بسم الله الرحمن الرحيم
جهاد النفس: «بين يدي رمضان»
الشيخ أحمد رؤوف القادري- مفتي قضاء راشيا في البقاع
في مقدمة ما يكْفُلُ للنفوس صلاحها أداءُ العبادات التي افترضها اللهُ على تلك النفوسِ، مهما شَقَّت.
إنَّ حاجةَ النفسِ الإنسانيةِ إلى التهذيب والتزكية مثلُ حاجةِ العقل إلى الصقل والتثقيف، بل أشدّ من هذه الحاجة.
إنَّ تغليبَ العفَّةِ على الشَّرَه يحتاج إلى جهادٍ طويل. فإذا كان المراد أن تبلغ النفسُ درجة تحبُّ فيها الخير وتسْتَلِذُّه، وتكره فيها الشرَّ وتزدريه، فالأمر بحاجةٍ إلى مرانٍ أطول، مران يلتقي فيه كفاحُ الإنسانِ نحو الكمال، والتوفيقُ الإلهيُّ لبلوغِ الشأوِ المقصود.
ونحن نلحظُ في كثيرٍ من الأحيان أنَّ بعضَ الناسِ يفْسُدُ فساداً لا يستطيعُ معه أن يستبينَ الحق، بلْهَ أن يتَّبعَه، وربما استمرأ العيشَ في الأباطيلِ والجهالات، كما يسْتَمْرِئ جامعو القمامةِ العيش بين الفضلاتِ والأقذار، لا تزْكُمُهم روائِحُها، ولا تؤذيهم مقابحها.
وهذا الانتكاس قاتلٌ للضمائر والأخلاق، موغلٌ بأصحابه في ليلٍ ليس له فجر. وكم يدعو المرء، وهو يرقُبُ هؤلاء الشاردينَ في بيداءِ الحياة: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتّـباعه، وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه."
والشهواتُ التي تحتاجُ إلى رقابةٍ وضبطِ زمامٍ، كثيرة، وهي متفاوتةُ الحدَّةِ في آحادِ الناس، ولكنَّ أصولها ناشبةٌ في حياتهم على العموم.
وقد تجدُ البعضَ في حبِّهِ لنفسه لا يبصرُ غيرها، ولا يتحركُ إلا بهواجس الأثرةِ وحدها.

ومن طيشِ هذه الغرائز تفسدُ الأرض، وينْتَشِرُ الهرجُ والمَرَح، وتصابُ الأعراض، وتسْفكُ الدماء.
ألا ترى القليلَ من الماء يتناوله الإنسان فيذهبُ الظمأ، وتبتلُّ العروق، فإذا صار لُجَّةً ووقع الإنسانُ في مدِّها، كتمت أنفاسه، وزحمت أمعاءه، وأزهقت روحه.
وعلى طولِ الخطِّ الطويل، الممتدِّ منَ المهدِ إلى اللحد، يواجهُ الإنسانُ أموراً شتى تحتاجُ إلى فؤادٍ صاحٍ وبصيرةٍ نيِّرَة، فإنَّ اشتباكَ النفسِ بهمومِ الرزق، وفتونَ الناس، وتلقيها ألوان الوساوس، وتأرجحها بين جوانب اليمين واليسار، وفقرها إلى استجماع قوىً كثيرةٍ كي تحقِّقَ الخيرَ وكي تَصُدِّ الشر..... ذلك كله يستدعي جهاداً جاداً متَّصِلَ الحلقات. ولن ينجحَ الإنسانُ في هذا الجهاد إلاّ إذا مرن على عصيان هواه، ومضى قدماً على الصراطِ المستقيم جلْداً مثابراً، لا يقْعِدُهُ إعياء، ولا يَرُدُّهُ استرخاء.
وتقويمُ جهادٍ ما، لا ينظرُ فيه إلى مقدارِ ما يبذَلُ من تعب، وإنما ينظرُ فيه قبلَ كلِّ شيء إلى النِّـيَّةِ المقاربة، والغاية المقصودة. فإنَّ اللصَّ يسهرُ الليل ليخدَعَ النائمين، والشرطيَّ يسهرُ الليلَ يحرسُ الأمن لقاءَ راتبٍ معهود، والمتهجِّدَ يهجرُ فراشه، ويدعُ لذيذ الرُّقاد، لا لشيءٍ إلاّ ليعبدَ ربَّهُ في هدوءٍ وصفاء، ويتدبَّرَ آياته في خشوعٍ ورجاء، مرْتقباً في الآخرةِ ثمارَ ما يغرسُ في الدنيا: تتجافى جنوبُهم عن المضاجعِ يدعونَ ربَّهم خوقاً وطمعاً وممّا رزقناهم ينفقون. فلا تعلمُ نفسٌ ما اخفيَ لهم من قرَّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون.
إنَّ سهر هؤلاء الثلاثةِ واحد، والفرق بينهم شاسع. فأما الأول فمجرمٌ يستحقُّ العقوبةَ بما بيَّتَ من إثم، وأما الثاني فأجيرٌ يؤدي واجبه بثمن، لو تأخرَ عنه قليلاً لسخطَ عليه وترك ما كلِّفَ به، وأما الأخير فرجلٌ مؤمنٌ بالغيب والشهادة، يعرفُ ما يعمل، ولمن يعمل.
ومن هنا، فنحن لا نكترث لكل جهادٍ نفسي، ولا لكل عناءٍ يتجشَّمُهُ البشر، ما لم يكن جهاداً رشيداً محكوماً بإطارٍ من هديِ السماء، وصحة الداء.
الجهادُ المقبول هو الذي يستهدفُ وجْهَ اللهِ في كلِّ حركة، ويتحَرَّى حكْمَهُ في كلِّ وجه. وكلُّ جهادٍ تهي صلته بالله فهو مردودٌ على أصحابه.
إنَّ جهادَ النفس، كما أرادهُ الإسلام، هو الطريقُ الحقيقيُّ لبلوغِ القِمَمِ التي تجعلُ الإنسانَ يحتضنُ المُثُلَ العليا، ويبذِلُ دونها النفسَ والنفيس. وقد جاء في الأثر أنَّ الرسولَ، صلى الله عليه وسلم، قالَ عقبَ العودةِ من إحدى الغزوات: "رجعنا من الجهادِ الأصغر إلى الجهادِ الأكبر".