المتتبع لتاريخ اللغة العربية يجد أمامه العديد من الآراء المختلفة حول قدم هذه اللغة وموقعها من اللغات السامية الأخرى. فالذي عليه المستشرقون ومَن تبنّى آراءهم واجتهاداتهم أن العربية هي من آخر اللغات السامية ظهوراً على مسرح التاريخ! كما أن كتابتها متأخرة أيضاً، وهي في مجملها خليط من اللغات والكتابات السامية الأقدم. وهناك فريق آخر يذهب إلى عكس ذلك وهو القول بعروبة هذه اللغة والكتابة بداهةً.

والحق إنه من غير العلمي الحديث عن "لغة" عربية واحدة وعن "كتابة" عربية واحدة، تماماً كالخطأ في الحديث عن "شعب" عربي واحد!

إن شبه الجزيرة العربية على امتدادها واتساعها وتنوع بيئاتها كانت هي الوطن الأم لعدد من الشعوب العربية واللغات العربية والكتابات العربية، ذلك أن الأرومة العربية أوسع مما قد يظنه البعض. فالشعوب القديمة كانت تحفظ هويتها بالتناسل وتتبع الأنساب والتنظيم القبلي، مهما كثر عددها أو اتسعت رقعة معيشتها الجغرافية. فبنو إسرائيل مثلاً جميعهم يعود نسبهم إلى يعقوب عليه السلام، ومع ذلك فقد وصف القرآن تعدد قبائلهم بقوله تعالى (وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً) (الأعراف 160). فما بالنا بالأقوام الذين يسكنون تلك المساحة الشاسعة من الأراضي هي شبه الجزيرة العربية.. هل هم أمة أم أمم أم عشرات الشعوب؟

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

لم يكن العرب يوماً شعباً واحداً، ذلك أن طبيعة جزيرة العرب لم تكن تساعد على ذلك. فقد كانت فروع هذه الأرومة الكبيرة متعددة بصورة مدهشة! فتحدثنا الدراسات الحديثة أن الموطن الأصلي للشعوب السامية كان شبه الجزيرة العربية، وأنهم استوطنوا المناطق التي استوطنوها فيما بعد على إثر عدد من الهجرات قاموا بها من موطنهم الأصلي بشبه الجزيرة العربية. وكان الغرض الأصيل لهذه الهجرات هو البحث عن الماء: لذلك خرج الأكاديون من شبه الجزيرة واستوطنوا بلاد الرافدين، والكنعانيون استوطنوا الساحل الشمالي، واستوطن القحطانيون الساحل الجنوبي والشرقي، وانطلقت موجات أخرى من الهجرة غرباً واستوطنت النيل. وذلك يفسر لنا علمياً هذا الكم الهائل المشترك من الألفاظ والقواعد والدلالات بين ألسنة هذه الشعوب.

وباقي الشعوب التي قصرت هجراتها على المناطق الداخلية في شبه الجزيرة كان لها لسانها الخاص وثقافتها الخاصة، بل وكتابتها الخاصة أيضاً. وظل هذا الوضع قائماً إلى ظهور الإسلام، حيث كان العرب يتحدثون بأكثر من لغة عربية ما بين شمالية وجنوبية، أعرابية وحضرية .. الخ. أما اللسان الحجازي فكان هو الصورة الناضجة لكل هذه اللغات العربية، باعتبار بلاد الحجاز كانت ساحة للشعر والمناسك الدينية، فتهذبت لديه الألفاظ واكتست حلّة الرشاقة والاتساق. ثم كان نزول القرآن بهذه العربية المبينة بكل سهولة وبساطة أعجزت فطاحل العرب أهل اللسان على اختلاف لغاتهم. ولا زالت تلك اللغة القرآنية عذبة الوقع سهلة الفهم للقارئ العربي، وستظل إلى ما شاء الله.

يقول الله تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) [الشعراء 192-195]
(لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) [النحل 103]
(فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) [الدخان 58]

في هذا البحث .. سنقوم برحلة عبر عدد من النقوش العربية الشمالية القديمة، والتي يرجع تاريخ بعضها إلى منتصف الألفية الأولى قبل الميلاد، كاشفين عن بعض الجوانب التراثية الهامة التي حتماً ستساعدنا في رسم صورة أكثر وضوحاً لحال الألسنة العربية القديمة قبل الإسلام.