بسم الله الرحمن الرحيم
غزوة بدر تتكلّم
الشيخ أحمد رؤوف القادري
مفتي قضاء راشيا في البقاع
وادٍ تحفُّ به الكثبان، يقعُ في الطريقِ بين مكةَ والمدينة، وتقومُ على طرفيه العدْوتان، وفي إحداهما، وهي العدوةُ الدُّنيا، سالت مياهُ بدر، وكانت مورداً للقوافل، وموسماً للعرب، تجتمعُ لهم به كلَّ عامٍ سوقٌ عامرة، يتبادلون فيها السِّلع، ويتناقلون الأشعار، ويتبادلون الآراء والأفكار. تلك هي بدر التي كانت مشرقَ صبحٍ لألاء عمَّ ضياؤُه الكون، وفاضت أنوارهُ على العالمين. تلك هي بدر التي جعلها القدرُ عنواناً ضخماً من عناوين المجد الإسلامي، ومفخرةً عظمى في حياةِ المسلمين الأولين الذين عاهدوا اللهَ فوفوْا بالعهد، ووعدوه على البذل والفداء، فقاموا خيرَ قيامٍ بالوعد، لم يتخلَّفوا ولم ينكثوا، ولم يرتدوا على أعقابهم.
على صعيد بدر أريقَ دمٌ زكيٌّ طاهر من دماء المسلمين ليروّيَ شجرة الحرية والكرامة، وليغذيَ أصولَ الدين والعقيدة، ويُنَضِّرَ رياضَ الفكر الحر والسلام الصحيح، أريقَ هذا الدم ليشعَّ النورَ على الأجيال حتى يهتديَ به الضال، ويتلَمَّسَ الراغبُ في المجد طريقهُ على ضوئِهِ الوهَّاج، أريقَ وسالَ، إذ لم يكن مناصٌ من سيلانه، وذهب ليصرخَ في آذانِ الناسِ على مرِّ العصور والدهور أنَّ العقيدةَ أعزُّ من الحياة، وأنَّ الدينَّ أغلى من الدماء، وأنَّ الحريةَ الكريمةَ لا تقدَّرُ بمال، وأنَّ لها باباً لا يطرقُ إلا بقطراتِ الدمِ المنسابة، ولا يفتحُ إلا بسبيلِ الصَّبيبِ العزيز...
وفوق بطاح بدر شهد التاريخُ معركةً بين الحقِّ الذي لا يُقهَر وبين الباطل الذي لا يُنصَر. خرجَ الباطلُ بسلاحِهِ وعتادِهِ، وأحقاده وعناده، ولؤمه وشؤمه، يختالُ ويحتال، ليجعل كلمةَ اللهِ هي السُّفلى، وخرجَ الحقُّ بعقيدته وإيمانه، وحجَّته وبرهانه، وصفائه وطهره، ورغبتهِ في أن ينقذَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور، ليس له في الظاهر إلا سلاحٌ ضئيل، وعتادٌ قليل، إذا قيسَ بما لدى الباطل من ذخيرةٍ وعدد. ولكنَّ للحقِّ رصيداً كبيراً من الثِّقة التي لا تضعف، واليقين الذي لا ينضب، والإيمان الذي لا يتزلزل، فكانت هذه القوى المذخورة أفتك سلاحٍ للضَّلال وأنصاره، والبغيِ وأعوانه.
إنَّ كلمة النصر هنا لم تكن للسواعدِ المفتولة، ولا للسيوف المشحوذة، ولا للخيول المسوَّمة، ولا للرحائل المطهَّمة، ولكنها كانت للقلب يؤمنُ بربه، ويخلصُ لدينه، وينصر لعقيدته، ويفضِّلُ الآخرة على الأولى، ويرحِّبُ بالشهادةِ من أجلِ المثلِ العليا... كانت هذه المعاني مددَ النصر وعدده، وكانت سببهُ وسنده، وكانت براعةَ استهلالِهِ وحسنَ ختامه، وستظلُّ هذه المعاني معيناً لا ينفد، ومصدراً لا يجف لمن يريدُ نصراً أو يبغي في الحياة مجداً. وسيظلُّ المسلمون محتاجين إلى بدر يتلمسون منها الضِّياء، ويأخذون منها العظة، ليفتحوا قلوبهم على معانٍ أسمى من معاني الأرض، حتى إذا امتلأت بروحانيةِ السماء، واتصلت بالله، أقدرِ القادرين وأرحم الراحمين لم تكن هنالك في الأرضِ قوَّةٌ ترهبها، ولا جيشٌ يدحرها، ولا غزوٌ يتغلَّبُ عليها. وسيظلُّ المسلمون حيث هم حتى يبدأوا طريقهم من هذه النقطةِ من قلوبهم، فإذا هم بدأوا من قلوبٍ صافية، ونفوسٍ زاكية فمن حقِّهم أن يأملوا في نصرٍ مبين وعزٍّ مقيم، وكرامةٍ في العالمين...
نحن لا نبالغ ولا نزعم محالاً حين نقول: إن القلب المؤمن يجب أن يكون نقطة الانطلاق للكتائب المؤمنة، فحين يتفتَّحُ هذا القلب بإشراق إيمانه، تتفتَّحُ أبوابُ السماءِ بعون الله وفضله وإحسانه، فتلتقي نصرةُ السماءِ بإيمان الفؤاد، فلا يكونُ هنالك قيمةٌ للسيوفِ والخيولِ والأجناد، وإنما تكون القيمةُ كلُّ القيمة لدفقاتِ الروح، نوراً للمؤمنين، وناراً على الكافرين، نوراً يشرقُ، وناراً تحرق، وتكون القيمةُ إلى ذلك لمدد السماء، يُدعى فيُلبَّى الدُّعاء، ويُرجى فيلبَّى الرَّجاء. وكذلك كان يوم بدر تفتَّحت أبوابُ القلوب وأبوابُ سماءِ علاَّمِ الغيوب، وهبطت جنود الله لتحاربَ أعداء الله، وتجاهدَ في صفوف المؤمنين من عبادِ الله.
إنَّ الظلام الذي اعترض سبيل النور منذ خمسة عشر قرناً ما زالت أستاره محلولكةَ السواد، وما زالت فيه طبيعة البقاء والسيطرة.. وإنَّ القوى الشريرة التي حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، تقنَّعت اليوم بقناع الاستعمار البغيض، واستخفت وراء ستاره المظلم نيَّاتُ الطمعِ الإنساني والجشعِ الدَّولي، وكما ذاق محمدٌ ويلات الجهل والسَّفه والغرور من قريش، فإننا نذوق اليوم ويلات الإعتداء والاحتلال والتشريد من الاستعمار وأذنابه...
ولهذا... كلّما مرَّ اليومُ السابع عشر من رمضان على المسلمين تحسَّسوا قلوبهم: هل هي على عهد بدر؟ وهل تحمل شيئاً من معانيها؟ وتفقَّدوا سواعدهم: هل هي على قوَّةِ سواعد أهل بدر؟ وهل تضمُّ شيئاً من عزماتها؟...