قراءة فى ترجمة سورة "مريم" إلى الفرنسية
للدكتور سامى الديب أبو ساحلية
بقلم د. إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://awad.phpnet.us/
http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9
الدكتور سامي عوض الذيب أبو ساحليّة هو، كما جاء فى التعريف به فى أحد التعليقات فى منتدى "الترجمة الدينية" فى موقع "واتا" (الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب)، مسيحيّ علماني سويسري من أصل فلسطينيّ يحمل درجة الدكتوراه في القانون، وله عدة كتب أبرزها: "ختان الذكور والإناث" صدرت عن دار الريس عام 2000م، وترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسيّة قيد الإصدار، وبحوث ومقالات متعددة منها بحث بالعربية عنوانه: "من نظام الذمة إلى نظام المساواة والدولة الواحدة"، وآخر باللغة الإنجليزيّة هو: "Muslims in the West, case of Switzerland". ومنذ فترة وجيزة أعلن الدكتور أبو ساحلية فى موقع "واتا" المذكور آنفا عن قرب صدور ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم، وتفضل مشكورا، بناء على طلب بعض المعلقين وأنا منهم أن ينشر لنا عيّنة من ترجمته، فصوّر ترجمة سورتى "آل عمران" و"مريم"، على أساس أن يكون نشر هذين النصين مجالا لإبداء الرأى فى عمله ذاك الذى أثار على صفحات الموقع المشار إليه ضجة عنيفة وأخْذًا ورَدًّا بينه وبين عدد من الكتاب المشاركين فى منتدياته.
وهأنذا أشترك بكتابة ملاحظاتى التى عَنَّتْ لى اليوم أثناء قراءتى لترجمة السورة الكريمة راجيا أن تكون أخطائى فيها قليلة، مع مراعاة انشغالى الشديد فى غمرة بعض الأعمال الملحة التى تحايلتُ عليها واقتطفتُ من وقتها نهار اليوم وليله وخصصتهما للنظر فى ترجمة الدكتور، وكذلك قِصَر الفترة التى أنفقتها فى ذلك، وصعوبة الرَّقْم بالنسبة لى على الكاتوب الحِجْرِىّ الذى ألجأنى إليه عطلٌ أصاب كاتوبى العادىّ الذى ألفتُه وألفنى ولم تعد أصابعى تتشنج على أصابعه وأنا أكتب عليه ولا تخطئ يدى الحرف الذى أريد ضربه إلا فى حدود المعقول. وسوف أبدأ أولا بملاحظاتى على الترجمة ذاتها: لقد ترجم الدكتور الديب مثلا كلمة "الموالى" إلى "alliés" بمعنى "الحلفاء/ الأصهار" مبتعدا عن المعنى الصحيح للكلمة، فيما ترجمها غيره، حسب كلامه، بما يعنى "الوَرَثة/ الأقارب": "les héritiers, les proches". ويزداد الأمر سوءا حين ترجم "وَلِيًّا" فى قوله سبحانه على لسان زكريا: "فهَبْ لى من لدنك وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب…" بــ"un allié" أيضا، وهو ما يعنى أن ذلك النبى الكريم كان يدعو الله أن يقيّض له حليفا أو صهرا، على حين أن المقصود هو أن يرزقه ولدا، وإن كان قد استغرب البشرى التى أرسلها الله له بذلك، على عادة كثير من البشر فى مثل تلك الحالة، وكأنهم يستكثرون على أنفسهم تحقق أمانيهم بتلك السهولة، بعدما كانت تبدو لهم صعبة، إن لم تكن مستحيلة. والدليل على صحة ما نقول ما جاء فى سورة "آل عمران" من قوله تعالى عن زكريا حين كان يدخل على مريم المحراب فيجد فى كل مرة عندها رزقا، فإذا سألها من أين لها هذا كان جوابها أنه من عند الله. فهنالك ابتهل عليه السلام لربه أن يهبه ذرية طيبة: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)". إذن فالدعاء إلى الله كان من أجل الولد لا من أجل الحليف أو الصهر. وحتى لو حصرنا انفسنا فى سورة"مريم" فإن قوله تعالى لزكريا ردا على ابتهاله: "يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا" معناه أن زكريا كان يريد ولدا لا حليفا أو صهرا، وإلا لقال له سبحانه إنه يبشره بحليفٍ أو صهرٍ اسمه كذا. ثم هل الحصول على حليف أمر من الصعوبة إلى هذا الحد حتى يسبب له كل ذلك القلق؟ أما الصهر فليس له فى حالتنا هنا محل من الإعراب، فزكريا لم يكن فى سن تسمح له بالزواج والمصاهرة، كما لم يكن عنده ابن أو بنت يمكن أن يصاهره الآخرون بسببه أو بسببها. ومن ثم فإن ترجمة حميد الله وكازيميرسكى مثلا لها بــ"un descendant" هى ترجمة صحيحة، بخلاف ترجمة الدكتور سامى.
وفى ترجمة الدكتور لقوله عز شأنه مخاطبا مريم عليها السلام: "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تُسَاقِطْ عليكِ رُطَبًا جَنِيًّا" نراه يؤديها بما يعنى أن الله هو الذى يُسْقِط عليها ذلك الرُّطَب، مع أن الآية المثبتة فى المصحف الذى بين يدى د. الديب تقول إن النخلة هى التى كانت تساقطه عليها ذلك. لقد برر الدكتور فعلته بأنه اتبع القراءة التى تقول: "يُسْقِط عليك رطبا جنيا"، لكنه تبرير غير مقبول ولا مفهوم، إذ هو يترجم النص الموجود أمامه، فكان حقا عليه الالتزام بما فى النص، وأمامه مندوحة فى الهامش يقول فيها ما يشاء. وأخشى أن يكون فى هذا الذى صنع ما يستوجب وصفه، على سبيل الحقيقة لا على سبيل المجاز، بالعبارة المشهورة التى تقول: "المترجم خائن"! قد يقال إن الأمر أبسط من ذلك، بيد أننى أرى فيه نزولا من المترجم على حكم نزوته، وهو ما ينبغى أن يحاربه فى نفسه بكل قواه، لأنه محكوم فى عمله بقواعد علمية وأخلاقية لا ينبغى له أن يتجاوزها ويسير على هواه، وإلا اضطربت الأمور وتشابكت الخيوط وجرؤ المترجمون مع الأيام على ما هو أكبر من ذلك دون أن يطرف لهم جفن أو تعتريهم خالجة من ندم.
كذلك نراه ينقل قول الحق سبحانه، على لسان قوم مريم لها حين رَأَوْها تحمل طفلا رضيعا دون أن يسبق لها زواج: "لقد جئتِ شيئا فَرِيًّا"، على النحو التالى: "Tu as commis une chose fabuleuse"، مستخدما كلمة "fabuleuse: (أى شيئا) خرافيا" للدلالة على استغرابهم وتعجبهم، وتاركا الكلمة التى استعملها حميد الله، كما ذكر هو بالهامش، وهى كلمة "monstrueuse: بشعا"، التى استخدمها كذلك كل من بلاشير وماسون. وتعليقى هو أن "fabuleuse" تعنى، فيما أفهم، الشىء المدهش الذى لا يكاد يصدَّق "لـِحُسْنه"، اللهم إلا إذا ظننا أن قومها كانوا معجبين بإنجازها هذا العجيب، إذ حملت وأنجبت دون زواج، وهو ما لا يمكن أن يقع إلا فى مسرحية هزلية. أما الــ"monstrueuse" فهو الشىء الغريب القبيح الذى يبعث على الكراهية والاشمئزاز. أما سافارى وكازيميرسكى فقد وصفا ما فعلته مريم بأنه "étrange: غريب". وفى ترجمة إدوار مونتيه: "extraordinaire"، وعند الصادق مازيغ (التونسى) نجد كلمة واحدة لعبارة "شيئا فريا" كاملة، وهى ":une infamie عارا"، فيما قال جاك بيرك: " :épouvantableفظيعا/ مروِّعا". وقد يمكن أن نستعمل أيضا كلمة "scandaleuse: فاضحا/ مخزيا".
كذلك ترجم الدكتور الديب كلمة "بَغِىّ" فى قوله عز شأنه: "يا أخت هارون، ما كان أبوكِ امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيا" إلى "abusée"، ومعناها: "المغرَّر بها"، فهل "البغىّ" هى التى يُغَرَّر بها؟ أم هل هى بالأحرى التى تريد إيقاع الرجال فى حبائلها؟ وفى بلاشير وأبو بكر حمزة وماسون: "une prostituée"، وهذه ترجمة صحيحة، وفى بيرك: "une gaupe"، وهى تؤدى ذات المعنى.
وفى قوله جل جلاله عن اختلاف الفرق النصرانية حول طبيعة السيد المسيح بعد أن أعلن عليه السلام، وهو صبى فى المهد أمام الجموع التى أتت تتهم أمه بالعهر، بأنه ليس إلا عبدا لله آتاه الله الكتاب وجعله نبيا من أنبيائه: "فاختلف الأحزاب من بينهم..." يترجم د. أبو ساحلية كلمة "الأحزاب" بــ"les coalisés"، وهى تعنى "المتحالفين"، على حين أننا هنا بإزاء فرق منقسمة متناحرة لا متحالفة. فالتحزب فى هذا السياق هو تحزب الفُرْقة والاختلاف، بخلاف التحزب فى غزوة الخندق مثلا الذى كان تحزُّب تحالفٍ ضد النبى والمسلمين، ومن هنا يصدق على من اشتركوا فى تلك الغزوة أن يسمَّوْا: "les coalisés"، ومن هنا أيضا أُطْلِق على تلك الغزوة اسم غزوة "الأحزاب". أما الأحزاب هنا فيمكن ترجمتها بــ"les sectaires" كما هو الوضع عند سافارى، أو "les partis" طبقا لما ترجمها به كل من مونتيه وحميد الله، أو "les factions" حسبما نجد فى ترجمة كل من بلاشير والدكتورة ماسون وجاك بيرك، أو "sectes" مثلما هو الأمر لدن أبو بكر حمزة ومازيغ.
أما ترجمته لقوله عَزَّتْ قُدْرَتُه بشأن الذين يؤلهون السيد المسيح: "أِسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا" إلى "Écoute-les et vois[-les]" بما يعنى "اسْمَعْهم وأَبْصِرْهم" (متبعا فهم جاك بيرك لها، وإن كان بيرك قد استخدم الفعل: "Entends" بدلا من "Écoute")، فليس لها إلا تفسير واحد: أن الأستاذ المترجم لا يعرف هنا من أمر اللغة العربية ما ينبغى أن يعرفه كل أحد لديه فكرة بسيطة عنها، إذ إن تلاميذ المدارس الصغار يدرسون فى النحو والصرف بابا اسمه باب التعجب يضم صيغتين مشهورتين لهذا المعنى هما: "ما أفعله!" و"أَفْعِلْ به!". فأنت إذا أردت أن تعبر عن تعجبك من طول ليلة من الليالى قضيتها ساهرا لا يغمض لك جفن قلت: "ما أطول هذه الليلة!/ أَطْوِلْ بها!"، وإذا أردت أن تتعجب من حسن منظرٍ ما قلت: "ما أحسن هذا المنظر!/ أَحْسِنْ به!"... وهكذا. وعلى ذلك فقوله سبحانه وتعالى يصف ما سوف يكون عليه يوم القيامة حالُ أولئك الكافرين الذين دمغهم فى نهاية الآية بأنهم يعيشون فى الدنيا فى ضلال مبين فلا يسمعون الحق ولا يستطيعون أن يبصروه: "أَسْمِعْ بهم وأَبْصِرْ يوم يأتوننا، لكنِ الظالمون اليوم فى ضلال مبين" معناه أنهم، وإن كانوا لا يسمعون ولا يبصرون اليوم بسبب ما يغشى بصائرهم من كفر غليظ، فإنهم يوم يَلْقَوْن ربهم سوف تكون مقدرتهم على السمع والإبصار والفهم عجبا من العجب، إذ ساعتها سوف ينقشع عنهم ما كان يطمس على أبصارهم ويسد نوافذ أسماعهم. أما ما قاله الدكتور المترجم فهو خطأ فى خطإ فى خطإ. والعجيب أنه، رغم ذلك، قد أورد فى الهامش ترجمة حميد الله، الذى كتب يخطّئ جهوده فى ترجمة القرآن فى مقال له معلنا أنه قام بترجمة كتاب الله من جديد كى يضع حدا لما فى ترجمة العالم الهندى المسلم الكبير من عيوب. وهذه الترجمة تجرى هكذا: "Comme ils entendront et verrons bien le jour où ils viendront à nous!". ولقد كان ينبغى أن يقف د. سامى أمام تلك الترجمة مَلِيًّا ويتساءل عن السبب فى أنها جاءت هكذا، وبخاصة أن حميد الله قد أثبت فى نهاية الكلام علامة التعجب. بَيْدَ أنه لم يفعل، وأرجح بل أكاد أوقن أنه حَسِب تلك الترجمة ترجمة خاطئة فضرب عنها صفحا، ثم زاد فأوردها فى الهامش كى يلفت الأنظار إلى أنه يعرف الصواب، وأنه لهذا قد تنكَّبها تنكُّبا إلى ذلك الصواب! وهذه الترجمة نجدها بنصها تقريبا لدى بلاشير وأبو بكر حمزة. وبالمناسبة فقد هلل بعض المصريين لترجمة بيرك حين صدرت فى التسعينات وعَدُّوها فتحا غير مسبوق فى عالم الترجمات القرآنية، وهو ما أظهرت أنه كلام فارغ فى كتابى عن تلك الترجمة الذى يستطيع القارئ أن يحصل على نسخة ضوئية منه من عدد من المواقع المشباكية، إذ الترجمة تعج بالأخطاء الشائنة حتى فيما يتعلق بأوليات القواعد النحوية والمعارف البلاغية، علاوة على ما فيها من بهلوانيات وإساءات إلى الإسلام وكتابه المجيد.
على أن هذا لا يعنى أن ننكر تفرد بيرك، من بين أصحاب الترجمات التى أنظر فيها الآن، بالتنبه إلى أن كلمة "خَلْف" (بسكون اللام لا بفتحها) التى وردت فى قوله تعالى فى الآية التاسعة والخمسين من سورتنا هذه: "فخَلَفَ مِنْ بعدهم خَلْفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعوا الشهواتِ فسوف يَلْقَوْن غَيًّا" لا تعنى، إذا ما أردنا الدقة، الأجيال التالية بإطلاق، بل السىء منها، ولهذا وصفهم بــ"indignes"، وهو ما لم يتنبه له أى من المترجمين المشار لهم، ومنهم بطبيعة الحال الدكتورالديب! وفى معجم "العين" مثلا للخليل بن أحمد أنه "لا يجوز أن يقال: من الأشرار خَلَفٌ، ولا من الأخيار خَلْفٌ"، وإن كان هناك من لا يلتفت إلى هذه الدقيقة اللغوية. إلا أن لغة القرآن هى من الحساسية بحيث ينبغى أن نتعامل معها بما يليق بها من الاهتمام والتدقيق.
وحين يترجم د. الديب كلمة "تاب" فى الآية الستين من السورة: "إلا من تاب وآمن وعمل صالحا..." نراه يستعمل فى مقابلها الفعل: "revenir"، ومعناه "عاد"، وهى كلمة فضفاضة. أما المترجمون الآخرون فكلهم استعمل الفعل: "repentir (se)"، إلا اثنين لجآ إلى الفعل: "عاد"، لكن أحدهما حدد العودة بأنها إلى الله، والثانى حددها بأنها عودة إلى الندم، ولم يكتفيا بالعودة المطلقة التى لا تغنى هنا شيئا ذا قيمة.
كذلك فعندما يترجم كلمة "سَمِيًّا" فى قول رب العزة: "رب السماوات والأرض ومابينهما، فاعبده واصْطَبِرْ لعبادته. هل تعلم له سميًّا؟" يترجمها بــ"homonyme"، وهو ما يعنى: هل تعلم شخصا آخر يحمل نفس الاسم الذى يحمله الله؟ فهل هذا كلام يُعْقَل أو يُقْبَل؟ وهل هذا مما يمكن أن يقوله الله جل جلاله؟ لكنى مع ذلك لا أريد أن أظلم المترجم، إذ وجدت الترجمات الأخرى كلها تقول الشىء ذاته، ما عدا الصادق مازيغ، الذى قال شيئا آخر أرى أنه هو الفهم الصحيح للآية، وهو: "En connais-tu quelqu'autre qui puisse L'égaler? ". ذلك أن معنى الكلام فى نظرى هو: "هل ثَمَّ كائن آخر يساميه سبحانه فى عظمته وألوهيته؟"، إذ من معانى كلمة "سَمِىّ": "النظير والمثل" كما فى المعاجم، فكان ينبغى على مترجمى القرآن أن يتنبهوا إلى هذا فيما يخص المولى سبحانه.
وقد ألفيت لفرط سرورى، حين رجعت الآن إلى الطبرى شيخ المفسرين، أنه لم يذكر فى تفسير هذه الآية إلا المعنى الذى آثرتُه، فحمدت الله على هذا التوافق. قال رضى الله عنه: "قوله: "فـاعْبُدْه"، يقول: فـالزم طاعته، وذِلّ لأمره ونهيه."وَاصْطَبِرْ لِعِبـادَتِهِ"، يقول: واصبر نفسك علـى النفوذ لأمره ونهيه والعمل بطاعته تَفُزْ برضاه عنك، فإنه الإله الذي لا مِثْل له ولا عِدْل ولا شبـيه فـي جوده وكرمه وفضله."هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم يا مـحمد لربك هذا الذي أمرناك بعبـادته والصبر علـى طاعته مثلا فـي كرمه وجوده، فتعبده رجاء فضله وطوله دونه؟ كلا، ما ذلك بـموجود. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك: حدثني علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية عن علـيّ عن ابن عبـاس، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، يقول: هل تعلـم للربّ مِثْلاً أو شبـيهًا؟ حدثنـي سعيد بن عثمان التنوخي، قال: ثنا إبراهيـم بن مهدي عن عبـاد بن عوّام عن شعبة عن الـحسن بن عمارة عن رجل عن ابن عبـاس فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: شبـيها. حدثنـي يحيى بن إبراهيـم الـمسعودي، قال: ثنا أبـي عن أبـيه عن جدّه عن الأعمش عن مـجاهد فـي هذه الآية: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: هل تعلـم له شبـيها؟ هل تعلـم له مِثْلاً تبـارك وتعالـى؟ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، لا سميّ لله ولا عِدْل له، كلُّ خَلْقِه يقرّ له ويعترف أنه خالقه، ويعرف ذلك، ثم يقرأ هذه الآية: "وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَـلَقَهُمْ لَـيَقُولُنَّ اللَّهُ". حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج عن ابن جريج فـي قوله: "هَلْ تَعْلَـمُ لَهُ سَمِيًّا"، قال: يقول: لا شريك له ولا مِثْل".
وبالمثل كنت أحب لو أن مترجمنا ترجم كلمة "عِزًّا" فى قوله تعالى: "واتخذوا من دونه آلهة ليكونوا لهم عِزًّا" بما يفيد أنهم كانوا يبتغون عند آلهتهم القوة والعون (puissance) كما فعل عدد من المترجمين الآخرين، بدلا من لجوئه إلى كلمة "fierté"، التى تدل على الفخر والإباء، ولا أظنه المقصود هنا. والآيات القرآنية المتعلقة بهذا الموضوع تدل على ما أقول، فهى تتحدث عن النصر الذى يرجوه المشركون من آلهتهم: "فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192/ الأعراف)"، "وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197/ الأعراف)"، "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93/ الشعراء)"، " وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75/ يس)".
المفضلات