نقش الملك التوراتي يهوآش
نموذج لتزوير التاريخ الفلسطيني
د. عصام سخيني
كلية الآداب - جامعة البترا
ملخص
كشف ثلاثة من جيولوجيي مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" التابع لوزارة البنى التحتية الإسرائيلية (في كانون الثاني 2003) أنهم تأكدوا من صحة لوحة حجرية زعم أنها نقشت في عهد يهوآش الذي جاء ذكره في الروايات التوراتية على أنه ملك يهوذا الذي حكم في القدس في القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذه اللوحة المكونة من 15 سطراً، والمنقوشة باللغة العبرية بأحرف فينيقية قديمة، يكيل يهوآش المدح والتمجيد لأعمال الترميم التي أجراها في "هيكل سليمان" بأسلوب يماثل الأسلوب الذي كتبت به فقرات من التوراة تصف هذه الحادثة.
وقد أثار النقش عاصفة في الأوساط الأكاديمية، فقد اعتبره جيولوجيو المركز المذكور ومعهم عدد من الباحثين أنه الدليل الأول من نوعه من مصادر غير توراتية الذي يتطابق مع الروايات التوراتية، وبهذا المعنى فقد زعم أنه يؤكد وجود "الهيكل الأول" ويسوغ بالتالي المطالبة اليهودية "بجبل الهيكل" موقع الحرم القدسي الشريف.
غير أن باحثين آخرين تيقنوا من أن النقش مزور، وقد ضم هؤلاء علماء آثار وخبراء في الكتابات القديمة والنقوش واللغات السامية القديمة، وقد أقاموا حكمهم ذلك على فحوص أجروها على النقش نفسه (مواده ولغته ونقوشه) وعلى تقرير فريق المركز المذكور، وخلصوا من ذلك إلى نتيجة مؤادها أن النقش لا يمكن أن يكون قديماً.
وتتفحص الدراسة الحالية هذا التزوير بتفصيل ضمن إطار وظيفته في تزييف تاريخ فلسطين القديم.
الإطار المرجعي للبحث
نمت عملية كتابة التاريخ القديم لفلسطين على أيدي الغربيين في أحضان التوراة، فهي التي شكلت المرجعية التي تكاد تكون وحيدة لهذه العملية بحيث أسدل ستار كثيف على ماضي فلسطين القديمة فلا يرى إلا من خلال ما تقصه عنه الحكايات التوراتية، وبهذا المعنى فإن تاريخ فلسطين القديم ليس إلا تاريخ اليهود فيها، أما ما يخرج عن الإطار اليهودي فليس له إلا وظيفة واحدة هي أن يكون ملحقاً بهذا الإطار أو حاشية ثانوية للمتن الأصلي دون أن يمتلك الحيثية التي تؤهله للتعامل معه مستقلاً بنفسه، متخلصاً من صفتي الإلحاق والتبعية، وهذه الحالة هي التي ينطبق عليها وصف وليد الخالدي بأنها "اعتقال التاريخ الفلسطيني بالعهد القديم (التوراة)"(1) أو هي في الحقيقة "إسكات التاريخ الفلسطيني" وفق تعبير كيث وايتلام(2).
وكانت الحالة هي هكذا حتى وقت قريب، إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما حدث ما يشبه الثورة في الدراسات التوراتية نفسها قلبت للتوراة ظهر المجن بعد أن ثبت لأعلام هذه "الثورة" أن هذا الكتاب لا يزيد في حقيقته عن أن يكون كتاب لاهوت من جانب، ومجموعة من الحكايات الأسطورية من جانب آخر. بعضها مختلق بالكامل، وبعضها تكرار بصياغات مختلفة لأساطير أقوام وحضارات قديمة، لفقت معاً لصياغة تاريخ مشتهى لليهود، وهو في كلتا الحالتين (اللاهوتية والأسطورية) لا يصلح أن يكون وثيقة لمعرفة تاريخ فلسطين القديم، وبالتالي لكتابة هذا التاريخ اعتماداً عليه.
وقد نجم عن هذه "الثورة" صراع بين أعلامها من جهة وبين خصومهم التقليديين من جهة ثانية، وهم الذين تمسكوا بأهمية التوراة كوثيقة أساسية في عملية التاريخ. وفي هذا الصراع أطلق على هؤلاء الأعلام صفة Minimalists التي يمكن اقتراح كلمة عربية مقابلة لها هي لفظة "المهوّنين" في مقابل صفة Maximalists التي أطلقت على الخصوم التقليديين، والتي يمكن اقتراح مقابل عربي لها بلفظة "المغالين"(3).
وقد توزع أعلام هذه "الثورة" وهم جميعاً أساتذة وباحثون كبار في الدراسات التوراتية، أو علم الآثار، أو اللغات القديمة، على جانبي الأطلسي كليهما، فاشتهر على الجانب الغربي منه توماس طمسن(4)Thomas L. Thompsom الذي لم تتحمل الأوساط "الأكاديمية التوراتية" هناك جرأته في محاولاته كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن التوراة، فـ "هاجر" إلى الدنمارك ملتحقاً بجامعة كوبنهاجن، أما في الجانب الأوروبي فاشتهر من هؤلاء الأعلام نيلز بيتر لمكه(5) Neils Peter Lemche من جامعة كوبنهاجن بالدنمارك، وكيث وايتلام (6) Keith W. Whitelam وفيليب ديفز(7) Philip R. Davies من جامعتي ستيرلنج وشفيلد البريطانيتين على التوالي، وجيوفاني جابريني(8) Giovanni Gabrini من جامعة روما، لنذكر فقط أسماء قليلة، أما عربياً فقد كان مَن شارك في هذه الثورة قلة من الباحثين، وكان في الطليعة منهم الباحث السوري فراس السواح(9) كما كانت للباحث الحالي مساهمة جزئية فيها في دراسة له سابقة(10).
ومن خلال النتائج التي توصل إليها هؤلاء "المهوّنون" أخذت تتراءى معالم جديدة للتاريخ الفلسطيني القديم قائمة على دعامتين:
الأولى هدم الأسطورة التوراتية عن ماضي اليهود في فلسطين ووضعها في مكانها الصحيح من حيث هي مجموعة من الحكايات المختلفة لا تثبت للنقد التاريخي وقد ابتدأ محررو التوراة بصياغتها في العصر الفارسي الذي غلب على فلسطين (538 – 332 ق.م) وتوسعت الصياغة واستقرت في العصر الهلينستي (332 – 63 ق.م) حتى عدّ بعض المؤرخين التوراة كتاباً هلنستياً.
أما الدعامة الثانية: فهي التوجه نحو كتابة تاريخ مستقل لفلسطين القديمة متحرر من ربقة الأخيولة التوراتية ومعتمد على الوثائق المشرقية القديمة، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا) وتاريخ تطور المناخ الذي يوفر معلومات وافية عن أنماط الاستيطان البشري في المنطقة، ومعطيات علم الآثار.
غير أن علم الآثار لم يكن في الحقيقة بمنجى عن السطوة التوراتية، فذلك الجانب منه المتصل بالمنطقة أطلق عليه منذ أن نشأ في القرن التاسع عشر اسم علم الآثار التوراتي Biblical Archaeology وقد انحصرت مهمته تحديداً في التنقيب عن الآثار التي تعزز المرويات التوراتية وبالسعي إلى أن يكتشف في باطن الأرض وعلى سطحها ما يمكن أن يدل على شخصية من الشخصيات الوارد ذكرها في التوراة، أو حدث قد سجلته، أو موقع أشارت إليه، وفي هذه الحالات جميعاً أصبحت السمة المجازية لعالم الآثار المنقب في الأرض الفلسطينية هي سمة من يحمل المعول في يمناه والتوراة في يسراه ليكمل بأحدهما الآخر.
لكن على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها "علم الآثار التوراتي" الذي لم يترك حجراً على حجر في فلسطين إلا قلبه ليثبت به صلة ما بين الآثار فيها والحكايات التوراتية، فقد كانت نتائجه مخيبة لآمال أصحابه إذ لم تزد حصيلته في محيط الأرض الفلسطينية عن "أثر" واحد احتفي به لإثبات ادعاء هذه الصلة(11) ذلك "الأثر" هو الذي عرف بنقش تل دان نسبة للمنطقة التي "اكتشف" فيها (تل دان هي تل القاضي العربية في الجليل) وهو مكوّن من كسرتين (إحداهما "اكتشفت" في تموز 1993 والأخرى في حزيران 1994) اعتبرتا نصباً حجرياً يعود لأحد ملوك دمشق الآراميين في القرن التاسع قبل الميلاد وقد سجل عليه بعض انتصاراته في حروبه في المنطقة. وموطن الاحتفاء كان ورود تعبير (ب ي ت د و د) في النقش وقد كتب بالآرامية (ورسم بالأحرف اللاتينية byt dwd وفهم على أنه (بيت داوود) ليستدل منه على الأسرتين الحاكمتين في كل من السامرة ويهوذا المتحدرتين زعماً من الملك داوود.
واستطراداً لذلك ربط ما بين هذا النقش والحكايتين الواردتين في الإصحاحين 20 و22 من سفر الملوك الأول عن هزيمة آخاب ملك السامرة (أو إسرائيل) ويهوشافاط ملك يهوذا (أورشليم) أمام من يسميه هذان الإصحاحان "بن هدد" ملك دمشق الآرامي، غير أن هذا النقش الذي دخل في "علم الآثار التوراتي" على أنه أول وثيقة من "مصدر مستقل" تثبت الصلة ما بين الرواية التوراتية والآثار لم يستطع أن يقف صامداً أمام النقد الصارم الذي وجه له والذي أظهر في النهاية أنه "مزيف" وقد أثبت الزيف طائفة من علماء الآثار واللاهوت واللغات السامية القديمة والنقوش (الإبيغرافيا) ووصل الحد بجيوفاني غابريني، أستاذ الساميات بجامعة روما، بعد أن درس النقش دراسة معمقة إلى اتهام مكتشفي النقش الإسرائيليين: عالم الآثار أبراهام بيران، والعالم بالنقوش الآرامية جوزيف نافيه، بأنهما هما اللذان كانا وراء التزييف(12).
كان "نقش تل دان" بالمصير الذي آل إليه هو الوحيد، كما أكدنا، الذي "اكتشف" في فلسطين بهدف تأكيد الصلة ما بين الروايات التوراتية واللقى الآثارية وإثبات إمكانية قراءة تلك الروايات في ضوء تلك اللقى، ومن أجل الوصول في النهاية إلى التسليم بمصداقية التوراة في رواياتها التاريخية، غير أننا نستدرك بالقول بأن نقشاً آخر قد "اكتشف" حديثاً في فلسطين، في القدس هذه المرة، لم يقل الاحتفاء به (منذ أن أعلن عنه في كانون الثاني 2003) عن ذاك الذي استقبل به "نقش تل دان" وقد نسب هذا النقش إلى يهوآش الذي جاء ذكره في الروايات التوراتية بصفته ملكاً على يهوذا (أورشليم) في القرن التاسع قبل الميلاد، لكن على الرغم من كل التبجيل الذي لاقاه هذا النقش الجديد والاستدلالات والمعاني التي استخرجت منه واستنطاقه بالشهادات عن صحة الروايات التوراتية فقد وجد أن حظه من الصدق التاريخي لم يزد عن حظ سلفه المزور نقش تل دان.
وصف النقش ومحتواه(13)
النقش عبارة عن لوحة من حجر البازلت المائل إلى السواد على شكل مستطيل بأبعاد 61×30×8سم (انظر صورته في الملحق) وهو يحتوي على نص من 15 سطراً كتب باللغة العبرية القديمة بأحرف فينيقية، الجزء الأعلى من اللوحة مكسور وبذلك سقط منها اسم الملك الذي ينسب إليه النقش وهو يهوآش (وفق ما يرسم الاسم في الترجمة العربية للتوراة، بينما يرسم في اللغة الإنجليزية Jehoash) غير أن أصحاب النقش استدلوا على صاحبه المزعوم من أن السطر الثاني في النقش ابتدأ بكلمة "هزياهو" وهي اسم أبي يهوآش لكن تنقصه الألف في البداية، فالاسم كما يرد في العبرانية هو "اهزياهو" بينما ترسمه الترجمة العربية للتوراة "اخزيا" ويرد في الترجمات الإنجليزية برسم Ahaziah وعلى هذا جرى افتراض أن السطر الأول من النقش الذي ضاع نتيجة الكسر الذي أصاب أعلى اللوحة كان يتضمن "يهوآش بن" وبهذا نسب النقش إلى يهوآش بن أخزيا (وفق رسم الاسم في الترجمة العربية للتوراة) وافترض أنه صنع في القرن التاسع قبل الميلاد.
يظهر في اللوحة صدع قطري في الحجر ينحدر من الهامش الأيمن قرب السطر الثامن وينتهي بالحرف الأخير من السطر الحادي عشر، عابراً بعشرة أحرف في أربعة سطور، ويغطي اللوحة غشاء تعتيق patina يشمل اللوحة بما فيها من نقوش وصدع، ويظهر في هذا الغشاء ذرات كربونية، وأيضاً ذريرات من الذهب الخالص.
وقد جاء النص المنقوش في اللوحة بصيغة المتكلم المفرد، بمعنى أن يهوآش كان هو نفسه يتحدث عن العمل الذي قام به وسجله على الحجر، وقد قرئ النقش وترجم على أن يهوآش بسط يده لجمع الفضة من كل مكان في يهوذا لكي يدفع ثمن الحجارة والخشب وقضبان البرنز لترميم البيت المقدس (الهيكل) وهو قد فعل ذلك في البيت نفسه وفي أبوابه وممراته، ويختتم بوعد بالبركة من يهوه، اسم الإله العبراني.
وسبب الاحتفاء بهذا النقش أنه يأتي في مضمونه مطابقاً للرواية التوراتية عن ترميم الهيكل الأول (هيكل سليمان) الذي قام به الملك يهوآش، ووفق الكرونولوجيا التوراتية ملك هذا في أورشليم ما بين 836 و798 ق.م وفي السنة الثالثة والعشرين لحكمه أمر الكهنة بترميم ما تهدم من البيت فجمع هؤلاء الفضة، وعندما توفرت وحسبوها "دفعوا الفضة المحسوبة إلى أيدي عاملي الشغل الموكلين على بيت الرب وأنفقوها للنجارين والبنائين العاملين في بيت الرب، ولبنائي الحيطان ونحاتي الحجارة ولشراء الأخشاب والحجارة المنحوتة لترميم ما تهدم من بيت الرب ولكل ما ينفق على البيت لترميمه"(14).
قصة "العثور" على النقش
أعلن رسمياً عن النقش في الثالث عشر من كانون الثاني 2003، وكانت الجهة التي أعلنته هي مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" التابع لوزارة البنى التحتية، وكان المسؤولون عن هذا الإعلان ثلاثة باحثين من المركز هم: شمعون إيلاني Shimon Ilani وأمنون روزنفليد Amnon Rosenfeld ومايكل دفورشيك Michael Dvorchik وهم كانوا قد فحصوا النقش وأجروا عليه الاختبارات العلمية اللازمة وثبت لديهم نتيجة ذلك أنه "موثوق به وأصيل."
أما كيف وصل النقش إلى هذا المركز فموضوع روي بما يشبه القصص الدرامية التي تحيط بها أستار من الغموض وتتضمن كثيراً من الأسرار، فقيل إن الحجر عثرت عليه دائرة الأوقاف الإسلامية تحت الحرم الشريف في القدس عندما كانت تقوم بالحفريات تحت الحرم في مطلع سنة 2000، وهي ألقته دون وعي منها، في جملة ما ألقت من الركام الناتج عن هذه الحفريات في وادي قدرون القريب، وقد عثر عليه هناك "عربي" باعه من تاجر آثار إسرائيلي، ولا تذكر الروايات اسم هذا التاجر ولا تعرف شيئاً عن هويته، سوى أنه كان يمثله، في مراحل أخرى من تطورات القصة، محام إسرائيلي مشهور هو إسحاق هيرتزوج، وهو نائب سابق في البرلمان الإسرائيلي كما كان مستشاراً لرئيس الحكومة إيهود باراك.
وتمضي الرواية بالقول إن مالك الحجر المجهول، أو من يمثله، عرضه في صيف 2001 على جوزيف نافيه عالم النقوش المشهور من الجامعة العبرية (وهو نفسه الذي اتهم بتزييف نقش دان، انظر أعلاه) وتصف الرواية هذا الحدث كما يلي:
"اتصل شخص مجهول بنافيه وطلب منه أن يتأكد من مصداقية النقش، وقد وافق نافيه على أن يراه فأرسل إليه الشخص صورة للنقش، غير أنه بعد أن تفحص الصورة طلب أن يرى الحجر نفسه، وهكذا التقى نافيه، في موعد حدد له، في فندق في القدس مع هذا الشخص الإسرائيلي وشاب عربي ظل صامتاً خلال الاجتماع.. وكان أمام نافيه متسع من الوقت لفحص الحجر.. واستنتج من هذا الفحص أن النقش يمكن جداً أن يكون شيئاً مزوراً(15)، ويبدو أن مالك هذا الحجر المجهول لم يرض بهذا الحكم فقام بعرضه على المتحف الإسرائيلي للنظر في صدقيته، وبالتالي بيعه من المتحف، إلا أن المسؤولين هناك أبلغوه بأنهم لا يستطيعون أن ينفوا إمكانية أن يكون مزوراً(16) غير أن هذا "التاجر" لم يقعده اليأس عن عرض بضاعته فقام من خلال محاميه إسحاق هيرتزوغ- بعرض الحجر (في أيلول 2001) على مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" حيث تولى العلماء الثلاثة المذكورون آنفاً إجراء الفحص "العلمي" اللازم للتأكد من صدقيته، وأعلنوا بالتالي (في كانون الثاني 2003) النتائج التي توصلوا إليها والتي قالوا فيها إنه ثبت لديهم إن النقش صحيح وموثوق".
نتائج الفحص المعلنة
ركز جيولوجيو المركز في فحصهم على ثلاثة أمور: غشاء التعتيقpatina الذي غلف الحجر، وذرات الكربون التي وجدت في الغلاف، وكريات الذهب الصغيرة التي وجدت عليه.
فقد ذكر تقريرهم(17) أن الحجر مغلف بغشاء بني مصفر مكون من العناصر الكيمائية نفسها التي يتكون منها الحجر بالإضافة إلى عناصر أخرى دخلت عليه جاءته من الأرض التي دفن فيها، ويغطي الغشاء الحجر بكامله بما فيه الجزء المكسور في أعلاه، والصدع الحادث فيه، والحروف المنقوشة عليه، ويستنتج التقرير من ذلك أن هذا الغشاء أصلي وقد تكون بفعل الزمن (معتق) وليس هناك احتمال بأن يكون شخص ما قد حصل على حجر معتق من الأصل وقام بنقش الحروف فيه، كذلك لم ير الجيولوجيون مادة لاصقة على الحجر تفتح مجالاً للقول بأن شخصاً ما أيضاً قام بعمل النقوش والصدع على حجر "نظيف" ثم ألصق عليه الغشاء الدال على القدم، كذلك درس الجيولوجيون الصدع في الحجر واستنتجوا عدم إمكانية نقش الحروف المار بها الصدع، وإلا لكانت اللوحة قد تعرضت للكسر، والنتيجة التي توصلوا إليها من هذا الفحص تذهب إلى أن الغشاء قد تكون بعد نحو من 500 إلى 600 سنة بعد أن تم النقش على الحجر نتيجة فعل الزمن، وأيضاً بسبب دفنه في الأرض مدة طويلة، والخلاصة أن النقش صحيح وهو ليس من صنع مزور.
أما ذرات الكربون في الغشاء فقد أخضعت للفحص من جانب مختبر أمريكي هوBeta Radiocarbon Dating Laboratory at Miami, Florida وكان الهدف من الفحص هو معرفة عمر هذه الذرات باستخدام تكنولوجيا قياس نسبة الكربون المشع (الكربون 14) فيها، وهي تكنولوجيا مستخدمة في علم الآثار والجيولوجيا لتحديد عمر الأجسام التي تحتوي في تركيبتها عنصر الكربون، ونتيجة الفحص، كما يذكر التقرير، تبين أن عمر هذه الذرات المكربنة العالقة في الغشاء يعود إلى ما بين سنتي 390 و200 ق.م وبذلك يتوصل التقرير إلى الوثوق بصحة النقش بدليل قدم هذه الذرات التي هي بالتأكيد، وفق جيولوجيي المركز، ليست من صنع حديث.
كذلك فُعل بكريات الذهب الميكروسكوبية التي بين التقرير أنها من الذهب الخالص وهي عالقة في الغشاء فلا يمكن أن تضاف إليه، فهي بذلك دليل آخر على قدم النقش.
من هذه النتائج تم التوصل إلى الخلاصة التالية: إن النقش القديم يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وقد بقيت اللوحة التي حملته سليمة، ربما معلقة على أحد جدران الهيكل الأول (هيكل سليمان) إلى حين تدمير أورشليم على يد البابليين سنة 586ق.م، وفي عملية التدمير هذه دمر الهيكل وأصيب بحريق والذرات المكربنة في الغشاء هي من آثار هذا الحريق، أما كريات الذهب العالقة في الغشاء فهي قد وصلت إلى الحجر من الذهب الذي كان يغشي جدران الهيكل وقد انصهر بفعل الحريق.
وقبل أن نمضي قدماً في عرض هذه النتائج على محك النقد نلمّ بردود الفعل الاحتفائية التي استقبل بها هذا "الاكتشاف" وبالمعاني والدلالات التي اشتقت منه.
المعاني والدلالات
مثل النقش مستنداً لـ "المغالين" لتعزيز دفاعهم عن "تاريخية" التوراة وأداة لسحب البساط من تحت أقدام "المهوّنين" فهو لدى الأوائل أثر ومصدر مستقل يثبت أن الروايات التي جاءت بها التوراة صحيحة، وقد وصف الآثاري الإسرائيلي سيلبرمان هذا الوضع بقوله: "إنه في الوقت الذي أصبح فيه تاريخ تأليف التاريخ التثنوي(18) مسألة خلاف حاد بين المغالين والمهوّنين، يقدم نقش يهوآش إجابة قوية منقوشة في الحجر على أولئك الذين ينكرون أن التاريخ التثنوي يتضمن تسجيلاً معتمداً عليه للحوادث التي وقعت(19).
وفي التفصيل اعتبر هرشل شانكس، رئيس تحرير مجلة Biblical Archaeology Revieew الصادرة من واشنطن والواسعة الانتشار وعميقة التأثير في الأوساط الأكاديمية التوراتية، أن النقش "تأكيد غير عادي للنص التوراتي" ويؤكد -وهو نفسه من "المغالين"- أن النقش يدعم تاريخية سفر الملوك(20). وفي هذا الاتجاه نفسه ذهب غابرييل باركاي أستاذ الآثار في جامعة بار إيلان (بإسرائيل) الذي رأى أن النقش –في حال إثبات صدقيته- هو أكثر اللقى الآثارية أهمية في القدس وفي إسرائيل فهو "الدليل المادي الأول من نوعه الذي يصف الأحداث بأسلوب متوافق تماماً مع الروايات التوراتية(21)" كذلك ذهب إلى أن هذه هي المرة الأولى التي توثق فيها "السلالة الداوودية" في مراحلها الأولى في مصدر غير توراتي(22).
غير أنه إلى جانب هذه الأهمية التي أظهرها النقش لفريق "المغالين" في تأكيدهم صحة الحكايات التوراتية التي سوغتها اللوحة "المكتشفة" فقد احتلت مسألة إثبات تاريخية "الهيكل" مكانة أبرز في جملة اهتماماتهم، فوفقاً لبركاي فقد وفر النقش الدليل على وجود "الهيكل" وبذلك ينبغي أن يتاح للعلماء فحصه، وألا يبقى محاطاً بالسرية(23) في إشارة إلى حالة الغموض الدرامي التي لفعت بها قصة "اكتشافه" أما شاتكس فقد أراد من النقش أن يكون محوراً في النزاع القائم حول "جبل الهيكل" أو بتعبير أصح موقع المسجد الأقصى، فهو كتب في المجلة التي يرأس تحريرها: "إذا ثبتت صحة النقش فهو يقدم الدليل على حق مطالبة إسرائيل بجبل الهيكل، أما إذا كان مزوراً فهذا يعني أن إسرائيلياً ما كان يحاول أن يصنع دليلاً على حق إسرائيل بالمطالبة بجبل الهيكل، أو ربما أن فلسطينياً ما كان يحاول أن يغرس شيئاً مزوراً لكي يقوض به حق إسرائيل المفترض في المطالبة بجبل الهيكل"(24) غير أن هذه الاحتمالات التي أوردها شانكس لا تبطل رأيه في ترجيح أن يكون النقش صحيحاً(25).
أما الأكثر وضوحاً وصراحة من هذه الآراء التي طرحها كل من بركاي وشانكس عن أهمية النقش في إثبات الأسطورة التوراتية عن "الهيكل" فقد كان الحملة التحريضية التي قادتها منظمة "أمناء جبل الهيكل" لترويج أفكارها انطلاقاً من هذا "الاكتشاف" وهذه المنظمة اليهودية المتطرفة التي قامت نواتها الأولى بعد حرب 1967، تقوم أفكارها، من جملة أمور أخرى على ركيزتين: الأولى "تحرير جبل الهيكل من الاحتلال العربي (الإسلامي)" وبذلك فإنه من الواجب هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة وإعادة بنائهما في مكة، والثانية "بناء الهيكل الثالث(26) وفقاً لكلمات جميع الأنبياء العبرانيين(27) وقد تمسكت المنظمة بالنقش "المكتشف" معتقدة اعتقاداً جازماً بصحته وبأنه فعلاً من عمل "الملك" يهوآش وبأنه "أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ أرض إسرائيل والقدس وأكثرها إثارة"(28).
واستناداً إلى ذلك اعتبرت المنظمة أن هذا الاكتشاف إنما هو "رسالة من الله بعثها إلى جيلنا من خلال الملك يهوآش قائلاً: لقد حان الوقت لبناء بيت للرب.. وبذلك فإن من واجب الشعب في إسرائيل أن يبني بيته (بيت الرب) كما أنه لن يسمح لأي شخص في إسرائيل بل في العالم أجمع بأن يقف موقفاً سلبياً تجاه هذا المشروع الفائق الأهمية على مدى الأزمان"(29).
وغير ذلك، فقد حذرت المنظمة العرب من أن يقفوا في وجه هذه "الرسالة الإلهية" مبينة "أن جبل الهيكل ما يزال مليئاً ببقايا الهيكل ومواده المقدسة، لذلك نحذر الأعداء العرب المتوحشين الموجودين على جبل الهيكل من محاولة المس بها أو تحطيمها، ذلك بأن أعين "إله إسرائيل" وقلبه وعنايته موجهة، ليل نهار، إلى شعبه وإلى أرضه التي وهبها إلى "إسرائيل" وإلى أورشليم، وإلى جبل الهيكل الذي هو أقدس موقع في الدنيا، وهكذا فإن من الأفضل لهم أن يحذروا ويخشوا غضب الله وحكمه عليهم، "فإله إسرائيل" ينصحهم بأن يتركوا جبل الهيكل وشأنه وينأوا بأنفسهم من موقع الإله المقدس وهيكله، فالله عازم على أن يعيد بناء الهيكل، ولن يسمح لأعدائه بأن يوقفوه عن ذلك(30).
المفضلات