بسم الله الرحمن الرحيم
رمضان وسيلة مؤثرة في تقويم النفس البشرية
الشيخ أحمد رؤوف القادري
مفتي راشيا في البقاع- لبنان
عن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم: «إذا دخلَ رمضانُ فتِّحَتْ أبواب الجنة وغلِّقتْ أبوابُ النار، وسلْسِلَت الشياطين (أخرجه البخاري ومسلم وزاد النسائي: وينادي منادٍ كلَّ ليلة: " يا باغيَ الخيرِ هلُمَّ، يا باغيَّ الشرِّ أقصرْ».
رمضانُ شهرٌ أُقَّتَ لمزاولةِ وسيلةٍ من الوسائل الدافعة، القويةِ التأثير في تعديل قوى النفس البشرية، وتعليةِ سلوكها وتقويمِها نحو الوُجهةِ الصالحةِ الصحيحة، والطريقةِ السليمةِ السديدة... فبحلولِ رمضان وإشراقاتِهِ، تَتَفَتَّحُ أمامَ النفسِ طاقاتُ الخير، وتتسابقُ في الظهورِ الخارجي، وتتدافَعُ لإبرازِ أثرِها في التصرف الإنساني- الفردي والجماعي- ويتجَلَّى هذا في السلوكِ البشري، فلا يكون إلا الوضوحُ والنورُ والإشراقُ والخيرُ في جميع مظاهرِهِ، من حبٍّ وإيثار، وتعاونٍ ومودةٍ وأُلْفة، وكمالٍ وسمو، كما تنطمثُ دوافعُ الشر، ودواعي السُّوء، ويتوارى الظلام، فلا أنانيةٌ ممقونة، ولا أثرةٌ بغيضة، ولا شهوةٌ جامحة، ولا غضبٌ أحمق، لأنها لا تقوَى على الصُّمود، بلْهَ الظهور، أمامَ الإشعاعاتِ الروحيةِ الملائكية، التي يسْبِغُها رمضانُ على الصائمين، التي تذيبُ أمامها كلَّ الشوائب، وتزيحُ من طريقها جميعَ الرواسب والصخور...
وإنَّ مشكلةَ الإنسان، ليست في أن يكبِتَ مطالبَ جسدِه، ويتغَلَّبَ عليها، حتى تكونَ أقربَ إلى العدمِ منها للوجود، فهذا أمرٌ ممكنٌ بالمرانِ والتعود، ومستطاع، فشهوةُ الجنسِ يمكن استئصالها باستئصال المذاكير، وشهوةُ الطعامِ والشراب بالحرمان، وهذا أمرٌ زاوله أنواعٌ من الناس، وصار شعاراً لبعض الطوائف، ولكنهم مع ذلك لم يتركوا في الحياة أثرهُم بشراً درجوا على ظهر هذه البسيطة، وعمَّروا ما أمكنهم عمرانه منها، بل انصرفوا عن ذلك في عجزٍ وحسرة...
لذلك فالإسلام، وهو دينُ الفطرة فطرةَ اللهِ التي فطرَ الناس عليها، لم يرض لمعتنقيه هذا السلوكَ السلبيَّ والانعزالي، ولم يشرعْهُ لهم.
فالحياةُ البشريةُ تتدافع، ويستمرُ تيارها في التدفق، ولابد أن يستمر، وهكذا أراد اللهُ للحياة غلى الأجلِ المقدّرِ لها، وكان لابدَّ بالضرورة أن تتْرُكَ الأجيالُ البشرية المتعاقبةُ آثارها وبصماتِها على وجهِ هذه الحياة، وهذا هو الإسلامُ الإيجابيُّ من الأحياءِ في عمارةِ الكون..
والإسلامُ يدعو إلى هذا الإعمار، ويحثُّ على العملِ في إصرارٍ وتأكيد، في شعاراتهِ وعباداتِهِ وأخلاقه وكلِّ تشريعاتِهِ للجنسِ البشريِّ من الذكرِ والأنثى على سواء. قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
لذلك كلَّه فقد عدَّل الإسلامُ مطالبَ الجسدِ ولم يكبتها، ونمَّى الغريزةَ وعلاَّها ولم يستأصِلْها، ورسمَ الطرقَ السَّويَّ للسير بها نحو الكمالِ الحيوي تحت إشعاعاتِ الضوء الروحي، والهَدي السماوي.
فهاكُمُ الصوم... ما أثرهُ؟ وما مصدرُ فرْضِيَّتِهِ وكتابَتِهِ على الإنسان؟ وما مدى توَجُّهِهِ للإنسانِ في المحيطِ البشريِّ الإنساني ليثبِتَ وجودَه؟..
يقول اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
الخطابُ عامٌ شامل، وملاحظةُ طاقاتِ النوعِ الإنسانيِّ فيه واضحة، والحكمةُ الداعيةُ إلى كتابتِهِ وفرْضِيَّتِهِ ظاهرة، فهي وقايةُ الصائمِ من غلبةِ نوازع الشر، ووسوسةِ الشيطان، مع البعدِ ويدْفعُ بالإنسانِ إلى حفرِ النار. فالتقوى تتحَقَّقُ للمسلمِ الصائم بالحرصِ على التحلي بالأخلاقِ الدمثة، فالتقوى امتثال أوامرِ الله وطاعةُ رسولِه، واجتناب ما نهى عنه اللهُ ورسولُه، وبذا تتفَتَّحُ أبوابُ الجنة، وتغلقُ أبوابُ النار. إذا دخلَ رمضان فقد وهنَتْ قوّاتُ الشر، واحتاطت لها جنودُ الخير، وسلسَلَتْها حتى لانَ قيادُها، ووُضِعَتِ الطواقُ في أعناقها، والقيودُ في أرجُلِها وتجمعت وخضعت، وعلا سلطانُ مناديه بصوتٍ طليق، يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ مسرعاً فرحاً مسروراً، وادخُلْ واغْتَرِفْ وتناول ما شئتَ وما أحببت، فقد حلَّ عليك رضوانِ الله، وهذه هي السعادة:
فلستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ ولكنَّ التقيَّ هو السعيد
أمّا أنت، يا من تسرفُ على نفسك، وتهمِلُ شأنكَ ومستقبلك، فكفاكَ كفاكَ ما لطَّخْتَ به روحك، وسودت به قلبك ونفسَك من ذنوبٍ وشرور.
وإنك، أيها الأخُ المسلم، إذا سرتَ مع آياتِ القرآنِ الكريم في الصوم قليلاً، طالعك ونفذَ إلى قلبك ذلك النورُ الذي يوثقُ صلتَكَ به حتى يحْجِزَكَ عن كلِّ رديءٍ أو شاق...
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون
قل لي أيها الإنسان، في أيِّ تشريع، أم في أية تعاليم تجدُ رعايةَ الإنسانِ على هذا النحوِ الذي يفيضُ شفقةً ورحمةً وحناناً، وتقديراً لطاقاتِ الإنسانِ وظروفهِ وقدراتِهِ وإمكانياته؟.. لا... لن تجد ذلكَ إلاّ في القرآن الكريم، فهو تشريع الرحمن الذي يفتَحُ أبوابَ الملكوتِ لعبدِهِ إذا تضرَّعَ إليه وسأله، فهو يقولُ عقب ذلك كلِّه: وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليُؤْمنوا بي لعلهم يرشدون.
ويفيدُ الإنسانُ، مع هذا كلِّه، تعوُّدَ عدمِ الإسراف، وعدمِ التَّطلُّعِ لما في أيدي الغير، لأنه قد استغنى بما في جسمِهِ مدةً طويلة، وتدرَّبَ على الاكتفاءِ بما فيه شهراً كاملا، وهذا ضربٌ من محاربةِ الجشعِ والإسراف، وخلقِ روحٍ جديدةٍ من الاكتفاءِ الذاتي، وهو مبدأٌ اقتصاديٌّ هام، يفيدُ المجتمعَ أفراداً وجماعات، وتحقًّقَ ذلك كله بما شرعه اللهُ للإنسانِ المسلمِ بالصوم...
فالصومُ- أيها الأخ المسلم، ليس حرماناً من تناول الحلال الطيِّب مأكولاً أو مشروباً، ولا انهماكاً في تناوله، فكلا طرفي المرِ ذميم.. بل هو وسط، وخيرُ الأمور أوساطها..
روى الشيخان عن أنسٍ رضي الله عنه قال: «واصلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان فواصلَ ناسٌ معه، فبلغهُ ذلك فقال: «لو مدَّ لنا الشهرُ لواصلنا وصالاً يدعُ المتعمقون تعمقهم، إني لستُ مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني». والواصلة هنا، أن يصومَ الإنسان يومين أو ثلاثة لا يفطر فيهما.
ومع ما في الصوم من طاعةٍ وتقرُّبٍ إلى الله، فقد بيَّنَ النبيُّ، صلى الله عليه وسلم، بعمله وقوله، المسلكَ القويم الذي ينبغي أن يسيرَ على نهجه المسلم، فلا غلوَّ ولا تنطُّع، ولا إفراط ولا تفريط، بل هو وسطٌ واعتدالٌ وعلاجٌ وتهذيب.
وخلاصة القول أنَّ كلَّ ناحيةٍ من نواحي النفسِ البشريةِ في حاجةٍ إلى تعديلٍ وتعليةٍ وتقويم. فالعقيدةُ والعاطفةُ والإرادة، كلُّ تلك يجبُ أن تعدَّلَ وتقوَّمَ، وتوجَّهَ الوجهةَ الصالحة، ويسلكَ بها المنهج المستقيم.. لأنَّ العقيدةَ الفاسدة، والعاطفةَ الماجنة، والإرادة المضطربَةَ المتحيِّرَة، تودي بصاحبها، وتوردُهُ مواردَ الدَّمارِ والبوار؛ فلا يمكنُ أن يصدرَ عنه إلا رديء الفعال، ولا يرى إلاَّ في بؤَرِ الفساد والفجور، وإنَّ تقويمَ هذه النفس وعلاجها إنما هو بما جاء به نبيُّ الإسلام من وحي السماء:
وننزِّلُ من القرآنِ ما هو شفآءٌ ورحمةٌ للمؤمنين
إنَّ هذا القرآنَ يهدي للتي هي أقومُ ويبشِّرُ المؤمنينَ الذين يعملون الصالحاتِ أنَّ لهم أجراً كبيراً