الباب التاسع
التخبط في السودان


وقبل أن نخوض في حركة التمرد الثانية علينا أن نقف مع بعض المكونات الجنوبية التي ظهرت في الإقليم الجنوبي... من هي؟.. ما هي دوافعها ومراميها، ومن كان وراءها؟.. وقبل البدء في ذلك وجدت أنه من الأنسب تقديم فكرة موجزة عن استيلاء الجيش السوداني على السلطة وتشكيل الحكومة العسكرية الوطنية الأولى في السودان.

الفصل الأول
استيلاء الجيش على السلطة


في 17 - تشرين الثاني - نوفمبر - عام 1958 استولى الجيش السوداني برئاسة الفريق (إبراهيم عبود) على السلطة، وبهذا الاستيلاء تكون مشكلة الجنوب قد دخلت مرحلة جديدة، والواقع أنَّ تسلم الجيش للسلطة لم يكن بسبب فشل الأحزاب السياسية في إيجاد حكومة تعمل لحل المشاكل المتفاقمة كإرساء الوحدة الوطنية والاقتصادية، حيث أنَّ حزب الاتحاد الوطني السوداني الأفريقي الذي تكون خارج السودان في نهاية عام 1958، قال بأنَّ تسلم الجيش لمقاليد الأمور في البلاد قد دبر من أجل عزل الجنوب عن الشمال ثم سيطرة الشمال على الجنوب.
ولكن هذا غير صحيح، والحقيقة أنَّ الذي دعا الجيش لتسلم السلطة هو رئيس الوزراء حينها (عبدالله خليل) وذلك من أجل إحباط الجهود الرامية لعقد تحالف بين حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي، كذلك حل البرلمان لأنَّ معظم أعضائه كانوا قد أظهروا العداء لرئيس الوزراء ولسياسته الداخلية والخارجية وكذلك من أجل إيقاف المعارضة خارج البرلمان والمتمثلة في رجال الخدمة المدنية والنقابيين والمزارعين وكذلك الطلبة، حيث كان هؤلاء متذمرين من سوء الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وبناءً على ذلك وكما يقول العارفون والمطلعون على الأمور الحقيقية للسودان «بأنَّ تسلم الجيش للسلطة كان مؤامرة من أهل الشمال» وهذا أمر يدعو للضحك والسخرية؟
حكومة الفريق (عبود):
جاءت الحكومة العسكرية ممثلة بالفريق (إبراهيم عبود)، ولم تكن تملك ورقة عمل لحل مشكلة الجنوب كمثيلتها الحكومة المقالة.
ولقد عملت الحكومة العسكرية على إيجاد حلول للقضايا الإقتصادية في أعوامها الأولى، ولكنها لم تعط مشكلة الجنوب اهتماماً خاصاً، وكان هناك من ينادي باستخدام القوة في مواجهة تحرك الجنوبيين المتمردين المطالبين بحكم فيدرالي أو أبعد من ذلك وهو انفصال الجنوب، ولكن هذين الأمرين وإن كان الأول منهما مقبولاً ولكن بشروط، دعيا الكثير من الطامحين غير الشرعيين إلى العنف والحرب.
وعلى سبيل المثال نورد الآتي:
قام محافظ الاستوائية المدعو (علي يلدو) بإلقاء خطبة في مدينة «جوبا» عام 1961 نقتطف بعض ما جاء فيها:
1 - إنَّنا نشكر الله العلي القدير الذي يسر بفضل الجهود الضخمة لحكومة الثورة أن تظل بلادنا وتبقى موحدة للأبدية؟
2 - على الشعب ألاَّ يلتفت للشائعات المغرضة، التي قد يروج لها الساسة.
3 - من المؤكد أنكم لا ترغبون في إراقة الدماء مرة أخرى في الجنوب، ولا أحسبني بحاجة لأن أذكركم بأنَّ كل من يجرؤ على الإخلال بالأمن والسلام سنتخذ ضده إجراءات صارمة فوراً.
وهنا لابد لي أن أسجل موقفاً مميزاً للحزب الشيوعي السوداني الذي وقف في وجه الكثير من القرارات الديكتاتورية.
إلاَّ أننا نستطيع أن نسجل موقفاً إيجابياً مميزاً للنظام العسكري وهو إسراعه في إدخال اللغة العربية والثقافة الإسلامية للجنوب من أجل تمتين العلاقة بين الإقليمين.
وقد تم افتتاح عدد من المدارس ذات النهج العربي الإسلامي في كل من /جوبا / كدوك / واو / مريدي / راجا / ياي/، كذلك افتتح معهد عربي إسلامي في مدينة /جوبا/ عاصمة الجنوب.
هكذا انصب نشاط العسكريين على تعليم اللغة العربية ونشر الدين الإسلامي فما كان من غلاة الحكام الذين يطلق عليهم [ المثقفين الجنوبيين ] إلا أن يفرّوا إلى الخارج، وما كان من القساوسة إلاَّ أن كتبوا عريضة وقدموها إلى الفريق عبود ينددون بأعمال الحكومة، هنا قامت السلطات الحكومية باعتقال بعض من هؤلاء القساوسة، وفيما يلي نقدم بعض ما جاء في هذه العريضة:
«ليس هناك من أحد، مهما علا شأنه ملكاً كان أم امبراطوراً، يمكنه إجبارنا على أن نسير في طريق يخالف تعاليم أبينا الذي في السماوات والأرض أو يتجافى مع ضمائرنا».
ثم استطردت العريضة قائلة:
«لقد أضحى القانون سلاحاً لكبح زمام /المسيحية/؟ ولفرض الدين الإسلامي»، لم يكن هذا بالطبع رأي القساوسة والرعية المسيحية السودانية إنما كان إيحاءً من الغرب المتصهين ونتيجة لهذا الموقف الغربي قامت الحكومة العسكرية بطرد الهيئات التبشيرية الغربية وفق الأمر الآتي:
ففي 27/2/1961 أصدرت وزارة الداخلية أمراً بطرد كافة موظفي الهيئات التبشيرية الأجنبية من الجنوب، علماً بأنَّ عدد الهيئات التبشيرية كان 267 هيئة، وكان من بين المطرودين /272/ قساً كانوا تابعين لبطريركية فيرونا، و/28/ قساً من البروتستانتيين، بعد ذلك اتهم وزير الداخلية في الحكومة العسكرية بأنَّ المجلس المركزي للإرساليات يقوم بنشاط يهدد وحدة السودان، وهذا ما ثبت الآن.
وقد ازدادت مخاوف نظام الفريق عبود من كثرة المطبوعات الكاثوليكية التي تحمل الحقد والكره للعرب والإسلام.
ثارت الدوائر الرسمية والدينية في الغرب نتيجة طرد الإرساليات والمبشرين الأجانب وقد صبت الصحف الغربية جام غضبها على حكومة السودان وكذلك فعل الفاتيكان.
ومما جاء في تعليقات الصحف الغربية تعليق مجلة أفريقيا التي تصدر في لندن، حيث كتبت عام 1964 الآتي:
«إنَّ /الكاثوليك/ عموماً، وخاصة أولئك الذين ينتمون إلى كرسي «فيرونا» قد أطلوا برؤوسهم ثانيةً سياسياً وجماهيرياً».
بعد ذلك أخذت الأحوال السياسية في الجنوب السوداني اتجاهاً جديداً؟