للحقيقة...فهي نفي للذات مع حضور للوهم يحيط بالوجود يحجب الحقيقة و يقدمها للآخر أو لنفسه على أنها الحقيقة...

و تلعب العادة و التكرار للسلوكيات البشرية نموذجا تصبح معه الغفلة وعيا مزيفا يبتعد شيئا فشيئا عن الذاكرة...و لأن الذاكرة هي الخزان الذي يمد الإنسان بالمواد الأولية لاستمرار الوعي و انتقاله من حالة إلى أخرى تكون أفضل من الأخرى إن ظلت الذاكرة متيقظة...فيستمد الوعي منها أدواته لتحليل و تفكيك و تركيب الواقع من جديد...و إضافة ما هو صادق و حقيقيا للذاكرة...مثلما تفعل السماء عندما تنزل من الماء ما يحي الأرض بعد موتها...فالذاكرة تشبه خزان الماء الذي تجمع عبر السنين و يضاف إليه ما استجد من إبداع و فكر و ابتكار...فالإنسان الفاقد للذاكرة...كالإنسان الفاقد لوعيه...و ما وعيه إلا من هو ؟ من أين أتى ؟و إلى ما هو سائر إليه؟ و ما غاية وجوده؟ و ما أسماء الأشياء المحيطة به و ما وظيفتها و دورها؟ و العديد من الأسئلة التي تختفي أجوبتها في الذاكرة و في الواقع و في المستقبل...

فالحقيقة هي موجودة في صيرورة الزمن...فقد كانت و ستظل في الواقع الحالي أو في الزمن الآني و سيمتد وجودها إلى آخر يوم من أيام الله جل و علا على هذه الأرض...و ما الحقيقة إلا السنن الكونية و القوانين التي تحكم الظواهر المحيطة بنا من كل جهة من السماء إلى الأرض إلى الإنسان إلى الحيوان إلى النباتات إلى الكائنات الدنيا إلى العليا من المرئية إلى الخفية من الذرة إلى المجرة...و ما الحقيقة إلا آيات الله عز و جل في خلقه و مخلوقاته...

و لو حاولنا النظر في من حاول أن ينطلق من الشك ليصل إلى اليقين انطلاقا من "الوعي" الذي هو أداة من أدوات التفكير التي تشتغل تحت ظل الروح...و سيأتي الحديث عن ذلك فيما بعد إن شاء الله عز و جل...يقول المفكر الفرنسي ديكارت:" أنا أفكر إذن أنا موجود"...و لم أتطرق للظروف و سياق الفكر الذي قيلت فيه هذه المقولة إلا بالقدر الذي يعني أنها أصبحت ضمن الذاكرة الإنسانية تعكس بداية طريقة معينة في التفكير للوصول إلى حقيقة تستند إلى حقيقة أخرى من أجل إثبات الوجود الفعلي للكائن البشري...فالحقيقة الأولى هو وجود التفكير كحقيقة قائمة و صادقة من حيث الواقع...و الحقيقة الثانية هي هذا الفكر يوجد ضمن ذات هي في واقع الأمر موجودة...و بالتالي ليس هناك ريب و لا شك و لا وهم في حقيقة هذا الوجود...و الجميل في المقولة هو درجة من "وعي الذات بكينونتها"...لذلك فالوعي كأداة للتحليل و التفكيك و التركيب تنطلق من "الأنا" الدالة على الفكر لتستدل بها على هذا الوجود الذي يشغل مكانا معينا و زمانا معينا...فالوعي هو إدراك معرفي يؤسس لحقيقة ثابتة من حيث الوجود...

فما علاقة الوعي بالصدق انطلاقا من هذه المقولة؟

إذا كان الصدق هو مطابقة الفكر للواقع بدون زيف و لا كذب و لا انحراف...هو مطابقة الحق للحقيقة...و الكذب هو الباطل لأنه مخالف لحقيقة الواقع...فالوعي هو إدراك لما هو صدق و تأسيس له...فإذا كان الإنسان يدرك و يعلم علم اليقين أنه ميت...فلماذا يقوم بالكذب؟ أليس من أجل الملذات؟ و تلبية الرغبات؟ و الاستمتاع بالشهوات؟ ألا يكون ذلك منافيا لحقيقة الاستمتاع و بالتالي فهم مناف لحقيقة الوعي؟ الوعي الذي يجعل من الإنسان إنسانا و ليس شيطانا أو حيوانا !! فالحيوان لا يكذب لأنه لا يملك عنصر التفكير...و الشيطان من جملة الأسلحة التي يستعملها لتدمير الإنسان الكذب...و الإنسان هو بين الحيوان بغرائزه و بين الشيطان بشره و بين الملاك بخيره...

لذلك يمكن القول أن الإنسان لا هو حيوان و لا شيطان و لا ملاك...فالإنسان هو كائن تتنازع هذه العوالم الثلاثة في داخله و في خارجه...فغرائزه تجعله على قدم المساواة مع الحيوان و أفعاله ترفعه إلى صف الملائكة أو تسقطه في صف الشياطين... فماذا يملك الإنسان حتى لا يكون ملاكا و لا حيوانا و لا شيطانا؟ إنه يملك العقل و الفكر و الوعي و القدرة على الاختيار...كل هذا يضعه في حالة ينفرد بها عن باقي المخلوقات...هي حالة "القدرة على الاختيار"...فالحرية التي هي سمة و خاصية يتمتع بها الإنسان دون الملاك أو الحيوان أو الشيطان هي التي جعلته يؤسس فكرة المسؤولية في الدنيا قبل الآخرة...فالوعي بحقه و حق غيره في الوجود هي منشأ المسؤولية...فإذا كان الإنسان مسئولا أمام ذاته أو غيره من بني البشر أليس من الأجدر أن يفكر بمسؤوليته أمام خالقه و خالق البشر و خالق كل شيء؟ و ما تفكيره و اعتناقه لفكرة المسؤولية إلا درجة من درجات وعيه...فكيف لا يرتق بوعيه لمن هو خالقه و رازقه و المسبب أصلا في وجوده؟

و من هنا كانت الغفلة آفة خطيرة على الوعي...فالغفلة هي حالة تذهب بالوعي ليغيب الإنسان و يحضر الحيوان الكامن في الإنسان أو الشيطان المضلل للإرادة في الفعل أو القول...لذلك يمكن اعتبار الغفلة كنوع من عدم الانتباه أو عدم التركيز أو باللغة التي نريد تأسيسها عدم حضور الوعي الكافي لإدراك حقيقة الموضوع...و الأمثلة كثيرة في حياتنا العادية التي تؤدي فيها الغفلة إلى كوارث لا تحمد عقباها...من أبسط مثال هو عدم التأكد من فرامل السيارة هل تعمل جيدا أم بها خلل...إلى عدم الانتباه إلى درجة حرارة مفاعل نووي هل هي في المستوى المطلوب حتى لا تحدث الكارثة...و كما قلت تؤدي الغفلة إلى العديد من المشاكل التي قد تقل خطورتها على الذات و الآخر...كما قد تكون النتائج خطيرة جدا...و هذا يحدث في الدنيا كما هو يقين لدى الكل...فماذا يحدث في الآخرة التي هي الأخرى تدخل في باب اليقين الآتي...كما هو حال اليوم الآتي من غد و بعد غد إلى اليوم الآخر...فالغفلة من زاوية الدنيا يمكن إصلاح ما سببته من كوارث و حوادث...فكيف يتم إصلاح ما قد يكون في الآخرة؟ الإصلاح يبدأ من الدنيا قبل الآخرة...كما قد يكون الانتباه و حضور الوعي سببا في نجاة العديد من البشر من كوارث محققة و يقينية لو استيقظ الإنسان من غفوته و أدرك ما له و ما عليه...

فالفلاح يزرع في أول السنة و يحصد المحصول في آخرها...فإن زرع فضيلة حصد مثلها و إن زرع رذيلة ما جنا إلا مثلها...فكل الدراسات التربوية تؤكد أن التعليم في الصغر و التوجيه و التربية على عادات معينة تجعل الفرد كصناعة من طراز معين...فلو أخذت طفلا من عائلة يابانية و وضعته في بيئة خليجية...فستصنع منه طفلا خليجيا...أو أخذت طفلا صومالي و وضعته في بيئة أمريكية...فسيكون طفلا أمريكيا...اللهم فيما يتعلق بالملامح التي تخضع للقانون البيولوجي التي لا يمكن للبيئة كيفما كان نوعها أن تؤثر فيه أو تغير من تركيبته...إلا في حالات نادرة...و من العلم الديني و الدنيوي ما يؤكد هذا القول و صدق صحته و حقيقة نتائجه...و من هنا يمكن القول أن الغفلة قد تكون ناتجة عن خلل معين في الجهاز التربوي...خاصة في المسائل ذات البعد في تكوين تفكير سليم لا يستند للخرافة و لا يؤله أحدا غير الله جل في علاه...و لا يعتقد في عصمة أحد سوى الأنبياء و الرسل عليهم صلوات الله و سلامه...

دمتم بألف خير...و دامت لكم الأفراح و المسرات...و كل عام و الحبيبة "واتا" بألف ألف خير...

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي