العجوز والشابة
ينتقل من إدارة إلى أخرى، ومن مبنى إلى آخر. يزور الأصدقاء القدامى، والموظفين الذين كان يعمل معهم من سنين مضت. يزور أصدقائه ليطمئن عليهم، ويصل ما انقطع بينهم. يزور رفقاء العمل - ليعرف من أخذ منصبه ومكتبه – ومن أعطي ترقية - ومن نقل إلى منطقة أخرى. هو هكذا بعد أن أحيل إلى التقاعد، كأنه زنبور ينتقل - وهو يطن بصوت مزعج - من مكان إلى آخر لا يهدئ ولا يدع الآخرين يهدؤون.
ولا ينسى في كل مرة يقابل فيها أي شخص لديه القابلية ليسمعه، فيسرد عليه قصة حياته. يحاول بذلك استجداء العطف، ولفت الانتباه إليه. فيبدأ بعد أن يتنهد آسفاً على حياته السابقة قائلاً: لقد تركتني وتركت بيتي - أم عيالي - بعد أن كبر سني وأحلت على تقاعد، وذهبت لتعيش في أحد بيوت أبنائها. وبعد فترة من الراحة يحاول فيها التقاط أنفاسه بصعوبة ليقول: لقد نسيت كل ذلك العمر الذي عشناه سوياً، وطول العشرة وحسن الصحبة!
هذا ما يعتقده هو، ولكن ما يعرفه الآخرون مخالف عن ذلك بعض الشيء. فبعد تقاعده اصبح هماً ثقيلاً على أهله، فأخذ يطبق حياته العملية والوظيفة عليهم. ولم يستطع أن ينسى ما كان فيه، ولم يستطع الركون إلى الحياة الهادئة الوادعة! لم يستطع تحمل الفراغ الذي لفه من كل ناحية، فاستعاض من ذلك بالتدخل في كل صغيرة وكبيرة. يتخيل نفسه لا يزال رئيساً في محل عمله، يأمر هذا - ويوجه ذاك - ويجازي من يعصي من مرؤسيه! اصبح يتدخل في أعمال البيت - والمطبخ - والطبيخ، ويبدي رأيه في ما يعرف وما لا يعرف. حتى بدأت المشاحنات والمشاجرات، تكبر وتكثر بينه وبين زوجته. فلم تستطع تحمل أعبائه وهمومه، بعد أصابتها بأمراض فتكت بها بسببه وبسبب كبر سنها. فهربت مضطرة إلى بيت أحد أبنائها، لتجد من يعتني بها ويهتم بأمورها.
كان يقول ببهجة وافتخار: نصحني الناس بتركها وهمها، وعدم التفكير في التقرب منها، أو الرجوع إليها. واستبدال تلك العجوز البالية بأجنبية صغيرة السن تعيد لي صحتي وشبابي. وفعلا راقت لي الفكرة، ومضيت في تنفيذها. فمن يرفض الزواج في فتاة نضرة صغيرة، تدخل البهجة والسرور لمجرد النظر إليها؟! ولكن بعد فترة من زواجنا، تبين لي أن زواجها مني كان طمعاً. فلم يعد معاش التقاعد يكفيها وحدها أو يقنعها، بل صارت تطلب المزيد والمزيد. صارت نهمة كأنها النار تلتهم الهشيم المحتضر. فخفت من الوقوع في دائرة الديون، فطلقتها قبل التورط في الخلفة والأبناء.
وهذه شابة أجنبية صغيرة جازفت بحياتها الحاضرة، من أجل مستقبل وحياة أفضل. فهل من الممكن أن تضحي بذلك مع شيخ عجوز كبير السن، ركبه المرض بسبب مشاجرته مع زوجته وأم أولاده، دون عائد؟! فهو لا يريد زوجة يعيش معها بقيت حياته، وإنما خادمة تقوم عليه وتلبي احتياجاته. فهي امرأة غريبة في بلد غريبة، بعيدة عن بلدها وأهلها. فلابد لها أن تضمن مستقبلها وبسرعة، قبل أن يداهمه الموت. وينقض أهله وأولاده على ما تبقى له من مال، فتخرج هي من كل هذا صفر اليدين.
وهكذا خرجت الأولى المسكينة من حياته فرارا، في محاولة للحفاظ على حاضرها. وطلق الثانية وسفرها نهائياً، لا أنها كانت تحاول ضمان مستقبلها!
بقلم: حسين نوح مشامع – محافظة القطيف – السعودية - husseinoah@yahoo.com
المفضلات