بسم الله الرحمن الرحيم
دروس من فتح مكة
المفتي الشيخ أحمد رؤوف القادري

إنّ شهر رمضان بين شهور السنة، يوحي إلى كلٍ نفسٍ مؤمنة بذكريات مجيدةٍ عزيزةٍ على النفوس... ذكريات مليئةٍ بمعاني الكفاح والصبر والعزم والتصميم.... ذكرياتٍ مليئةٍ بمعاني جهاد النفس، والجهادِ في سبيل الله، ومقاومةِ البغي والعدوان في كل صورة.. من مقاومةِ الشيطان، ومن مقاومة العادات التي تتحكم في الإنسان، ومن مقاومة أعداء اللهِ في كل مكان... وقد شاءت حكمةُ اللهِ سبحانه ان يجعل شهر رمضان في صدر الدولة الإسلاميةِ شهر جهادٍ وكفاح، وعملٍ دائبٍ شاق، ليبعد عن الأذهان أنّ الصوم يستلزم الراحة والكسل والاستكانة.. ففي شهر رمضان كتب اللهُ النصر للمسلمين على أعدائهم في عدّة مواقع. منها أول موقعةٍ حربيةٍ بينهم وبين المشركين ببدر... ومنها كان أول نصرٍ أعزَّ اللهُ به شأن المسلمين، وجعل لهم كياناً سياسياً داخل المدينةِ وخارجها.. ومنها فتح مكةَ واستسلامها للمسلمين.
ومن الواضح البيّن أنّ دولة الإسلام لم تكن متطلّعةً إلى سفك الدماء بالقتال والغزو، وإنما يدفعها إليه الدفاع عن نفسها، وحماية الدعوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى بعد تكوين الدولة بيثرب، ظلّ يدعو قومه بالحسنى، وما كان القتال إلاّ تطوراً طبيعياً اقتضته الظروف التي أحيط بها المسلمون من اعدائهم، ومع هذا، فإنّ الإذن لهم بالقتال كان مشروطاً بعدم العدوان.
أيها الإخوة المؤمنون... انظروا إلى توفيق الله سبحانه إلى رسوله المصطفى، وتأييده إياه. خرج من مكة مطارداً، وتمنى أن يدخلها دون قتال، وأن تكون كلمة الله فيها العليا، فتحقّق له ذلك، ودخلها خاشعاً خاضعاً شاكراً لله ونعمته وفضله. فلم يحسّ في نفسه بصورةٍ من صور الانتقام، ولم تدفعه فرحة النصر إلى التجبر والتكبر والطغيان، ولم يمكّنه هذا، بدافعٍ من التسامح الإسلامي، وقوة الإيمان الروحي، من أن ينتقم لنفسه ممن نكّلوا به وحاربوه وآذوه. ولم يقدم أحدٌ من جنوده على شيءٍ من ذلك، مع من فيهم ممّن عذّبوا من قريش وأوذوا شرّ إيذاء، ولم ينسه الحنين إلى بلده ومسقط رأسه الوفاء للأنصار الذين عاونوه وقت الشدة، وفتحوا له وللمسلمين قلوبهم ودورهم، ونزلوا لهم عن طيب خاطرٍ عن بعض أموالهم ومتاعهم من الحياة الدنيا. فعاد معهم إلى يثرب...
الله أكبر– أيها الأخ المسلم– فهذا أثر النصر في نفوس الصّدِّقين... الله أكبر- أيها الأخ المسلم – فهذا الأثر الروحيُّ في نفوس المؤمنين، تطهيرٌ من كل حقد وشر، وارتفاعٌ بالنفوس إلى المعاني السامية، والقيم الخلقية العالية، والتفاني في سبيل تحقيق الهدف والمبدأ، ووحدة الغاية: إلهٌ واحدٌ لا تعبد البشرية سواه، وتدين له بالعبودية والطاعة، ووحدة الصف، والتعاون الكامل في بناء مجتمعٍ صالحٍ طاهر، أساسه الخلق والدين، امتثالاً لقول الله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ".
فلنتخذ من هذه المواقف درساً وعبرة، وليكن لنا من رسولنا وسلفنا القدوة الصالحة التي نحتذي حذوها في الدين والخلق... ولنـتذكر دائماً أن أساس دعوة الإسلام التكوين الخلقيّ السليم، والتعاون الكامل بين الأفراد على البر والتقوى...
نسأل الله سبحانه أن يوفِّقنا لتذوّق معاني هذا الدين الكريم، والعمل بتعاليمه وإرشاداته، والسير في الحياة على نهجه.