بسم الله الرحمن الرحيم

الهجرة ميلاد دولة
الشيخ أحمد رؤوف القادري
مفتي قضاء راشيا في البقاع

إنّ حادث الهجرة من الأحداث البارزة في تاريخ الإنسانية عامة، وفي تاريخ الدعوة الإسلامية خاصة، لما له من آثار خالدة أحدثت انقلاباً غيّر مجرى التاريخ. فلقد كانت حدّاً فاصلاً بين عهدين: عهد كان كلّه اضطهاداً وزعزعة، وآخر كان كلّه أمناً وطمأنينة، عهد كانت تحفّه ظلمات اليأس، وآخر كان مشرقاً بسّاماً بالآمال الحلوة، عهد كان محفوفاً بالصدود عن الدعوة الكريمة والإعراض عنها، وعهد حافل بالإقبال عليها، والتعاون على نشرها وبثّها بين قبائل العرب، ثم غير العرب من أهل الأرض كافة، ممن أمكن إيصال تلك الدعوة إليهم في عهد النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ثمّ أصحابه من بعده، الذين حملوا هذه الرسالة وقاموا بنشرها وإذاعتها في الآفاق.
ثمّ انظر، أيها الأخ المسلم، إلى ما احدثه الإسلام، بعد الهجرة، في نفوس معتنقيه، من الألفة والإخاء، بين الأنصار من أهل المدينة، وبينهم وبين المهاجرين من أهل مكة. لقد كان الأنصار من الأوس والخزرج يحارب بعضهم بعضاً، ولكنّ الإسلام سكّن نفوسهم، وطهّر قلوبهم، ووسّع أفقهم، وقوّى روابطهم فيما بينهم أولاً، ثمّ مع المهاجرين ثانياً، حتى أصبحوا بنعمة الله إخواناً. ولولا ذلك الانقلاب الروحيّ العجيب الذي حقّق تلك الأخوّة وأمدّهم بتلك القوة، ما قامت للإسلام دولة، ولا انتشر بين العالم بهذه السرعة الخارقة.
ولقد وفّق الله نبيّه محمداً، صلى الله عليه وسلم، بعد الهجرة، إلى أن يقيم مسجد قباء، وهو أسبق عملٍ إصلاحيٍّ اقترن بدخوله المدينة. فكان شوكةً جديدةً في حلوق الكفار والمنافقين. ثم بنى مسجد المدينة، فكان معقلاً للدين والعلم، ومعسكراً ومقرّاً للاجتماع والتدبير والمشورة، ومنارةً للهدى والإرشاد والتوجيه الروحيّ.
ولقد كان الإخاء بين المهاجرين والأنصار، إخاءً أسمى من أخوّة النسب، وكان من مظاهره الإيثار من الأنصار للمهاجرين، وصدق التعاون والتناصر. وكان هذا الإخاء له أثره في قيام الدولة المتكافلة. وما كان محمدٌ، صلى الله عليه وسلم، ليستطيع أن يحقّق ذلك الإخاء، ويقيم هذه الألفة بين المهاجرين والنصار، لولا إمدادُ الله تعالى:
هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وهكذا بيّن الإسلام أنّ هذا الدين يوحّد وطن المسلمين جميعاً، مهما اختلفت أجناسهم، ليعلم الناس أنّ الإسلام وحدةٌ في العقيدة، ووحدةٌ في العبادة، ووحدةٌ في القبلة، ووحدةٌ في الوطن.
اطمأنّ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، بهذا البلد الطّيب الذي اختاره الله تعالى مقرّاً للدعوة الإسلامية ومركزاً للقيادة، بعد أن ضاق أهلُ مكة بهذه الدعوة وصحبها، وضنّوا على بلدهم وعلى أنفسهم بهذا الشرف العظيم، والفخار الكبير، بينما أشقياء مكة لم تهدأ أنفسهم، وكانوا يتوجّسون خيفةً من خطر هذه الدعوة، التي لاقت نجاحاً في المدينة، وكثر أنصارها، فأخذوا يناوشون صاحب الدعوة من أطراف الجزيرة، ويؤلّبون عليه، ويتحرّشون بأصحابه، حتى أذن الله لرسوله ولأصحابه في الدفاع عن أنفسهم، بعد أن أصبحت لهم دولةٌ لها قوّةٌ ومنعة... وجاء نصر الله والفتح، وتوالت الإمدادات، وحاق بأهل مكة الخزيّ، وحلّت بهم الهزيمة المروعة، وتوّجت الانتصارات الإسلامية بفتح مكة...
ولقد كانت الهجرة سبيلاً إلى ما ظفر به الإسلام والمسلمون من ذلك الانتشار الهائل والسريع، وتلك الفتوحات الخارقة المدهشة، بعد أن ظلّت الدعوة تُطارَد في مكة، مهدها الأول، ثلاثة عشر عاماً، لم يظفر الإسلام فيها إلاّ بعصبةٍ قليلةٍ في عددها، ولكنها كبيرةٌ وعظيمةٌ في إيمانها وحسن بلائها. فقد كان العهد المكيُّ عهد تكوين الرجال، وصنع الأبطال الذين صمدوا أمام قوى الشّر والفساد، وتفانوا في دعوتهم، وتحمّلوا أكبر البلاء، فما وهنوا وما استكانوا، بل زادتهم المحن والشدائد ثباتاً وإيماناً ويقيناً، ولقد كانت هذه الفئة المؤمنة التي هاجرت من مكة إلى المدينة نجاةً بعقيدتها، هي اللّبنات القوية، والذخيرة الحيّة، التي قام عليها كيان الدولة بعد الهجرة، والتي أدّت مهمّة الإعلام ونشر الدعوة وإذاعتها في ربوع المدينة بعد الهجرة، حتى طرقت الدعوة كلّ سمع، ودخلت كلّ بيت، وأصبحت حديث أهل المدينة، قبل أن يهاجر إليها النبيّ، صلى الله عليه وسلم...
فلما هاجر النبيّ، صلى الله عليه وسلم، كانت الأذهان مصغية، والقلوب مفتّحة، والفرصة سانحة، والظروف مهيأةً، لإرساء قواعد الدولة، ودعم مقوّماتها. وقد توالت التشريعات في المدينة تلبيةً لحاجة الدولة إلى أحكامٍ تنظّم روابطها وعلاقاتها، سواء في ذلك علاقة الأفراد بعضهم ببعض، أم علاقة الدولة بغيرها من الدول في حالَي الحرب والسلم. فتتابع الوحي بأحكامٍ كلّية، وتشريعات صالحةٍ لكل زمانٍ ومكان.. وهكذا أظلّ الإسلام ممالك ودوّلاً كثيرة، دخلها بنوره قبل أن يدخلها المسلمون بسيوفهم. فقد خضعت الجزيرة العربية كلّها لحكم الإسلام، كما فتحت الشام ومصر، وفتحت العراق ثمّ فارس، وأشرقت الأرض بنور ربّها. وامتدّ الزحف الإسلاميّ، واتّسعت الفنوحات حتى عمّت السّند وبخارى وسمرقند، كما فتحت بلاد الأندلس وبلاد المغرب وبرقة وتونس والجزائر ومراكش، بل توغّل الفتح الإسلاميّ في فرنسا...
تلك بعض مفاخر الهجرة ومآثرها التي يحتفل المسلمون كلّ عامٍ بذكراها، ويعتزّون بمثلها العليا ويتّخذون منها عبرةً نافعةً وقدوةً حسنة..
لقد كانت الهجرة مبدأ التحوّل، ومفتاح العزّة والنصر في الصراع بين الحقّ والباطل، وأعظم خطوةٍ من خطوات الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، وبهذا استحقت أن يُفتَتَحَ بها التاريخُ الإسلاميّ، وأن يقرأ المسلمون كتابها كلّ عام، وينـتفعوا بحوادثها الجسام، ويقتفوا آثار أبطالها العظماء، ويسيروا على ضوء هديهم دائماً إلى الأمام.
أعاد الله على العالم الإسلامي هذه الذكرى الخالدة، وقد تحقّقت آمال الأمة.. والله وليّ التوفيق.....