آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

موضوع مغلق
صفحة 1 من 4 1 2 3 4 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 64

الموضوع: جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة

  1. #1
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة

    جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.


    جنوب السودان
    و
    وآفاق المستقبل


    ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
    بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
    كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
    دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
    منه الماء.
    انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
    ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
    مثلما تفعل أنت يا لام.
    أنا هنا بفعل الحياة.
    وأنا هنا بفعل الوجود.
    أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.

    * * *


    جنوب السودان وآفاق المستقبل

    إهداء

    إلى روح صديقيَّ
    العقيد السوداني خليفة كرار بلة
    والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
    اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
    وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
    عبد العزيز الرنتيسي
    غفر الله لهم
    دمشق في 1/6/2006
    أحمد أبو سعدة


    «أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
    ر. س. أوين
    الحاكم العام الانكليزي للسودان

    المقدمـة
    - سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
    - ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
    - أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
    - قاطعته وبقوة:
    - نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
    - عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
    - ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
    - /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
    - اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
    إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
    - هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
    - أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
    - أنت تحب السرد.
    - لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
    - هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
    - حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
    إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
    أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
    نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
    وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
    إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
    من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
    إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
    علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.

    دمشق في 1/5/2006
    أحمد أبو سعدة


    مـدخــل
    من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
    أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
    من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.


    الـبـاب الأول
    تعريف السودان


    السودان

    السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
    أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
    مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
    والنيل الأبيض.
    النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
    أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
    وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
    استقل السودان في 1/1/1956.
    عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
    اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
    الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
    النظام السياسي: جمهوري.
    عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
    العملة: الدينار السوداني.
    قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
    ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
    الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
    الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.

    الفصل الأول
    السودان الحديث


    تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
    وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
    وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
    أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
    وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
    في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
    وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
    لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
    «كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
    وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
    والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
    انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
    قبائل الجنوب والثورة:
    في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
    بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
    ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
    «جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
    يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
    أ - بحر الغزال.
    ب - الاستوائية.
    ت - أعالي النيل.
    وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
    سكان الجنوب:
    ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
    أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
    ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
    ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
    اللهجات:
    إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
    الديانة:
    توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
    1 - الإسلام.
    2 - الوثنية.
    3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
    النظم السياسية:
    توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟


  2. #2
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي جنوب السودان وآفاق المستقبل ج1-لأحمد أبو سعدة

    جنوب السودان وآفاق المستقبل كتاب جديد ومهم يتحدث عن مشكلة الجنوب ولأهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه قامت الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب بتقديم التهاني للكاتب والباحث الكبير الاستاذ أحمد أبو سعدة بمناسبة الأعياد وقدوم السنة الجديدة وطلبت منه إذناً خطياً لنشر الكتاب في مركز واتا للدراسات الإفريقية وقد حصلنا على موافقة حصرية لنشره في هذا المركز ونقوم بنشره علىحلقات.


    جنوب السودان
    و
    وآفاق المستقبل


    ذات يوم من أيام الخريف الجميلة كان شاب طويل القامة يخطو بثبات نحو بركة للماء وخلفه عدد من الأولاد والنسوة.
    بجانب البركة جثى شاب آخر يغرف الماء ويعبئه بقربته الجلدية والناس ملتفون حول البركة يفعلون مثلما يفعل الشاب الجاثي.
    كل شيء هادىء في المكان إلا صوت الماء الذي يغرف ويوضع في القرب.
    دقق الشاب الطويل يتفحص البركة وجوانبها ليأخذ له مكاناً يعبىء
    منه الماء.
    انقطع الهدوء حين سأل الشاب الطويل الشاب الجاثي:
    ماذا تفعل هنا يا عثمان؟.
    مثلما تفعل أنت يا لام.
    أنا هنا بفعل الحياة.
    وأنا هنا بفعل الوجود.
    أربع جمل تبادلها عثمان ولام وكان ما كان؟؟.

    * * *


    جنوب السودان وآفاق المستقبل

    إهداء

    إلى روح صديقيَّ
    العقيد السوداني خليفة كرار بلة
    والمناضل الأرتري صالح أحمد آياي
    اللذين ناضلا في سبيل تحقيق الاستقلال التام والوحدة الوطنية في كل من السودان الشقيق وأرتريا، فكان للأول ما أراد، أما صالح فلقد توفاه الله وهو يناضل من أجل إعادة الحق إلى نصابه.
    وإلى روح شهيد فلسطين والوطن العربي والإسلامي المجاهد
    عبد العزيز الرنتيسي
    غفر الله لهم
    دمشق في 1/6/2006
    أحمد أبو سعدة


    «أينما ذهبت وأمعنت في التوغل.. في القرى والغابات وعلى قمم الجبال وجدت اللغة العربية منتشرة بين السكان.. وعليه يجب إعادة النظر وبحذر شديد فيما يجري وعلينا بذل الجهد والمال لوقف الدين الإسلامي واللغة العربية..»
    ر. س. أوين
    الحاكم العام الانكليزي للسودان

    المقدمـة
    - سألني أحد أصدقائي عن سبب كتابتي لمواضيع وكتب، لا يقرؤها ولا يهتم بها سوى عدد قليل من الناس؟
    - ابتسمت وأردت الإجابة، لكنه لم يتركني أرد على كلامه بل تابع مندفعاً:
    - أنت تكتب عن الصراع والاضطرابات العلنية والمخفية في مناطق متعددة وبعيدة جغرافياً و...
    - قاطعته وبقوة:
    - نعم إنني أكتب عن ما ذكرته، أكتب في التاريخ السياسي الحديث عن أفريقيا وهموم شعوبها؟
    - عاد صديقي العزيز ليسألني ساخراً: هل تكتب الآن عن قبائل (الماوماو)؟ وأطلق لضحكته العنان.
    - ضحكت بدوري وأجبته بجدية: أكتب الآن عن جنوب السودان و......
    - /حلو/ عن (كرنغ) وصديقه الترابي؟
    - اسمع يا صديقي: إنني أكتب عن السودان هذا البلد العربي المسلم الأصيل، صحيح وأكيد إنني لا أدعي الإنابة أو الأصالة عن الشعب السوداني الطيب، إلا أن عليك أن لا تنسى أنني عربي وأتعامل مع الناس على هذا الأساس، وهذا الأمر يماشي ويناسب معتقدي الوطني والقومي والإنساني...
    إن الوقائع التي جرت وتجري على أرض السودان تخيفني وترعبني؟
    - هذا كلام مغامر وليس كلام كاتب ومحلل سياسي؟ أيها العزيز، أنت تحب المغامرة؟
    - أي مغامرة هذه؟ يا صديقي... إنها هموم ومتاعب أمتي، حاضرها ومستقبلها... وجودها... تلاشيها...: لذلك عليّ البحث والسعي لدرء الخطر عنها، علينا أن نقلب الكثير من صفحات التاريخ لنأخذ منها العبر، بعد ذلك نقدمها إلى أبناء أمتنا، كي يستفيدوا منها.
    - أنت تحب السرد.
    - لا يهم، قل ما تشاء وسمِّ الحقيقة بما يحلو لك تسميتها /سرد/ حكاية - رواية - تاريخ - صراع،... لا يهم قل ما تشاء. لكن عليك أن لا تنس أمراً حقيقياً واحداً وهو تسابق المستعمرين الأوروبيين الذي كان وما زال مزيجاً من الحقد والأنانية والسيطرة والتهافت على كسب المغانم والحصول على المواد الخام والحماسة الدينية /الفرنجية/ ونشرها في القارة السمراء.
    - هز صديقي /العتيق/ رأسه وقال مازحاً... اكتب كان الله بعونك... اكتب وسنقرأ ما سوف تكتبه؟...
    - حسناً سأكتب لكن عليك أن تعلم بأن ماضي أفريقيا يكاد يكون غير معلوم لكثير من الناس، وإن ما كتب عنها كان من وجهة نظر المستعمرين الأوروبيين والأمريكان واليهود الذين جاؤوا إليها واغتصبوا منها الحرية وإنسانية إنسانها، جاء المستعمرون وإرسالياتهم التبشيرية وقالوا سوف نهدي هؤلاء الأفارقة المتوحشين الضالين؟ جاؤوا وعلى وجوههم الغضب وفي قلوبهم الحقد... لكن هؤلاء المستعمرين نسوا أو تناسوا أن للإفريقيين /جذوراً/ وأن هذه الجذور أعطت وتعطي الحياة الحرة الكريمة، قبل أن تكون لهؤلاء المستعمرين حياة.
    إنني في كتابي هذا لا أنقب عن ماضي القارة السمراء بشكل عام إنما أبحث عن كرامة الإنسان الإفريقي عامة والشعب السوداني العريق خاصة أننا وبلا شك أمام مسؤولية دقيقة وهامة وهي مشكلة جنوب السودان، إنني كعربي لا أقبل وأرفض وبكل قوتي ما جرى ويجري الآن في السودان بشكل عام وجنوبه بشكل خاص، إننا أمام خطر فظيع وهو لا يقل عن خطر الضياع المؤقت /لفلسطين وعربستان والإسكندرون و..... احتلال العراق....
    أيها العرب إن العواصف الشيطانية التي تهب علينا من القوى المعادية لعروبتنا هي عواصف مؤقتة، فليس عيباً أن تزلزل الأرض وينشق البنيان، لكن العيب أن نقف وننظر إلى قضايانا المصيرية ببصر زائغ وأيدٍ مغلولة؟
    نحن في مرحلة خطرة /الوجود أو عدمه/ مرحلة فرضتها علينا القوى الظالمة، هل نكون أو نتلاشى؟
    وكتابي هذا يهدف إلى شرح بعض جوانب قضية جنوب السودان وخاصة أنَّنا على بعد خطوات قليلة من ضياع هذا الجزء الهام من أرض السودان.
    إنَّ الدوائر السياسية الغربية ذات الأغراض الاستعمارية، والجمعيات التبشيرية الأوروبية والأمريكية ومعهما الإعلام العالمي المتصهين هؤلاء كلهم يحاولون تصوير مشكلة الجنوب على أنَّها مشكلة دينية وبأنَّها مشكلة شعب جائع محروم مقهور من جانب العرب السودانيين، ونظراً إلى عدم استيعاب المشكلة على أساس موضوعي أضحى المشهد مضطرباً في الأذهان.
    من هنا رأيت أنَّ من واجبي كعربي تعصف به الأحداث الأليمة والمفروضة علينا من قبل قوى التجبر والبغي، أن أقدم صورة مجملة للقارئ العربي عما يجري في السودان، وخاصة في جنوبه، ونستطيع القول أنَّ الأمر وصل إلى حد الخطر الحقيقي، وما اعتمد من /حلول/ لقضية الجنوب في مباحثات (ماشاكوس)، ليس هو بالوضع الأفضل والصحيح؟
    إن حرصي وخوفي على وحدة السودان شعباً وأرضاً هو الذي دفعني للمساهمة في إعداد هذا الكتاب، فلعلّي أساهم مع المخلصين في الوصول إلى حل مشرِّف تفادياً لوقوع كارثة قد تحل ليس في السودان فحسب بل في الوطن العربي كافة؟ وأنَّ ما يحصل في السودان الآن «شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً» سوف ينعكس ويهم جميع الدول الأفريقية أيضاً، يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا بأنَّ استمرار السودان واضطلاعه بدوره العربي يعد جسراً مهماً بين العرب الأفارقة وغيرهم من الأفارقة، وبقية شعوب العالم.
    علينا التمسك بقيمنا الروحية والمادية من أجل وجودنا الذي أراده الله لنا وأبته قوى الطغيان والأنانية.

    دمشق في 1/5/2006
    أحمد أبو سعدة


    مـدخــل
    من المؤكد أن يسأل قراء هذا الكتاب عن معلوماتي التي دونتها من أين أتيت بها؟ والجواب عن ذلك في الآتي:
    أراد الله عز وجل أن أعيش حياة ميدانية مع عدد من الشعوب الأفريقية وأن أساهم في أكثر من ثورة لهذه الشعوب، وهذا ما يسعدني ويمدني بالعزيمة للكتابة عن أفريقيا وأوضاعها، هذا أولاً وثانياً مطالعتي لكثير من الكتب والمصادر الأدبية والسياسية والتاريخية كذلك لقاءاتي مع العديد من قادة وزعماء الشعوب الأفريقية، ناضلت سياسياً، قاتلت كمناضل عربي إنساني بالسلاح في أكثر من بلد في القارة السمراء...
    من هنا استمديت معرفتي بالقضايا والمسائل الأفريقية والكتابة عنها.


    الـبـاب الأول
    تعريف السودان


    السودان

    السودان بلد شاسع، إذ تبلغ مساحته مليون ميل مربع، وعاصمته الخرطوم والمسافة بين حدوده الشمالية والجنوبية المتاخمة لجمهورية يوغندة والكونغو تصل إلى /1400/ ميل بينما يبلغ عرضه من الشرق إلى الغرب في بعض الأماكن حوالي /1000/ ميل.
    أما مساحته الإجمالية فتبلغ مليون ميلٍ مربع، كذلك تبلغ مساحة
    مياهه /129810/ كم مربع ويمر في السودان نهرا النيل وهما النيل الأزرق
    والنيل الأبيض.
    النيل الأبيض: يبلغ طوله من بحيرة فكتوريا إلى العاصمة الخرطوم 1530 ميل.
    أما النيل الأزرق: وينبع من منطقة بحر دار في أثيوبيا، ويلتقي النيلان في الخرطوم بمنطقة المقرن.
    وأهم موارده: النفط /اكتشف مؤخراً/ خام الحديد - نحاس - كروم - زنك - تنجستين - ميكا - فضة - ذهب.
    استقل السودان في 1/1/1956.
    عدد سكانه حسب تقديرات عام /2000م/ تبلغ /35079814/ نسمة.
    اللغة: العربية وهي اللغة الرسمية والوطنية ثم - النوبية - النيلية - الحامية - وعدد من اللهجات المحلية، وأدخلت الإنكليزية في عهد الاستعمار البريطاني.
    الدين: الإسلام إذ يبلغ عدد المسلمين فيه 85%.
    النظام السياسي: جمهوري.
    عدد محافظاته: /26/ محافظة / ولاية.
    العملة: الدينار السوداني.
    قوته العسكرية حسب تقديرات عام /2000/ هي /94700/ فرد.
    ينقسم السودان إلى قسمين هما: الشمال - الجنوب.
    الأول : الشمالي الذي يعتبر أكثر تجانساً من الجنوب.
    الثاني: الجنوب ويقع في قلب القارة الأفريقية وهو موضوع كتابي هذا /الجنوب وملامح المستقبل/.

    الفصل الأول
    السودان الحديث


    تم تشكيل السودان الحديث أثناء الحكم العثماني والإدارة المصرية، ففي عام /1821م/ توجه جيش (محمد علي باشا) إلى كلٍّ من مناطق البحر الأحمر وسنار.
    وفي عام /1838/ فتح منطقة شرقي السودان التي تسمى بلاد /التاكا/، ثم سواحل البحر الأحمر، وفي العقد السابع تم فتح جنوب السودان أي منطقة مديرية خط الاستواء.
    وفي عام /1874/ تم فتح غرب السودان أي منطقة /دارفور/...
    أثار الدخول العثماني المصري حفيظة الكثير من السودانيين فقاموا بثورات عدة لم يستطع الحكم العثماني المصري القضاء على حركة المقاومة نهائياً إلا في عام /1840/.
    وفي عام /1870/ عين الخديوي الإنكليزي (صموئيل بيكر) حاكماً عاماً على المديريات الجنوبية وبعد ثلاث سنوات عاد (بيكر) للقاهرة وذهب بدلاً عنه (شارلس جورج غوردون) ومنذ عام 1873 بدأت علاقات (غوردون) بالسودان، فقد عين مديراً للاستوائية وانتهى بترفيعه إلى حاكم للسودان. ويعتبر (غوردون) آخر حاكم للسودان خلال فترة الحكم /المصري العثماني/.
    في السنوات الخمس الأولى من عهد (غوردون) ( ) تدهورت الأحوال الاجتماعية والحياتية بسبب الإسراف الحكومي - كما لم تدفع رواتب الموظفين لعدة شهور وتراكمت الضرائب على الأفراد مما أدى إلى الاضطرابات والمشاكل.
    وفي عام 1864 انفجر تمرد بالغ الخطورة داخل صفوف الجيش بمدينة كسلا وفي عام 1865 تمردت القوات العسكرية وانضم إليها الفيلق الرابع الذي كان معسكراً في مدينة كسلا، وجاء أحد الضباط وأقنع هذه القوات بإلقاء السلاح واعداً إياهم بالعفو.
    لم تفِ الحكومة بالوعد وأعدمت الكثير من أفراد القوات المسلحة مما أثار غضب الجنود السودانيين - كذلك اندلعت نيران العصيان في كل من سواكن - سنار - كسلا وبعدها عمدت الحكومة إلى تخفيض القوات العسكرية... هكذا كان وضع السودان عندما اندلعت الثورة المهدية في شهر آب /أغسطس/ عام 1880 ومن الممكن القول بأن الثورة المهدية( ) كانت عامل احتجاج ضد النظام الذي هز وضع المجتمع السوداني نتيجة الضرائب الباهظة وسخط العسكريين وعدم رضا الكثير من الطوائف الدينية وزعمائها التقليديين... وفي خصوص الثورة المهدية ذكر اللورد (كرومر) الآتي:
    «كان على الحكومة المصرية أن تواجه ثورة عارمة استمدت قوتها من عنصرين الأول ديني روحي - وناجم عن سوء الإدارة الحكومية ما أدى إلى كراهية الموظفين للنظام التركي المصري».
    وهنا لابد أن نشير إلى أن الدعوة إلى المهدية قد قضت على كل ولاء قبلي وديني.
    والجماهير التي انخرطت في الثورة المهدية كانت من المضطهدين والفقراء - كما أن تعاليم المهدي هي تقبّل الناس لأحكام الله على الأرض كذلك شددت تعاليمه على الجهاد حيث نادى بضرورة التخلص من كل أعراض الدنيا الفانية.
    انقضت المرحلة الأولى من مراحل الثورة المهدية، أي مرحلة الثورة والانتصار عندما مات (المهدي) وبعد وفاته بدأت المرحلة الثانية وهي تأسيس الدولة السودانية، حاول الخليفة (عبدالله) مواصلة الحرب وقد قبض بقوة على الجهاز الإداري والعسكري إلا أن محاولاته باءت بالفشل.
    قبائل الجنوب والثورة:
    في عام 1890 ثارت قبائل الجنوب على الخليفة (عبدالله) وفي نفس الوقت أخذت الدولة توسع نشاطها في أقصى الجنوب، ففي عام 1888 أنشئت الشركة التي عرفت باسم /شركة أفريقيا الشرقية البريطانية/ وكان عملها الظاهر هو تبيان الحدود داخل مناطق النفوذ البريطانية أما الباطن لهذه الشركة فهو بسط النفوذ الإنكليزي سياسياً وتنصير أهالي الجنوب، وفي عام 1890 أصبحت يوغندة مستعمرة بريطانية وفي عام 1891 وقع كل من بريطانيا وإيطاليا بروتوكولاً عينت بموجبه مصالح الدولتين والحدود الفاصلة بين السودان وأرتريا المستعمرة الجديدة لإيطاليا، وخلال السنتين اللتين أعقبتا هذه الاتفاقية حدثت تطورات كثيرة، منها ازدياد أطماع الفرنسيين والدول الأوروبية، ودفع الحكومة البريطانية إلى التخلي عن سياسة التدخل في السودان، وبعد سقوط الخرطوم والضعف الذي لحق بالدولة المهدية - ذلك كله كان إيذائاً للقوات التركية والمصرية بالزحف إلى السودان.
    بدأ احتلال السودان من جديد عام 1896 وفي عام 1897 قتل الخليفة (عبدالله) وكانت جيوش الخليفة قد هزمت، وقد أطلقت القوات الغازية سراح السجناء الذين بلغ عددهم 10.654 سجيناً في أم درمان - ومن الأعمال المؤلمة لدى السودانيين قيام الجيوش الغازية بتحطيم /قبة المهدي/ كذلك أخذ ما بقي من جثته وإحراقها في أحد مواقد السفن ثم نثر رمادها في نهر النيل، رفع بعدها العلمان الإنكليزي والمصري فوق مدينة الخرطوم.
    ومن هنا نعتبر قيام السودان الإنكليزي المصري.
    «جنوب السودان» جغرافياً وسكانيّاً:
    يعرَّف جنوب السودان بأنَّه الجزء الذي يمتد جنوباً حتى بحيرة /البرت/ بيوغندة، ويشتمل الجنوب على ثلاث مديريات هي:
    أ - بحر الغزال.
    ب - الاستوائية.
    ت - أعالي النيل.
    وتبلغ مساحة هذه المديريات /250/ ألف ميل مربع أي ربع مساحة البلاد، ومما لا شك فيه أن نهري النيل هما اللذان وهبا الحياة للسودان ولشعبه ولشعوب أخرى – أمّا في الجنوب فقد أوجد النهر مساحات واسعة تغطيها المستنقعات وهذه المنطقة تعرف بـ/السدود/، كما أن مجرى النهر يتبدل على الدوام، هنا وفي هذه المناطق تقع الغابات الاستوائية، وتعلو الجبال التي تموج بالأزهار وبأشجار الفاكهة، وفيها تعيش الحيوانات المفترسة الكبيرة، هنا تدب قطعان الفيلة الكبيرة والصغيرة وفيها تمشي أفراس الماء كما أن وحيد القرن يهجم على كل ما يقف أمامه بقوة جارفة، في هذه المنطقة تزأر الأسود، من هنا تنطلق الظباء هاربة من ملاحقيها، هنا تتواجد الأفاعي الكبيرة الضخمة والتي تعرف بـ /الأصلة/، هذا هو الجنوب بمديرياته الثلاث...
    سكان الجنوب:
    ينقسم سكان الجنوب إلى ثلاث قبائل أساسية هي:
    أ - النيليون الذين يتكونون من الدينكا والنوير والشلك والأنواك( ).
    ب - النيليون الحاميّون: الذين يتكونون من القبائل التالية: المورلي (الديدنجا) و(البويا) و(التبوسا) و(الأتوكا) وتعيش أكثرية هذه القبائل في مديرية الاستوائية كما يعيش جزء منهم في يوغندة وكينيا.
    ت - السودانيون: يتكونون من عدة قبائل صغيرة، وتعيش في الجزأين الغربي والجنوبي، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (الزاندي)، أما القبائل الأخرى فهي (البااي) و(النيانجورا) و(الماندراي) و(الفوجلو) و(المورو) و(اللالوبا) وهذه غير قادرة على بسط نفوذها على بقية القبائل كما أنَّها لم تستقر منذ زمن قديم في جنوب السودان، أما (الشلك) فقد هاجرت من المناطق الواقعة شرق بحيرة فكتوريا بيوغندة، أما قبيلة (الدينكا) فقد هاجرت من مناطق البحيرات العظمى في شرق أفريقيا، وقبيلة (الزاندي) فقد هاجرت من أواسط أفريقيا، بينما القبائل السودانية فقد هاجرت من قرب بحيرة تشاد، وكل هذه القبائل لا تستطيع الادعاء بأنَّها من السكان الأصليين، ويعيش أكثرهم في أراضي بحر الغزال وأعالي النيل.
    اللهجات:
    إنَّ اللهجات الرئيسية هي لهجات النيلين والتي تشتمل على لهجات قبائل (الدينكا) و(النوير) و (الشلك) و (الأشولي) و (البرن)، أما لهجات قبائل (الباري) فهي تشمل كلاً من القبائل التالية: (الياري) و (الأتوكا)، وكذلك تشتمل لهجات قبيلة (الديدنجا) على (الديدنجا) أنفسهم وكذلك قبيلة (التوبوسا) وكذلك لهجات (الماوي) تشمل كلاً من قبيلة (الماوي والمورو)، وكذلك لهجة الزاندي على قبيلة (لموندي والكريش) والذي نفهمه من ذلك أنَّ في جنوب السودان عدة لهجات يتم التخاطب بها، ويقدّر ورد عدد اللهجات المستخدمة بـ اثنتي عشرة لهجة، وبالرغم من أنَّ هذه اللهجات يتم التخاطب بها إلاَّ أنَّها لم تستطع أن تكون لغةً أساسية حضارية، وبقيت اللغة الأساسية للمخاطبة والتفاهم هي اللغة العربية المحلية بين كافة القبائل بالرغم من كل المحاولات الأجنبية لإخفائها.
    الديانة:
    توجد في جنوب السودان الديانات التالية:
    1 - الإسلام.
    2 - الوثنية.
    3 - المسيحية من كاثوليك، وبروتستانت.
    النظم السياسية:
    توجد في جنوب السودان تنظيمات سياسية عديدة تتباين من قبيلة إلى أخرى، فقبيلة الشلك مثلاً تمتاز بنظام ملكي يقوم على تقديس الملك، أما لدى قبيلتي (الدينكا) و (الباري) فالسيادة يتمتع بها «صانع المطر» وهي سيادة مطلقة، بينما السلطة لدى قبيلة (النوير) فهي بأيدي أشخاص من ذوي النفوذ الديني الموروث، وبعيداً عن متناول أيدي رجال السياسية، وانطلاقاً مما ذُكِر آنفاً يمكننا القول بأنَّ لجنوب السودان خصائص متعددة سياسياً وثقافياً وقومياً، وهذا ما يفقده صفة الانسجام والوحدة؟


  3. #3
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    المسيحية وتجارة الرقيق
    /1889 - 1920/

    غزا الجيش المصري الإنجليزي السودان بأكمله في عام 1889، ولقد ترتب على هذا الغزو نزاع بين الدول الغربية وخاصة ما بين إنكلترا وفرنسا، حيث زحفت بعض وحدات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (مارشان) واحتلت بعض الأماكن ممَّا أثار حفيظة الإنكليز ممَّا دعاهم إلى مخاطبة الفرنسيين بنوع من القسوة، وكادت أن تشتعل الحرب بين الجانبين فما كان من الفرنسيين إلاَّ الانسحاب من المناطق التي احتلوها ومنها منطقة «فاشودة»، وأمكن بالتالي تفادي الحرب بين الجانبين وكان ذلك في عام 1898، وبعد عام تقريباً وقعت اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا للسودان، وكانت غاية البريطانيين من هذا الاتفاق السيطرة على نهر النيل باعتباره الطريق الوحيد الذي يربط بين طرفي أفريقيا، كما أنَّ لمياه النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة أهمية كبيرة على مصر سابقاً وحاضراً ومستقبلاً.
    ومن هنا جاء تفكير الإنكليز ببسط سيطرتهم على جنوب السودان نظراً لأهميته الاستراتيجية، إضافةً إلى مخططات التجار الكبار التي تهدف إلى السيطرة واستغلال الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا الشرقية.
    بدأت المشاكل تتفاقم ما بين الحكم الإنكليزي المصري وبعض قبائل جنوب السودان، فأقامت حاميات عسكرية أشرف عليها ضباط بريطانيون وذلك في عام /1900/، ولقد كسب العسكريون البريطانيون ودّ سكان الجنوب عن طريق استمالتهم بالهدايا حيناً، وبإثارة المشاكل والفتن بينهم أحياناً أخرى، ولكن رضوخ القبائل لم يكن بالأمر السهل، ولقد كانت قبيلة (النوير) وهي من أشد القبائل وأكثرها مقاومة لهذا الرضوخ، ولقد اشتبكت كثيراً مع القوات البريطانية وحاولت بريطانيا مرات عديدة إخضاع (النوير) لها، فأرسلت الحملة تلو الحملة وعلى مدى أعوام متلاحقة ابتدأت من عام /1910 حتى 1928/ ولكنَّها لم تستطع إخضاعهم إلاَّ في عام /1930/.
    محاربة الرقّ:
    كانت تجارة الرقيق قد انتهت قبل دخول المصريين والبريطانيين لجنوب السودان، ولم تَبْقَ منها سوى حالات خاصة فردية، تتوزع بين خدمة الأراضي الزراعية وخدمة البيوت، إلاَّ أنَّ الإدارة البريطانية المصرية واجهت صعوبات عدة من أهمها الخيار بين أحد أمرين وهما:
    أ - الاعتراف المؤقت بالرق الموجود.
    ب - التحرير الفوري للرق، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خلخلة الاقتصاد وإحداث فوضى عارمة، باعتباره سيؤدي إلى هجر الأراضي الزراعية على امتداد النيل الأبيض، وإلى فقدان الماشية وبأعداد كبيرة، وفي النهاية موت الكثير من الناس البؤساء... فالتحرير الفوري كان يعني إطلاق سراح ألوف الرجال والنساء دون أن يتحمل أحد مسؤوليتهم، إضافة إلى احتمال أن يتحولوا إلى مصدر للشغب والفوضى، ولذلك عملت الإدارة الحاكمة على حل هذه المشكلة اعتماداً على المبادئ التالية:
    أ - العمل على تخديم الأفراد، وتطوير نظام العمل بالأجر.
    ب - اتخاذ إجراءات معادية لتجارة الرقيق.
    ت - السماح للرقيق بترك عمله وسيده إذا أراد هو ذلك.
    ث - منع السيد أو المالك من استرداد الرقيق الذي فضَّل الحرية.
    وبالرغم من أنَّ هذه الإدارة لم تعترف بنظام الرق، ولم تتهاون في محاربته، إلاَّ أنَّها بشكل مباشر وغير مباشر كانت تفضل، بل وترغم الكثير من الرقيق على البقاء تحت رعاية أسيادهم!؟ ورغم ذلك فقد بقي الرق موجوداً، فالحروب القبلية واختطاف الأفراد لم يتوقفا إلاَّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من أنَّ الحكم المصري البريطاني قد وضع حداً لتجارة الرق التي عمل فيها الكثير من أبناء السودان «شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً» إلاَّ أن أبناء الجنوب المدفوعين من قبل رجال الإرساليات التبشيرية «من أجل إقامة دولة جنوبية مستقلة تكون المسيحية فيها هي الآمر الناهي ويكون ولاؤها للغرب، وتعمل على إغلاق باب دخول الإسلام إلى أفريقيا وبالتالي تعمل على تنصير، وتشتيت الدول الأفريقية المسلمة» هؤلاء ظلوا يثيرون هذه الذكريات المؤلمة حول تجارة الرقيق.
    ويقول بهذا الصدد الكاتب مكي عباس في كتابه «المسألة السودانية» والذي حصل على معلومات من أصدقائه سكان الجنوب الذين درسوا في المدارس التبشيرية حيث رأى بأم عينه شجرة ضخمة كان يعتني بها الجنوبيون عناية كبيرة، ولقد كانت في نظرهم الشجرة التي كان يستظل بها تجار الرقيق، ويقصد بهم «المسلمين»؟
    ومن الدلائل الثابتة أنَّ رئيس المبشرين في إحدى الإرساليات في «نيروبي» عاصمة كينيا، أرسل خطاباً لزعيم قرية جنوبية /متفرنج/ يقول فيه الآتي: «إنَّ أكثر السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتمون للعرب، وكلَّما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات إلى قصة تجار الرقيق العرب، تلك القصة الدامية في جنوب السودان؛ ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فهو يضم تجار الرقيق بين جوانحه! ».
    وفي عام 1947، صدرَ في لندن كتاب يحمل عنوان: «السودان سجل للتقدم»، ومما جاءَ فيه: «ومنذ عام 1947 تقريباً، عادت الحكومة لكي تردد من جديد في إحدى المنشورات الرسمية للجنوبيين بأنَّ القبائل العربية في الشمال لم تهجر بعد فكرة تجارة الرقيق، وحذرت من أنَّ البدو ما زالوا يقومون بخطف الأفراد واسترقاقهم» كما قال السير (الإسكندر كاودجان) ممثل بريطانيا في مجلس الأمن، في حديث مع أعضاء المجلس: «لقد كان الجنوبيون السودانيون عرضة دائماً للغارات من جانب تجار الرقيق الشماليين إلى عهد قريب، ولم ينقضِ ذلك إلاَّ بعد احتلالنا للسودان».
    ما الذي ترتب على هذا التحريض؟!
    زيادة طلب الجمعيات التبشيرية من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لمساعدتهم في التبشير في كل أنحاء السودان؟
    ولقد استجابت الحكومتان الأمريكية والبريطانية لطلب مجلس الكنائس العالمي، وأصدرت الحكومة البريطانية تعليماتها إلى اللورد (كرومر) حاكم مصر، واللورد (كتشنر) حاكم السودان، لمساعدة الإرساليات التبشيرية ودعمها في عملية التنصير؟!
    ومما زاد في اندفاع زعماء الكنائس العالمية لدعم الإرساليات التبشيرية اعتبارهم أنَّ (غوردن) الذي قتل على يد الثوار السودانيين شهيداً وبطلاً من أبطال الفرنجة ولقد صور (غوردن) الإسلام بوصفه قوة كبيرة تشجع الرق والعبودية وتعادي المسيحية، ولقد أسس زعماء المبشرين إرسالية تبشيرية سميت باسم (غوردن)، كما أنشأت كل من جمعية الكنيسة الإرسالية وجمعية الروم الكاثوليك في مصر جمعية «السودان في المنفى»!
    ولقد تساءل نائب اللورد (كرومر) في مصر الدكتور (هارير) في رسالة بعثها إلى اللورد (كتشنر) عما إذا كان بوسع جمعية إرسال بعثة تبشيرية كبيرة إلى السودان، فردَّ عليه (كتشنر): أنَّه من الممكن ذلك ولكن بعد وقت؟! ولقد كان ذلك في 29/9/1898.
    وفي 13/12/1899 اجتمع مجلس الكنائس العالمي وقرر ما يلي:
    «إنَّ المشاعر الدينية في بريطانيا تطالب بحق بأن أي مجهودات مبذولة لتخليد ذكرى (غوردن) يتعين أن تنطوي على نشر تعاليم المسيح بين جميع الأجناس والقبائل التي تقطن في حوض أعالي النيل، وإنَّ علينا والحال هذه تقوية مؤسساتنا في مصر، وبحيث تمتد رسالتنا إلى الخرطوم والمناطق المجاورة لها عندما تسمح العناية الإلهية بذلك».
    كذلك وصل إلى الخرطوم كل من الأب (لولين) والدكتور (هارير) كممثلين لجمعية الكنائس التبشيرية، وقد رافقهم الأب (هالدر) وعددٌ كبير ممن يمثلون (آباء فيرونا)، كذلك الأب (جرفت) والدكتور (واطسن) كممثلين لبعثة التبشير المتحدة في القاهرة.
    لم يقتصر هذا على البريطانيين فحسب، بل تأسست أيضاً بعثة ألمانية تبشيرية للعمل في السودان، ولنشر تعاليم المسيحية في غرب أفريقيا وكان ذلك في عام /1900/، وما لبثت أن أنشأت مركزاً للتبشير في كل من «دنقلا» و«أسوان»، ومركزاً آخر في قبائل (البشارين) التي تقطن في شرق السودان، ولقد سميت هذه البعثة فيما بعد بـ «البعثة السودانية المتحدة»، ولقد ذهب أحد أعضائها العاملين في السودان ويدعى (كارل كوم) إلى الخرطوم من أجل التبشير، وكان ذلك في عام /1910/ ولقد ساند هؤلاء المبشرون الحكومة النمساوية، وبعض المطارنة من ذوي النفوذ وذلك لتدعيم التوجه الكاثوليكي ونشره.
    ولقد عملت سياسة الحكومة البريطانية في الأقطار التي تدين بالإسلام على إقناع المسلمين «بأنَّ هذه الإرساليات التبشيرية هي أداة الدول العلمانية» وهذا ما صرَّّح به اللورد (سالزبوري) في إحدى خطبه من عام 1900.
    ومن ناحية أخرى فقد كان يسمح للإرساليات التبشيرية بممارسة أعمالها وواجباتها، رغم أنَّ الأمن في الجنوب كان غير مستتب، ورغم ذلك فلقد مارس المسؤولون البريطانيون سياسة تقوم على اعتبار المسيحية بمثابة الدين الرسمي لسكان السودان ومنذ قرون عديدة، ولذلك فإنَّ إعادة فتح السودان أتاح الفرصة لإعادة الوضع الديني إلى ما كان عليه سابقاً، وهذا إنما يعني بأنَّ الكنائس سوف تنتشر من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح؟!
    ولقد ذهب بعض القادة الإنجليز في بريطانيا وحكام السودان الجدد إلى حدِّ القول والممارسة بأنَّ الإسلام وتعاليمه لا تصلح ولا تتماشى مع رفاهية وتطور الناس في السودان؟
    ومن هنا زاد دعمهم للإرساليات، حيث قالوا: «علينا أن ندعم دور الإرساليات التبشيرية في السودان، وخاصة في الجنوب، لتأييد ودعم دورها الحضاري التربوي» وفي عام 1900 عاد الحاكم البريطاني اللورد (كتشنر) إلى لندن من السودان واجتمع مع ممثلي الإرساليات التبشيرية، وتناقش معهم حول دعمهم في أداء عملهم التربوي الحضاري حسب زعمه؟!
    وفي شهر تموز من عام 1901 قدم رئيس أساقفة «كنتربري» والسير (جون كاناواي) مذكرة إلى الحكومة البريطانية تضمنت نقداً لعدم توفر الدعم الكافي للإرساليات، والإخلال بالمبادئ التي تتبعها الدول المسيحية( )، وبعد العمل الدائم والدؤوب للقادة البريطانيين الحاكمين، فُتِحت أبواب الجنوب على مصراعيها أمام الإرساليات التبشيرية، واتخذ قرار مشتركٌ «حكومياً - تبشيرياً» على محاربة الإسلام، واستبعاد نفوذه من كافة أرجاء الجنوب وفي السرعة القصوى( )، ومن ثم قامت الحكومة البريطانية بدعم، وإنشاء مناطق نفوذ لكل إرسالية على حدة من أجل مباشرة أعمالها ونشاطها في زرع بذور الخلاف الديني في أنحاء الجنوب، وكان من الطبيعي أن يؤيد هذا العمل البريطانيون العاملون في السودان، والذين هم في الأساس مرتبطون بالكنيسة الإنكليزية، ويعملون وفق توجيهاتها وإشرافها، ومثال على ذلك قال أحد المسؤولين عن الإرساليات: «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني»؟ !
    وقال أيضاً: «لا يعتبر زنوج السودان مسلمين على وجه العموم، كما أنهم ليس لديهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، بل إن قلة ضئيلة هي التي اعتنقت الإسلام عن فهم واقتناع».
    وكتب (س. واطسن) مقالاً في مجلة الإرساليات العالمية قال فيه:
    «مما لا ريب فيه أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق والرأي العام البريطاني، بل إنَّ دواوين الحكومة في السودان تتعطل عن العمل أيام الجمع، وتعمل في السبت؟ بل لقد ذهبت هذه السياسة إلى أبعد من ذلك، وإلى الحد الذي صبغت فيه الحكومة نظام التعليم بطابعها، وغزت معاقل كلية (غوردن) التذكارية في الخرطوم».
    هذا ما كتبه (واطسن) حينها، وبعدها قال أحد رجال الإرساليات ما يلي:
    «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني، ومن شأن هذا الاعتراف المدعم بمعرفة تامة لأحوال الجماعات، أن يمهد السبيل تدريجياً وضمنياً للتوغل الإسلامي الدموي الذي يستهدف السيطرة كلياً على القارة الأفريقية والقضاء النهائي على كل النفوذ المسيحي».
    بمثل هذا الكلام والمقرون بالعمل من قبل الإرساليات التبشيرية وحكومات الغرب التي تمولها وتدعمها، أصبح جنوب السودان أرضاً خصبة لعداء العرب والإسلام وشمال السودان، وما انصراف الإرساليات التبشيرية البروتستانتية وغيرها إلى نشر التعليم الديني على أيدي قسيسين خبراء اشتغلوا مقابل أجر كبير لنشر المسيحية إلاَّ خطة فرنجية لتنصير الجنوب، وما طلب المسؤول (ونجت) من مدير بحر الغزال بعدم تدريس اللغة العربية في مديرية بحر الغزال إلاَّ لكونها تشتمل على عبارات عن الرسول والنبي «محمد» (ص) ولذلك طلب منه جعل الإنجليزية لغة التعليم، ورغم كل المحاولات التي قامت بها بريطانيا، فلم تتمكن من إخفاء أو طمس اللغة العربية، وظلت لغة التخاطب والتفاهم بين كافة أفراد الجنوب كما أن مدارس الشرطة والجيش التي التحق ودرس فيها أبناء الجنوب ساعدت في نشر اللغة العربية، إلاَّ أنَّه ومع العودة إلى الوراء قليلاً أي في عام /1910/ قررت الإرسالية الكاثوليكية الرومانية وجمعية الكنائس الإرسالية وعلى لسان كل من القس (جير) والأب (أ. شو) وكذلك القس (جوين) الآتي:
    «بأنَّه ما لم تمنح الأفضلية في تعيين الوظائف لمن درسوا باللغة الإنكليزية فلن يكون هناك حافز لمدارس الإرساليات لتعليم الإنكليزية»؟.
    كذلك ذكر القس (جوين لونجت)، بأنَّه «إذا استطاعت الحكومة قدر استطاعتها تشجيع استخدام الإنكليزية حتى تصبح أداة للتفاهم خلال الأعمال والتصرفات التي يقوم بها بعض الأهالي، فإنَّ ذلك سيجبر الباقي على تعلم لغتنا، وسيتيح للإرساليات المسيحية فرصة ضئيلة للعمل بالمقارنة مع المزايا الممنوحة للإسلام في جنوب السودان».
    وبعد ذلك اتضح أنَّ تلك هي السياسة الرسمية البريطانية، وبأسلوب الترغيب والترهيب هذا غدت اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية التي أدت إلى التمييز بين سكان الشمال وسكان الجنوب نتيجة احتكار الإرساليات المسيحية الأوروبية شؤون التعليم، وكنتيجة لتشغيل وتوظيف الجنوبيين.
    أما الإرساليات الأمريكية لجنوب السودان فقد بدأت أعمالها في مديرية أعالي النيل، وفي جبل /دوليب/ عام 1902 وقد أخذت وقتاً طويلاً في تلقين الدين المسيحي، وكانت مدة برنامج التعليم للأولاد ست سنوات، وبالطبع كانت اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم للمواد الدراسية كلها باستثناء الدين الذي كان يدرس باللهجات المحلية وفي هذه المدارس تخرج أشباه القسس الذين أدخلوا الغشاوة إلى عيون الجنوبيين فيما بعد؟!!


    يتبع


  4. #4
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    المسيحية وتجارة الرقيق
    /1889 - 1920/

    غزا الجيش المصري الإنجليزي السودان بأكمله في عام 1889، ولقد ترتب على هذا الغزو نزاع بين الدول الغربية وخاصة ما بين إنكلترا وفرنسا، حيث زحفت بعض وحدات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (مارشان) واحتلت بعض الأماكن ممَّا أثار حفيظة الإنكليز ممَّا دعاهم إلى مخاطبة الفرنسيين بنوع من القسوة، وكادت أن تشتعل الحرب بين الجانبين فما كان من الفرنسيين إلاَّ الانسحاب من المناطق التي احتلوها ومنها منطقة «فاشودة»، وأمكن بالتالي تفادي الحرب بين الجانبين وكان ذلك في عام 1898، وبعد عام تقريباً وقعت اتفاقية الحكم الثنائي بين مصر وبريطانيا للسودان، وكانت غاية البريطانيين من هذا الاتفاق السيطرة على نهر النيل باعتباره الطريق الوحيد الذي يربط بين طرفي أفريقيا، كما أنَّ لمياه النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة أهمية كبيرة على مصر سابقاً وحاضراً ومستقبلاً.
    ومن هنا جاء تفكير الإنكليز ببسط سيطرتهم على جنوب السودان نظراً لأهميته الاستراتيجية، إضافةً إلى مخططات التجار الكبار التي تهدف إلى السيطرة واستغلال الأراضي الصالحة للزراعة في أفريقيا الشرقية.
    بدأت المشاكل تتفاقم ما بين الحكم الإنكليزي المصري وبعض قبائل جنوب السودان، فأقامت حاميات عسكرية أشرف عليها ضباط بريطانيون وذلك في عام /1900/، ولقد كسب العسكريون البريطانيون ودّ سكان الجنوب عن طريق استمالتهم بالهدايا حيناً، وبإثارة المشاكل والفتن بينهم أحياناً أخرى، ولكن رضوخ القبائل لم يكن بالأمر السهل، ولقد كانت قبيلة (النوير) وهي من أشد القبائل وأكثرها مقاومة لهذا الرضوخ، ولقد اشتبكت كثيراً مع القوات البريطانية وحاولت بريطانيا مرات عديدة إخضاع (النوير) لها، فأرسلت الحملة تلو الحملة وعلى مدى أعوام متلاحقة ابتدأت من عام /1910 حتى 1928/ ولكنَّها لم تستطع إخضاعهم إلاَّ في عام /1930/.
    محاربة الرقّ:
    كانت تجارة الرقيق قد انتهت قبل دخول المصريين والبريطانيين لجنوب السودان، ولم تَبْقَ منها سوى حالات خاصة فردية، تتوزع بين خدمة الأراضي الزراعية وخدمة البيوت، إلاَّ أنَّ الإدارة البريطانية المصرية واجهت صعوبات عدة من أهمها الخيار بين أحد أمرين وهما:
    أ - الاعتراف المؤقت بالرق الموجود.
    ب - التحرير الفوري للرق، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خلخلة الاقتصاد وإحداث فوضى عارمة، باعتباره سيؤدي إلى هجر الأراضي الزراعية على امتداد النيل الأبيض، وإلى فقدان الماشية وبأعداد كبيرة، وفي النهاية موت الكثير من الناس البؤساء... فالتحرير الفوري كان يعني إطلاق سراح ألوف الرجال والنساء دون أن يتحمل أحد مسؤوليتهم، إضافة إلى احتمال أن يتحولوا إلى مصدر للشغب والفوضى، ولذلك عملت الإدارة الحاكمة على حل هذه المشكلة اعتماداً على المبادئ التالية:
    أ - العمل على تخديم الأفراد، وتطوير نظام العمل بالأجر.
    ب - اتخاذ إجراءات معادية لتجارة الرقيق.
    ت - السماح للرقيق بترك عمله وسيده إذا أراد هو ذلك.
    ث - منع السيد أو المالك من استرداد الرقيق الذي فضَّل الحرية.
    وبالرغم من أنَّ هذه الإدارة لم تعترف بنظام الرق، ولم تتهاون في محاربته، إلاَّ أنَّها بشكل مباشر وغير مباشر كانت تفضل، بل وترغم الكثير من الرقيق على البقاء تحت رعاية أسيادهم!؟ ورغم ذلك فقد بقي الرق موجوداً، فالحروب القبلية واختطاف الأفراد لم يتوقفا إلاَّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من أنَّ الحكم المصري البريطاني قد وضع حداً لتجارة الرق التي عمل فيها الكثير من أبناء السودان «شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً» إلاَّ أن أبناء الجنوب المدفوعين من قبل رجال الإرساليات التبشيرية «من أجل إقامة دولة جنوبية مستقلة تكون المسيحية فيها هي الآمر الناهي ويكون ولاؤها للغرب، وتعمل على إغلاق باب دخول الإسلام إلى أفريقيا وبالتالي تعمل على تنصير، وتشتيت الدول الأفريقية المسلمة» هؤلاء ظلوا يثيرون هذه الذكريات المؤلمة حول تجارة الرقيق.
    ويقول بهذا الصدد الكاتب مكي عباس في كتابه «المسألة السودانية» والذي حصل على معلومات من أصدقائه سكان الجنوب الذين درسوا في المدارس التبشيرية حيث رأى بأم عينه شجرة ضخمة كان يعتني بها الجنوبيون عناية كبيرة، ولقد كانت في نظرهم الشجرة التي كان يستظل بها تجار الرقيق، ويقصد بهم «المسلمين»؟
    ومن الدلائل الثابتة أنَّ رئيس المبشرين في إحدى الإرساليات في «نيروبي» عاصمة كينيا، أرسل خطاباً لزعيم قرية جنوبية /متفرنج/ يقول فيه الآتي: «إنَّ أكثر السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتمون للعرب، وكلَّما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات إلى قصة تجار الرقيق العرب، تلك القصة الدامية في جنوب السودان؛ ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فهو يضم تجار الرقيق بين جوانحه! ».
    وفي عام 1947، صدرَ في لندن كتاب يحمل عنوان: «السودان سجل للتقدم»، ومما جاءَ فيه: «ومنذ عام 1947 تقريباً، عادت الحكومة لكي تردد من جديد في إحدى المنشورات الرسمية للجنوبيين بأنَّ القبائل العربية في الشمال لم تهجر بعد فكرة تجارة الرقيق، وحذرت من أنَّ البدو ما زالوا يقومون بخطف الأفراد واسترقاقهم» كما قال السير (الإسكندر كاودجان) ممثل بريطانيا في مجلس الأمن، في حديث مع أعضاء المجلس: «لقد كان الجنوبيون السودانيون عرضة دائماً للغارات من جانب تجار الرقيق الشماليين إلى عهد قريب، ولم ينقضِ ذلك إلاَّ بعد احتلالنا للسودان».
    ما الذي ترتب على هذا التحريض؟!
    زيادة طلب الجمعيات التبشيرية من كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لمساعدتهم في التبشير في كل أنحاء السودان؟
    ولقد استجابت الحكومتان الأمريكية والبريطانية لطلب مجلس الكنائس العالمي، وأصدرت الحكومة البريطانية تعليماتها إلى اللورد (كرومر) حاكم مصر، واللورد (كتشنر) حاكم السودان، لمساعدة الإرساليات التبشيرية ودعمها في عملية التنصير؟!
    ومما زاد في اندفاع زعماء الكنائس العالمية لدعم الإرساليات التبشيرية اعتبارهم أنَّ (غوردن) الذي قتل على يد الثوار السودانيين شهيداً وبطلاً من أبطال الفرنجة ولقد صور (غوردن) الإسلام بوصفه قوة كبيرة تشجع الرق والعبودية وتعادي المسيحية، ولقد أسس زعماء المبشرين إرسالية تبشيرية سميت باسم (غوردن)، كما أنشأت كل من جمعية الكنيسة الإرسالية وجمعية الروم الكاثوليك في مصر جمعية «السودان في المنفى»!
    ولقد تساءل نائب اللورد (كرومر) في مصر الدكتور (هارير) في رسالة بعثها إلى اللورد (كتشنر) عما إذا كان بوسع جمعية إرسال بعثة تبشيرية كبيرة إلى السودان، فردَّ عليه (كتشنر): أنَّه من الممكن ذلك ولكن بعد وقت؟! ولقد كان ذلك في 29/9/1898.
    وفي 13/12/1899 اجتمع مجلس الكنائس العالمي وقرر ما يلي:
    «إنَّ المشاعر الدينية في بريطانيا تطالب بحق بأن أي مجهودات مبذولة لتخليد ذكرى (غوردن) يتعين أن تنطوي على نشر تعاليم المسيح بين جميع الأجناس والقبائل التي تقطن في حوض أعالي النيل، وإنَّ علينا والحال هذه تقوية مؤسساتنا في مصر، وبحيث تمتد رسالتنا إلى الخرطوم والمناطق المجاورة لها عندما تسمح العناية الإلهية بذلك».
    كذلك وصل إلى الخرطوم كل من الأب (لولين) والدكتور (هارير) كممثلين لجمعية الكنائس التبشيرية، وقد رافقهم الأب (هالدر) وعددٌ كبير ممن يمثلون (آباء فيرونا)، كذلك الأب (جرفت) والدكتور (واطسن) كممثلين لبعثة التبشير المتحدة في القاهرة.
    لم يقتصر هذا على البريطانيين فحسب، بل تأسست أيضاً بعثة ألمانية تبشيرية للعمل في السودان، ولنشر تعاليم المسيحية في غرب أفريقيا وكان ذلك في عام /1900/، وما لبثت أن أنشأت مركزاً للتبشير في كل من «دنقلا» و«أسوان»، ومركزاً آخر في قبائل (البشارين) التي تقطن في شرق السودان، ولقد سميت هذه البعثة فيما بعد بـ «البعثة السودانية المتحدة»، ولقد ذهب أحد أعضائها العاملين في السودان ويدعى (كارل كوم) إلى الخرطوم من أجل التبشير، وكان ذلك في عام /1910/ ولقد ساند هؤلاء المبشرون الحكومة النمساوية، وبعض المطارنة من ذوي النفوذ وذلك لتدعيم التوجه الكاثوليكي ونشره.
    ولقد عملت سياسة الحكومة البريطانية في الأقطار التي تدين بالإسلام على إقناع المسلمين «بأنَّ هذه الإرساليات التبشيرية هي أداة الدول العلمانية» وهذا ما صرَّّح به اللورد (سالزبوري) في إحدى خطبه من عام 1900.
    ومن ناحية أخرى فقد كان يسمح للإرساليات التبشيرية بممارسة أعمالها وواجباتها، رغم أنَّ الأمن في الجنوب كان غير مستتب، ورغم ذلك فلقد مارس المسؤولون البريطانيون سياسة تقوم على اعتبار المسيحية بمثابة الدين الرسمي لسكان السودان ومنذ قرون عديدة، ولذلك فإنَّ إعادة فتح السودان أتاح الفرصة لإعادة الوضع الديني إلى ما كان عليه سابقاً، وهذا إنما يعني بأنَّ الكنائس سوف تنتشر من القاهرة إلى رأس الرجاء الصالح؟!
    ولقد ذهب بعض القادة الإنجليز في بريطانيا وحكام السودان الجدد إلى حدِّ القول والممارسة بأنَّ الإسلام وتعاليمه لا تصلح ولا تتماشى مع رفاهية وتطور الناس في السودان؟
    ومن هنا زاد دعمهم للإرساليات، حيث قالوا: «علينا أن ندعم دور الإرساليات التبشيرية في السودان، وخاصة في الجنوب، لتأييد ودعم دورها الحضاري التربوي» وفي عام 1900 عاد الحاكم البريطاني اللورد (كتشنر) إلى لندن من السودان واجتمع مع ممثلي الإرساليات التبشيرية، وتناقش معهم حول دعمهم في أداء عملهم التربوي الحضاري حسب زعمه؟!
    وفي شهر تموز من عام 1901 قدم رئيس أساقفة «كنتربري» والسير (جون كاناواي) مذكرة إلى الحكومة البريطانية تضمنت نقداً لعدم توفر الدعم الكافي للإرساليات، والإخلال بالمبادئ التي تتبعها الدول المسيحية( )، وبعد العمل الدائم والدؤوب للقادة البريطانيين الحاكمين، فُتِحت أبواب الجنوب على مصراعيها أمام الإرساليات التبشيرية، واتخذ قرار مشتركٌ «حكومياً - تبشيرياً» على محاربة الإسلام، واستبعاد نفوذه من كافة أرجاء الجنوب وفي السرعة القصوى( )، ومن ثم قامت الحكومة البريطانية بدعم، وإنشاء مناطق نفوذ لكل إرسالية على حدة من أجل مباشرة أعمالها ونشاطها في زرع بذور الخلاف الديني في أنحاء الجنوب، وكان من الطبيعي أن يؤيد هذا العمل البريطانيون العاملون في السودان، والذين هم في الأساس مرتبطون بالكنيسة الإنكليزية، ويعملون وفق توجيهاتها وإشرافها، ومثال على ذلك قال أحد المسؤولين عن الإرساليات: «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني»؟ !
    وقال أيضاً: «لا يعتبر زنوج السودان مسلمين على وجه العموم، كما أنهم ليس لديهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، بل إن قلة ضئيلة هي التي اعتنقت الإسلام عن فهم واقتناع».
    وكتب (س. واطسن) مقالاً في مجلة الإرساليات العالمية قال فيه:
    «مما لا ريب فيه أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق والرأي العام البريطاني، بل إنَّ دواوين الحكومة في السودان تتعطل عن العمل أيام الجمع، وتعمل في السبت؟ بل لقد ذهبت هذه السياسة إلى أبعد من ذلك، وإلى الحد الذي صبغت فيه الحكومة نظام التعليم بطابعها، وغزت معاقل كلية (غوردن) التذكارية في الخرطوم».
    هذا ما كتبه (واطسن) حينها، وبعدها قال أحد رجال الإرساليات ما يلي:
    «لقد أمكن عن طريق نظم كلية (غوردن) التذكارية، وضع أسلحة الجامعة الأزهرية في أيدي الشباب السوداني، ومن شأن هذا الاعتراف المدعم بمعرفة تامة لأحوال الجماعات، أن يمهد السبيل تدريجياً وضمنياً للتوغل الإسلامي الدموي الذي يستهدف السيطرة كلياً على القارة الأفريقية والقضاء النهائي على كل النفوذ المسيحي».
    بمثل هذا الكلام والمقرون بالعمل من قبل الإرساليات التبشيرية وحكومات الغرب التي تمولها وتدعمها، أصبح جنوب السودان أرضاً خصبة لعداء العرب والإسلام وشمال السودان، وما انصراف الإرساليات التبشيرية البروتستانتية وغيرها إلى نشر التعليم الديني على أيدي قسيسين خبراء اشتغلوا مقابل أجر كبير لنشر المسيحية إلاَّ خطة فرنجية لتنصير الجنوب، وما طلب المسؤول (ونجت) من مدير بحر الغزال بعدم تدريس اللغة العربية في مديرية بحر الغزال إلاَّ لكونها تشتمل على عبارات عن الرسول والنبي «محمد» (ص) ولذلك طلب منه جعل الإنجليزية لغة التعليم، ورغم كل المحاولات التي قامت بها بريطانيا، فلم تتمكن من إخفاء أو طمس اللغة العربية، وظلت لغة التخاطب والتفاهم بين كافة أفراد الجنوب كما أن مدارس الشرطة والجيش التي التحق ودرس فيها أبناء الجنوب ساعدت في نشر اللغة العربية، إلاَّ أنَّه ومع العودة إلى الوراء قليلاً أي في عام /1910/ قررت الإرسالية الكاثوليكية الرومانية وجمعية الكنائس الإرسالية وعلى لسان كل من القس (جير) والأب (أ. شو) وكذلك القس (جوين) الآتي:
    «بأنَّه ما لم تمنح الأفضلية في تعيين الوظائف لمن درسوا باللغة الإنكليزية فلن يكون هناك حافز لمدارس الإرساليات لتعليم الإنكليزية»؟.
    كذلك ذكر القس (جوين لونجت)، بأنَّه «إذا استطاعت الحكومة قدر استطاعتها تشجيع استخدام الإنكليزية حتى تصبح أداة للتفاهم خلال الأعمال والتصرفات التي يقوم بها بعض الأهالي، فإنَّ ذلك سيجبر الباقي على تعلم لغتنا، وسيتيح للإرساليات المسيحية فرصة ضئيلة للعمل بالمقارنة مع المزايا الممنوحة للإسلام في جنوب السودان».
    وبعد ذلك اتضح أنَّ تلك هي السياسة الرسمية البريطانية، وبأسلوب الترغيب والترهيب هذا غدت اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية التي أدت إلى التمييز بين سكان الشمال وسكان الجنوب نتيجة احتكار الإرساليات المسيحية الأوروبية شؤون التعليم، وكنتيجة لتشغيل وتوظيف الجنوبيين.
    أما الإرساليات الأمريكية لجنوب السودان فقد بدأت أعمالها في مديرية أعالي النيل، وفي جبل /دوليب/ عام 1902 وقد أخذت وقتاً طويلاً في تلقين الدين المسيحي، وكانت مدة برنامج التعليم للأولاد ست سنوات، وبالطبع كانت اللغة الإنكليزية هي لغة التعليم للمواد الدراسية كلها باستثناء الدين الذي كان يدرس باللهجات المحلية وفي هذه المدارس تخرج أشباه القسس الذين أدخلوا الغشاوة إلى عيون الجنوبيين فيما بعد؟!!


    يتبع


  5. #5
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثالث
    فصل الجنوب عن الشمال


    عندما أرغم الفرنسيون على الإنسحاب من فاشودة عام 1899، أعاد الملك (ليوبولد) الثاني مطالبته ببعض أجزاء من جنوب السودان وخاصة منطقة /اللادو/ وعندما توفي الملك عام 1909 خضعت منطقة /اللادو/ لحكومة السودان، وفي عام 1913 تمت تسوية المشاكل الحدودية مع كل من يوغندة وأثيوبيا، وفي عام 1917 أنشئت قوة عسكرية محلية عُرفت باسم قوات الاستوائية بعدها صدر الأمر بمغادرة القوة العسكرية الشمالية الجنوب.
    وجاء اقتراح حاكم الاستوائية البريطاني (اوين) بتكوين فرقة عسكرية من الجنوبيين تعمل في منطقة الجنوب، ويكون ضباطها من الإنكليز وولاؤها للدين الفرنجي؟! وتمت الموافقة على ذلك وبدئ في تجنيد الجنوبيين.
    وكان الحاكم العام للسودان، وضابط المخابرات السابق في الجيش المصري المدعو (ونجت) يرى أن تكوين الفرق العسكرية الاستوائية هو العلاج الناجح والفعّال لأي ثورة أو تحرك عربي يمكن أن يولد في السودان، فلقد أدرك (ونجت) مدى تأصل روح الدين الإسلامي في السودانيين، هذه الروح التي عبرت عن نفسها من خلال الانفجارات العدائية ضد الغزاة الإنكليز، وكان حفظ الأمن في أنحاء السودان يقع على كاهل القوات السودانية المسلحة، وكان الحاكم العام للسودان (ونجت) مخلصاً تجاه فرنجته الإنكليزية ولذلك عمل على وقف انتشار الإسلام في الجنوب السوداني، بل في كل مكان تصل إليه يده.
    كما كان ينظر إلى الإرساليات بوصفها جيشاً احتياطياً للفرنجة الغربية؟
    وفي 7/12/1917 غادر آخر عسكري وطني منطقة الاستوائية وأصبحت القوة العسكرية الاستوائية هي الحامية الوحيدة هناك حتى قيام التمرد في الجنوب السوداني عام 1955، ومن الإجراءات التي اتخذت ونفذت في الجنوب بعد مغادرة الجيش السوداني الوطني اعتبار يوم الأحد عطلة رسمية، واعتبار اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولقد أمسيا السياسة الرسمية للبلاد منذ عام 1918، وقد أصدر الحاكم البريطاني الأمر التالي:
    «لقد لاحظت أنَّه وخلافاً لأوامري المتكررة، ما زالت تعرض كميات كبيرة من الأزياء السودانية الوطنية؟ عليكم أن تراعوا مستقبلاً أنَّ صنع وبيع هذه الملابس يعد أمراً محظوراً، ويجب أن تصنع القمصان القصيرة ذات الياقات المفتوحة من الأمام كما هو الحال بالنسبة للزي الأوروبي، ويجب ألاَّ تكون بياقة دائرية كالتي يرتديها العرب ويجب عدم تفصيل أي ملابس وطنية بدءاً من هذا الحظر، وإنني أمنحكم فترة تمتد من 21/5/1935 أي من تاريخ هذا الحظر وحتى شهر كانون الثاني - يناير القادم وينطبق ما ذكرت على كل الوكلاء الخارجيين والذين يمتلكون ماكينات خياطة».
    بعد هذا الأمر العجيب، صدر أيضاً أمرٌ آخر أكثر غرابة وهو:
    «من غير المسموح به أيضاً تقليد العادات العربية؟!، كما منع الختان، وكذلك الزواج بين الشماليين والجنوبيين، وإذا ما أراد شمالي الزواج من امرأة من أهل الجنوب – وهذا أمر نادر الوقوع – فيجب عليه الحصول على موافقة الحاكم البريطاني، كما أمر المفتش البريطاني باستبعاد المسلمين من أي قوات بوليسية أو عسكرية، ومن ناحية أخرى تم نقل كافة العاملين المسلمين في الجنوب، كذلك تم إبعاد الضباط الشماليين الوطنيين من الفرقة الاستوائية نهائياً، ثم أقيمت فصول خاصة لتعليم الإداريين والفنيين والبوليس اللغة الإنكليزية في كافة مناطق الجنوب، وكان يكافأ من يتعلم الإنكليزية قراءة وكتابة».
    وقد أرسل الحاكم العام البريطاني للسودان أمراً لتنفيذ البنود التالية:
    1 - إبعاد الناطقين باللغة العربية من مدينة «واو».
    2 - نقل مدارس الإرساليات إلى مكان بعيد عن مدينة «واو».
    3 - استبدال اللغة العربية بمجموعة من اللهجات المحلية في مدارس الإرساليات ومنع التخاطب باللغة العربية.
    4 - جلب التلاميذ إلى مدارس الإرساليات، وتلقينهم دين الفرنجة واللغة الإنكليزية.
    وهكذا سارت محاربة العرب خطوة وراء خطوة، كما لم يسمح للجنوبيين المسلمين بممارسة شعائرهم الدينية علناً، ولقد تم فصل سلطان قبيلة (الفيروج) الجنوبية المدعو (عيسى أحمد مزناك) من وظيفته، وحددت إقامته بأمر من الحاكم العام البريطاني، وذلك لمعارضته لتعليم الإرساليات التبشيري بين أفراد قبيلته المسلمة؟!
    ولقد كان لهذه السياسة التي اتبعها البريطانيون في الجنوب الأثر الكبير والفعَّال على المدى البعيد، وفي عام 1941 تمت وبتوجيه من الحاكم العام البريطاني إقامة وحدات قبلية مستقلة من أجل فصل الشمال عن الجنوب.
    وفي عام 1944 اقترح السير (دوجلاس نيوبولد) على مجلس الحاكم العام إعادة النظر إزاء الجنوب للتطورات الداخلية والخارجية، وبناءً على اقتراح السير (نيوبولد) وضع الحاكم العام خطة تضمنت حلولاً عدة منها:
    1 - ضم الجنوب بأكمله إلى شرق أفريقيا أو ضم الجزء الأكبر منه إلى شرق أفريقيا والباقي ينظر في أمره؟
    هذا هو مسار التفكير البريطاني تجاه السودان، والذي يهدف إلى محاولة تقطيع أوصاله وإبعاده عن محيطه العربي وذلك عبر حدوث تمرد من القوات التي أنشأها، وقد حدث التمرد فعلاً فيما بعد...


  6. #6
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الباب الثاني
    جذور التمرد
    تمهيد:
    تعود جذور التمرد إلى جملة من الأخطاء والممارسات الغير المقصودة من قبل بعض الوطنيين والأحزاب، وإضافة إلى جملة من الأخطاء المقصودة والتي عمقتها الإرساليات التبشيرية والحكام البريطانيون والتي كانت مبيّتة أصلاً، فالمبشرون الفرنجة، قبل وبعد الاستقلال أخذوا يوهمون الجنوبيين بأنهم ليسوا إلاَّ أرقاء للعرب المسلمين ولذلك ينبغي أن ينظروا إلى مصالحهم الجنوبية الخاصة بعين تعلو كثيراً على المصالح الكبرى لعموم السودان؟
    وهكذا تضافرت كافة العناصر من مبشرين إلى حكام بريطانيين إلى انفصاليين، هذه الجهود تبلورت في التمرد الذي قامت به الفرقة الاستوائية في شهر آب /أغسطس/ عام 1955.


    الفصل الأول
    كيف تم تكوين الفرقة الاستوائية
    والهدف من تكوينها
    1917 - 1955

    عملت الإرساليات التبشيرية على نشر /الفرنجية/ تعاليمها بين القبائل في جنوب السودان.
    فقد وضع كل من الحاكمين البريطانيين (كرومر) و (ونجت) السياسة الواجب إتباعها في جنوب السودان، وهي /فرنجته/، وإلى حدٍّ ما نجحت السياسة التي عمّقت نفوذ الإرساليات التبشيرية، ولقد كان المخطط الغربي الاستعماري إيجاد شباب /فرنجي/ يكون رأس الحربة في مواجهة شمال السودان وبحيث يكون ثمة توازن بين الإسلام و/الفرنجية/، وبحكم التفوق العددي لقبيلة (الدينكا) فقد ركز البريطانيون والغرب عليها حتى تكون الشوكة في جسم السودان الوطني العربي.
    ولقد لعب قادة التبشير الفرنجية دوراً مباشراً في التأسيس لأول حركة تمرد عسكرية في الجنوب عام /1955/ في مواجهة شمال السودان عميق الجذور الوطنية.
    ففي عام /1917/ تمَّ إنشاء قوة عسكرية من أبناء الجنوب تحت اسم القوات الاستوائية، كما سبق وذكرنا، وكانت مغادرة القوات الشمالية منطقة الاستوائية إفشالاً للدور الوطني العربي الإسلامي، وقد كان الجنود المنخرطون في الجيش مسلمين، ومعروف أنَّ كل من ينضم للجيش من غير المسلمين يصبح مسلماً، من هنا كان اقتراح /أوين/ بتكوين جيش جنوبي يكون ضباطه من الإنكليز وولاؤه للدين الفرنجي، وكان المذكور يرى في تكوين الجيش الجنوبي دواءً ناجعاً مضموناً ضد أي ثورة وطنية قد تحدث في السودان، حيث أنَّ (أوين) كان يعلم تماماً عمق التأصل الروحي الديني في السودانيين، وما ينتج عن هذا التأصل الديني من مقاومة الغزاة، وخاصة الغرباء والدخلاء هذا من جانب، أما الجانب الداخلي المتمثل في حفظ النظام والأمن فيقع على عاتق الجيش السوداني الوطني، حيث كان الإنكليز يشكّون في ولائه، وبعيداً عن هذا وذاك فقد كان الحاكم العام للسودان (ونجت) متعصباً لدينه الفرنجي، ويرى في انتشار الإسلام وعدالته عدواً لـه، وكان يعمل على تشجيع البعثات التبشيرية المسيسة التي جاءت لتعمل على حسر الدعوة الإسلامية في الجنوب، وكانت نظرته إلى الإرساليات والقبائل الوثنية بوصفها جيشاً احتياطياً للفرنجية المتعصبة.
    ... «سيأتي يوم في الجنوب سيتم الاختيار فيه بين العربية والقرآن، والإنجليزية والإنجيل» الحاكم الإنكليزي (ونجت).
    وكما أسلفنا عمل الحاكم (ونجت) على تشكيل فرقة عسكرية من الجنوبيين فقط، وقد نجح في ذلك وأصبحت الفرقة جاهزة عسكرياً من حيث التدريب والتأهيل وبحيث يمكن الاعتماد عليها، كان ذلك عام 1918، وقد حرص أن يبنى التشكيل العقائدي لهذه الفرقة على أسس دينية فرنجية، وأن تقام فيها الشعائر المسيحية باللغة المحلية، وعلى أن تصدر الأوامر للفرقة باللغة الإنكليزية، وأن تمسح اللغة والعادات العربية في هذه الفرقة؟
    كذلك حرصت بريطانيا راعية الإرساليات الغربية المختلفة على محو أية تأثيرات عربية على الفرقة الاستوائية.
    ولقد شكلت هذه الفرقة في كلٍّ من منطقة «توريت» الاستراتيجية و«ملكال» رغم أنَّ الفرقة التي شكلت في «توريت» كانت من جموع القبائل القليلة العدد غير أنَّ بقية الفرقة الاستوائية في منطقة «ملكال» كان عمادها الأساسي هو قبيلة (الدينكا) لأنَّ تفوقها العددي كان كبيراً في كل من منطقتي أعالي النيل وبحر الغزال فضلاً عن أن تلقين /الفرنجية/ كان مؤثراً فيهم، ونلاحظ هنا أنَّ القيادة العسكرية الدينكاوية قد تشكلت قدراتها الدينية والعسكرية منذ عام 1918، وبذلك يكون قد ذهب التخطيط السياسي البريطاني في خطين أساسيين لتجسيد هدف أساسي ألا وهو انفصال الجنوب عن الشمال وفق التالي:
    الخط الأول: تدريب وتعليم جموع الكوادر السياسية في الكنائس وأماكن تواجد الإرساليات التبشيرية، وذلك من أجل أن تقود الحركة السياسية.
    الخط الثاني: تكوين القيادات العسكرية الجنوبية من بين أفراد الفرقة الاستوائية التي أنشئت في /توريت/ و /ملكال/، وهنا نقطة التقاء هذين الخطين والتي تتمثل في مواجهة السودان الوطني العربي.
    تمرد الفرقة الاستوائية عام 1955:
    أينعت ونبتت بذور الانفصال التي بذرها كلٌّ من (كرومر) و (ونجت) في أرض السودان، فبعد /37/ عاماً، ظهر ما سمي بـ تمرد (توريت)( ) عام 1955، وحدثت مجزرة قام بها أفراد الفرقة الاستوائية وقتلوا /261/ سودانياً، وبالرغم من أنَّ جرائم الفرقة الاستوائية كانت تستهدف أبناء الشمال في الدرجة الأولى إلاَّ أنَّ 75% من أبناء الجنوب لاقوا حتفهم في هذا التمرد ومن هذا التمرد اندلعت الشرارة الأولى التي عملت على انطلاق القوة العسكرية الجنوبية المتمردة.
    إنَّ تمرد هذه الفرقة عام /1955/ كان الحربة الأولى الموجهة ضد السودان، نتيجة لهذا التمرد ازداد الفكر القبلي الديني العسكري عامة لدى قادة التمرد من سياسيين وعسكريين مدعومين من الغرب.
    التمرد والقتل هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الهدف:
    على الرغم من إخماد التمرد إلاَّ أنَّ بعض القيادات العسكرية، والتي أُوعز لها من قبل الدوائر الغربية باستمرار القتال، لجأت إلى الأحراش والغابات بغية قتال الجيش الوطني السوداني.
    بهذا العمل وغيره تكون السياسة الاستعمارية البريطانية قد أثمرت وفق الخطين اللذين ذكرناهما سابقاً...
    بعد ذلك تكونت عدة منظمات سياسية عسكرية عملت في السودان وفي خارجه.
    ولقد عملت هذه المنظمات على المطالبة بالانفصال عن شمال السودان ومن هنا نستطيع أن نؤكد على أن حركة التمرد هي النتاج الطبيعي للسياسة الاستعمارية في السودان، ولاستمرار هذه السياسة عمد البريطانيون إلى إيجاد جيل وكوادر سياسية وعسكرية في أي منطقة يصلون إليها، وهذا ما تم في جنوب السودان حيث درَّس ودرَّب الكثير من الجنوبيين، وذلك في مدارس الإرساليات التبشيرية وكان ذلك بمثابة النواة الأولى لحركة الانفصال ومواجهة المد الثقافي الوطني في الجنوب السوداني تمهيداً لمحاربته في الأقطار الأفريقية المجاورة.
    وقبل مغادرة البريطانيين السودان، خلفوا وراءهم في الجنوب قوة سياسية عسكرية تعمل لإقامة دولة خاصة تكون موالية لهم تماماً. وهكذا برزت على الساحة السودانية حركة سياسية عسكرية ذات تأثير واضح وقوي في مجريات الأحداث.
    وكانت البداية في فترة حكم الفريق (إبراهيم عبود) /1958 - 1964/، ولقد ترأست هذه الحركة قبيلة (الدينكا) التي تغلغلت في جميع القبائل، وكان ذلك بفضل تفوقها العددي على بقية القبائل الأخرى، كما أنَّها هيمنت على تشكيل القوات العسكرية الجنوبية عام 1918 من أجل ضمان واستمرار التحكم في مصير السودان وخاصة الجنوب، إضافة إلى محاولة فضل الشمال عن الجنوب، هنا التقى الخطان السياسي والعسكري ليصوغا معاً شكل العلاقة بين الشمال والجنوب خلال الفترة الممتدة من عام 1953 - 1956 والتي سميت بالفترة الانتقالية، وما قيام الحاكم الإنكليزي بتشكيل قوى التمرد من سياسية إلى عسكرية، إلا من أجل البدء بالتحرك الانفصالي الجنوبي.
    بدأت العمليات العسكرية الإرهابية ضد الشعب السوداني كافة وبدأ الدعم المالي والعسكري من الغرب، ومن مجلس الكنائس العالمي ومن اسرائيل أيضاً التي وجدت في هذه القوة المتمردة الانفصالية مبتغاها للدخول إلى المنطقة الأفريقية، وبالتالي تواجدها في الجانب السوداني عبر التمرد الجنوبي، ثم ظهرت التظيمات السياسية ومنها رابطة السودان المسيحية والاتحاد الوطني السوداني /سادنو/ ثم حزب /سانو/، وقد فشلت هذه التنظيمات في إيجاد حل للمشكلة التي تغذيها الدوائر الغربية، وهنا ظهرت حركة [ أنانيا واحد وبعدها أنانيا اثنان ] ثم الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، وقد لجأت هذه التنظيمات مع تنظيمات أخرى مماثلة إلى السلاح والقتل والتدمير والتشريد لحل المشكلة ساندها في ذلك القوى الاستعمارية الغربية والصهيونية.
    يتبع


  7. #7
    مترجم / أستاذ بارز الصورة الرمزية معتصم الحارث الضوّي
    تاريخ التسجيل
    29/09/2006
    المشاركات
    6,947
    معدل تقييم المستوى
    24

    افتراضي

    خبطة صحفية وإعلامية رائعة من كاتبة وإعلامية محنكة. أتابع معك هذا الموضوع بشغف يا أستاذة آداب، فالموضوع في غاية الأهمية والحساسية.

    مع فائق عرفاني وتقديري

    منتديات الوحدة العربية
    http://arab-unity.net/forums/
    مدونتي الشخصية
    http://moutassimelharith.blogspot.com/

  8. #8
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    من هي الأنانيا

    واحد؟
    هي تكوين عسكري قبلي يختلف كلياً عن أوضاع التنظيمات المسلحة العادية من حيث أنَّها تكوين قبلي، ولقد أنشئت هذه الحركة المسلحة على شكل ألوية مستقلة عن بعضها البعض، فلا ترابط بينها في الأقضية ولا في المناطق المختلفة في جنوب السودان، وإن كانوا قد حملوا جميعاً تعريفاً واحداً هو /الأنانيا/ ومعناه /السم القاتل/، ولقد كان تجييش هذه القوات بهدف مقاتلة بقية السودانيين الوحدويين، وبمعنى أدق قتال المؤمنين بوحدة السودان، وكان كل من يرغب في ذلك عليه أن يتجه إلى الغابات لينضم إلى حركة التمرد /الأنانيا/ أو لأقرب تنظيم أو جماعة في المنطقة، كي يحدد لـه القائد المحلي المكان الذي سيقاتل منه، والرتبة العسكرية التي سيحملها وسيتعامل من خلالها، ولذلك كانت هذه التشكيلات قريبة من الوحدات القبلية في المناطق المختلفة من جنوب السودان، ويمكننا أن نفسِّر ذلك بشكل أبسط:
    توجد عصابات /الأنانيا/ في كل من أعالي النيل وبحر الغزال، وقد غلبت على هذه التشكيلات الروح القبلية متمثلة في قبيلة (الدينكا)، وعندما بدأت العمليات العسكرية على شكل وحدات مستقلة في أماكنها، قامت إحدى التجمعات من هذه العصابات في مديرية بحر الغزال برمي مستشفى «رومبك» بالحجارة، وسلبوه كافة المستلزمات( ) الطبية.
    توحدت حركات /الأنانيا/ تحت إمرة العقيد المتمرد (جوزيف لاغو) بعد أن تم عزل الجنرال (اميلو نامتح).
    وبالرغم من أنَّه عند بداية تكوين هذه الحركة العسكرية الجنوبية المتمردة لم يكن وارداً على الإطلاق اسم /الأنانيا/، فقد قدمت عدة اقتراحات لتسميات مختلفة هي:
    1 - جيش حرية الأرض.
    2 - جيش أزانيا السري.
    3 - محاربو حرية كل أفريقيا.
    إلا أنه في النهاية استقر الأمر على اسم /الأنانيا/( ).
    وبعد أن تم اختيار الاسم، بدأت حركة [ سم الثعبان ] نشاطها العسكري التخريبي ضد الحكومة السودانية، وكان العمل العسكري يسير من قبيلة (الدينكا) في كافة مناطق الجنوب وكان يقود هذه المجموعات المتمردة القتالية دائماً ضابط أو زعيم /دينكاوي/ فمن هم /الدينكاويين/ الذين لعبوا، ويلعبون دوراً مهماً في انفصال الجنوب عن الشمال؟!...
    تعد قبيلة (الدينكا) من أكبر القبائل النيلية في شرق أفريقيا حيث يقع موطن (الدينكا) نوب السودان والذي يتداخل ويتجاور مع موطني (النوير)
    و (الشلك).
    ويبلغ تعداد شعب (الدينكا) حسب إحصاء أواخر القرن العشرين مليونين وتسعمئة وستين ألف نسمة، ويقطنون في أرض تبلغ مساحتها /250.000/ كيلومتر مربع، وتتعاضد قبائل الدينكا فيما بينها في حالة الحرب أو النزاع مع القبائل الأخرى.
    كما أنَّ معظم قادة وضباط وجنود /جيش تحرير جنوب السودان/ هم من قبيلة /الدينكا/ وكذلك زعيم المتمردين /جون كرنغ/ وإلى غاية الآن لم تعرف /الدينكا/ جذوراً في الدول المجاورة للسودان مثل بقية القوميات السودانية الأخرى المتواجدة في الأرض السودانية، كما ينقسم شعب /الدينكا/ إلى عدد من القبائل الكبيرة، ولكل منها اسم خاص بها، ونورد الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر:
    1 - بور: ومعناه المغمور بالماء.
    2 - علياب: وتسمى أيضاً باسم جعران من الجعارين.
    3 - سيك: ومعناه: الرمح المقدس.
    4 - تورى معناه الرعد العاصف.
    واسم (الدينكا) معناه /قول/ ولقد أطلق عليها هذا الاسم من قبل الأجانب، أما محلياً فيطلق عليهم اسم /مونج يانج/.
    وإن قبيلة (الدينكا) كلها تخضع للإرادة الكنسية الفرنجية، وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء أي إلى عام 1901 أثناء الحكم الثنائي نورد الآتي:
    «مما لا شك فيه مطلقاً أن اتفاقية الحكم الثنائي كانت وليدة الضعف والوصولية، وفيها كان السودان دولة ولكنها خاضعة لحكم الإنكليز ويساعدها في ذلك الموظفون بدءاً من الكلمة إلى الفعل» والآن دعونا ندخل إلى جنوب السودان موضوع كتابي هذا...
    بدأ تمرد قبائل الجنوب ضد الغزو الثنائي، ففي عام 1901 قتل بعض أفراد قبيلة (الدينكا) الضابط البريطاني (سكوت باريور) وعلى إثره قامت القوات الثنائية البريطانية - المصرية - بحرق القرى وقتل الشيوخ وصادرت موانىء القرى على إثر ذلك ازداد التمرد.
    وفي عام 1903 أرسلت حملة للقضاء على تمرد قبيلة (الدينكا) القاطنة عند نهر /لاو/ ثم أرسل مزيدٌ من الحملات في عامي 1907 - 1910 - لكن هذه الحملات لم تستطع إنهاء التمرد وظل سكان المنطقة يقاومون كلما توفر لهم ذلك حتى عام 1917 حيث أخمد التمرد نهائياً.
    وفي عام 1903 ثارت قبيلة (نيام نيام) بقيادة السلطان (يكتا) ابن سلطان (يامبيو) وهاجموا وحدة من الجيش الثنائي وكان يقودها الكابتن (وود) وفي عام 1905 قاد سلطان (يامبيو) بنفسه جيشاً كبيراً ضد القوات الحكومية لكنه هزم ومات متأثراً بجراحه لكن ابنه (ريكتا) ظل على عداء مع الحكومة إلى أن قبض عليه في عام 1914 حيث أبعد إلى الخرطوم ومات فيها عام 1916، هذا بعضٌ مما حصل في الجنوب السوداني الذي يضم 575 قبيلة، لكن السؤال الذي لابد من الإجابة عنه هو: من أين جاءت تسمية جنوب السودان؟!..
    إن البريطانيين هم أول من سمى جنوب السودان بهذا الاسم وكان ذلك في عام 1921 وقد هدف البريطانيون من هذه التسمية إيجاد كيان مستقل، يكون دولة في المستقبل.
    ولكن هناك رأيان يعتبران أساسيين حول التسمية التي أصبحت فيما بعد مشكلة جنوب السودان.
    الرأي الأول: يقول إن المشكلة التي تحولت إلى صراع هي نزاع بين العرب المسلمين والأفارقة المتفرنجين المسيحيين في الجنوب، وبالوقت ذاته صراع بين الشماليين والجنوبيين السودانيين...
    الرأي الثاني: أن الطريقة الصحيحة لمعرفة وفهم الصراع في السودان هي في الاطلاع على أحواله الميدانية ثم دراسة خلفيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين الجنوبيين والحكومات المركزية التي تعاقبت على السودان منذ عام 1821 هذا العام الذي دخل فيه محمد علي باشا السودان.


  9. #9
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    من هي الأنانيا

    واحد؟
    هي تكوين عسكري قبلي يختلف كلياً عن أوضاع التنظيمات المسلحة العادية من حيث أنَّها تكوين قبلي، ولقد أنشئت هذه الحركة المسلحة على شكل ألوية مستقلة عن بعضها البعض، فلا ترابط بينها في الأقضية ولا في المناطق المختلفة في جنوب السودان، وإن كانوا قد حملوا جميعاً تعريفاً واحداً هو /الأنانيا/ ومعناه /السم القاتل/، ولقد كان تجييش هذه القوات بهدف مقاتلة بقية السودانيين الوحدويين، وبمعنى أدق قتال المؤمنين بوحدة السودان، وكان كل من يرغب في ذلك عليه أن يتجه إلى الغابات لينضم إلى حركة التمرد /الأنانيا/ أو لأقرب تنظيم أو جماعة في المنطقة، كي يحدد لـه القائد المحلي المكان الذي سيقاتل منه، والرتبة العسكرية التي سيحملها وسيتعامل من خلالها، ولذلك كانت هذه التشكيلات قريبة من الوحدات القبلية في المناطق المختلفة من جنوب السودان، ويمكننا أن نفسِّر ذلك بشكل أبسط:
    توجد عصابات /الأنانيا/ في كل من أعالي النيل وبحر الغزال، وقد غلبت على هذه التشكيلات الروح القبلية متمثلة في قبيلة (الدينكا)، وعندما بدأت العمليات العسكرية على شكل وحدات مستقلة في أماكنها، قامت إحدى التجمعات من هذه العصابات في مديرية بحر الغزال برمي مستشفى «رومبك» بالحجارة، وسلبوه كافة المستلزمات( ) الطبية.
    توحدت حركات /الأنانيا/ تحت إمرة العقيد المتمرد (جوزيف لاغو) بعد أن تم عزل الجنرال (اميلو نامتح).
    وبالرغم من أنَّه عند بداية تكوين هذه الحركة العسكرية الجنوبية المتمردة لم يكن وارداً على الإطلاق اسم /الأنانيا/، فقد قدمت عدة اقتراحات لتسميات مختلفة هي:
    1 - جيش حرية الأرض.
    2 - جيش أزانيا السري.
    3 - محاربو حرية كل أفريقيا.
    إلا أنه في النهاية استقر الأمر على اسم /الأنانيا/( ).
    وبعد أن تم اختيار الاسم، بدأت حركة [ سم الثعبان ] نشاطها العسكري التخريبي ضد الحكومة السودانية، وكان العمل العسكري يسير من قبيلة (الدينكا) في كافة مناطق الجنوب وكان يقود هذه المجموعات المتمردة القتالية دائماً ضابط أو زعيم /دينكاوي/ فمن هم /الدينكاويين/ الذين لعبوا، ويلعبون دوراً مهماً في انفصال الجنوب عن الشمال؟!...
    تعد قبيلة (الدينكا) من أكبر القبائل النيلية في شرق أفريقيا حيث يقع موطن (الدينكا) نوب السودان والذي يتداخل ويتجاور مع موطني (النوير)
    و (الشلك).
    ويبلغ تعداد شعب (الدينكا) حسب إحصاء أواخر القرن العشرين مليونين وتسعمئة وستين ألف نسمة، ويقطنون في أرض تبلغ مساحتها /250.000/ كيلومتر مربع، وتتعاضد قبائل الدينكا فيما بينها في حالة الحرب أو النزاع مع القبائل الأخرى.
    كما أنَّ معظم قادة وضباط وجنود /جيش تحرير جنوب السودان/ هم من قبيلة /الدينكا/ وكذلك زعيم المتمردين /جون كرنغ/ وإلى غاية الآن لم تعرف /الدينكا/ جذوراً في الدول المجاورة للسودان مثل بقية القوميات السودانية الأخرى المتواجدة في الأرض السودانية، كما ينقسم شعب /الدينكا/ إلى عدد من القبائل الكبيرة، ولكل منها اسم خاص بها، ونورد الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر:
    1 - بور: ومعناه المغمور بالماء.
    2 - علياب: وتسمى أيضاً باسم جعران من الجعارين.
    3 - سيك: ومعناه: الرمح المقدس.
    4 - تورى معناه الرعد العاصف.
    واسم (الدينكا) معناه /قول/ ولقد أطلق عليها هذا الاسم من قبل الأجانب، أما محلياً فيطلق عليهم اسم /مونج يانج/.
    وإن قبيلة (الدينكا) كلها تخضع للإرادة الكنسية الفرنجية، وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء أي إلى عام 1901 أثناء الحكم الثنائي نورد الآتي:
    «مما لا شك فيه مطلقاً أن اتفاقية الحكم الثنائي كانت وليدة الضعف والوصولية، وفيها كان السودان دولة ولكنها خاضعة لحكم الإنكليز ويساعدها في ذلك الموظفون بدءاً من الكلمة إلى الفعل» والآن دعونا ندخل إلى جنوب السودان موضوع كتابي هذا...
    بدأ تمرد قبائل الجنوب ضد الغزو الثنائي، ففي عام 1901 قتل بعض أفراد قبيلة (الدينكا) الضابط البريطاني (سكوت باريور) وعلى إثره قامت القوات الثنائية البريطانية - المصرية - بحرق القرى وقتل الشيوخ وصادرت موانىء القرى على إثر ذلك ازداد التمرد.
    وفي عام 1903 أرسلت حملة للقضاء على تمرد قبيلة (الدينكا) القاطنة عند نهر /لاو/ ثم أرسل مزيدٌ من الحملات في عامي 1907 - 1910 - لكن هذه الحملات لم تستطع إنهاء التمرد وظل سكان المنطقة يقاومون كلما توفر لهم ذلك حتى عام 1917 حيث أخمد التمرد نهائياً.
    وفي عام 1903 ثارت قبيلة (نيام نيام) بقيادة السلطان (يكتا) ابن سلطان (يامبيو) وهاجموا وحدة من الجيش الثنائي وكان يقودها الكابتن (وود) وفي عام 1905 قاد سلطان (يامبيو) بنفسه جيشاً كبيراً ضد القوات الحكومية لكنه هزم ومات متأثراً بجراحه لكن ابنه (ريكتا) ظل على عداء مع الحكومة إلى أن قبض عليه في عام 1914 حيث أبعد إلى الخرطوم ومات فيها عام 1916، هذا بعضٌ مما حصل في الجنوب السوداني الذي يضم 575 قبيلة، لكن السؤال الذي لابد من الإجابة عنه هو: من أين جاءت تسمية جنوب السودان؟!..
    إن البريطانيين هم أول من سمى جنوب السودان بهذا الاسم وكان ذلك في عام 1921 وقد هدف البريطانيون من هذه التسمية إيجاد كيان مستقل، يكون دولة في المستقبل.
    ولكن هناك رأيان يعتبران أساسيين حول التسمية التي أصبحت فيما بعد مشكلة جنوب السودان.
    الرأي الأول: يقول إن المشكلة التي تحولت إلى صراع هي نزاع بين العرب المسلمين والأفارقة المتفرنجين المسيحيين في الجنوب، وبالوقت ذاته صراع بين الشماليين والجنوبيين السودانيين...
    الرأي الثاني: أن الطريقة الصحيحة لمعرفة وفهم الصراع في السودان هي في الاطلاع على أحواله الميدانية ثم دراسة خلفيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين المواطنين الجنوبيين والحكومات المركزية التي تعاقبت على السودان منذ عام 1821 هذا العام الذي دخل فيه محمد علي باشا السودان.


  10. #10
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الباب الثالث
    البريطانيون ومحاولاتهم
    لحكم جنوب السودان

    بعد سقوط الدولة المهدية عام 1898 ظهرت على السطح أوضاع السودان عامة والجنوب خاصة على البريطانيين الذين استولوا على الأوضاع السياسية والاجتماعية... خدمة لأغراضهم، وفي ظل هذا الوضع اقترح القنصل البريطاني في مصر (اللورد كرومر) حلاً وسطاً يمكن عبره حكم السودان من قبل الدولتين بريطانيا - مصر وضمان مصالحهما...
    وفي كانون الثاني /يناير/ من عام 1899 اتفق الجانبان /البريطاني والمصري/ ووقعا على حكم السودان وكانا قد وضعا أسساً لما سمي فيما بعد بالحكم الثنائي /الأنكلو - مصري/ في السودان وكانت حجة الدولتين قائمة على الآتي:
    1 - حجة البريطانيين كانت تقوم على ما سموه بحق الغزو.
    2 - أما المصريون فكانت حجتهم مبنية على حجة تاريخية وهي أن بعض المحافظات التابعة لمصرفي السودان تمردت ضد سلطة الخديوي...
    إذاً، الغزو البريطاني وتمرد بعض المحافظات ضد الخديوي هما اللذان دفعا البريطانيين والمصريين لاحتلال السودان الذي أصبح تحت الاحتلال الإنكليزي والوصاية المصرية، إلا أن الإدارة المصرية دعمت العمل الثقافي الإسلامي فأنشأت المدارس العربية الإسلامية الحديثة، من أجل تعميق ارتباط السودان بالعالم العربي، غير أنَّ الحكم المصري لم يعطَ الوقت اللازم في جنوب السودان لكي يحقق التحول اللازم في الوضع الديني الوثني الذي كان سائداً في المنطقة الجنوبية، إلا أن أبناء الشمال الذين كانوا يعملون في المديرية الاستوائية تكفلوا بواجبهم الأخوي تجاه إخوتهم أبناء الجنوب، فعملوا على تنويرهم من حيث الدين والثقافة العربية الإسلامية..
    عند هذا الأمر قام الإنكليز الذين كانوا يخشون انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية فأشعلوا ثورات قبلية هنا وهناك، وفيما يلي بعض مما كان يحدث:
    في الجنوب:
    كان يحكم قبيلة (الشلك) زعيم روحي يدعى (الريث) وكان يحكم قبيلة (لأنواك) زعيم اسمه (نييا) وكانت هاتان القبيلتان تخوضان حروباً قبلية متعددة مع قبيلة (النوير) التي تعيش في أعالي النيل وكانت القرية بالنسبة لكل هؤلاء القبائل تعني كياناً اجتماعياً جامعاً، أما السلطة عند قبيلة (الدينكا) فكانت تُورث كما كان جنوب السودان يحكم من قبل زعماء روحيّين وثنيين وكذلك سكانه وأرضه غير معروفين للعالم أيضاً.
    لقد كان الذهاب إلى جنوب السودان مغامرة قد لا يعود منها المرء أحياناً( )؟


  11. #11
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الباب الثالث
    البريطانيون ومحاولاتهم
    لحكم جنوب السودان

    بعد سقوط الدولة المهدية عام 1898 ظهرت على السطح أوضاع السودان عامة والجنوب خاصة على البريطانيين الذين استولوا على الأوضاع السياسية والاجتماعية... خدمة لأغراضهم، وفي ظل هذا الوضع اقترح القنصل البريطاني في مصر (اللورد كرومر) حلاً وسطاً يمكن عبره حكم السودان من قبل الدولتين بريطانيا - مصر وضمان مصالحهما...
    وفي كانون الثاني /يناير/ من عام 1899 اتفق الجانبان /البريطاني والمصري/ ووقعا على حكم السودان وكانا قد وضعا أسساً لما سمي فيما بعد بالحكم الثنائي /الأنكلو - مصري/ في السودان وكانت حجة الدولتين قائمة على الآتي:
    1 - حجة البريطانيين كانت تقوم على ما سموه بحق الغزو.
    2 - أما المصريون فكانت حجتهم مبنية على حجة تاريخية وهي أن بعض المحافظات التابعة لمصرفي السودان تمردت ضد سلطة الخديوي...
    إذاً، الغزو البريطاني وتمرد بعض المحافظات ضد الخديوي هما اللذان دفعا البريطانيين والمصريين لاحتلال السودان الذي أصبح تحت الاحتلال الإنكليزي والوصاية المصرية، إلا أن الإدارة المصرية دعمت العمل الثقافي الإسلامي فأنشأت المدارس العربية الإسلامية الحديثة، من أجل تعميق ارتباط السودان بالعالم العربي، غير أنَّ الحكم المصري لم يعطَ الوقت اللازم في جنوب السودان لكي يحقق التحول اللازم في الوضع الديني الوثني الذي كان سائداً في المنطقة الجنوبية، إلا أن أبناء الشمال الذين كانوا يعملون في المديرية الاستوائية تكفلوا بواجبهم الأخوي تجاه إخوتهم أبناء الجنوب، فعملوا على تنويرهم من حيث الدين والثقافة العربية الإسلامية..
    عند هذا الأمر قام الإنكليز الذين كانوا يخشون انتشار اللغة العربية والثقافة الإسلامية فأشعلوا ثورات قبلية هنا وهناك، وفيما يلي بعض مما كان يحدث:
    في الجنوب:
    كان يحكم قبيلة (الشلك) زعيم روحي يدعى (الريث) وكان يحكم قبيلة (لأنواك) زعيم اسمه (نييا) وكانت هاتان القبيلتان تخوضان حروباً قبلية متعددة مع قبيلة (النوير) التي تعيش في أعالي النيل وكانت القرية بالنسبة لكل هؤلاء القبائل تعني كياناً اجتماعياً جامعاً، أما السلطة عند قبيلة (الدينكا) فكانت تُورث كما كان جنوب السودان يحكم من قبل زعماء روحيّين وثنيين وكذلك سكانه وأرضه غير معروفين للعالم أيضاً.
    لقد كان الذهاب إلى جنوب السودان مغامرة قد لا يعود منها المرء أحياناً( )؟


  12. #12
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي جنوب السودان لأحمد أبو سعدة

    الفصل الأول
    عقيدة الإنكليز
    «علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
    هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
    في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
    في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
    أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
    ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
    وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
    «شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:
    البلاغ رقم /واحد/:
    إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
    1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
    2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
    «هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
    3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
    4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
    5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
    لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.
    طرد الجيش المصري من السودان:
    طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:
    اللورد اللنبي:
    في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
    في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
    وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
    رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
    وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
    حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
    ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
    إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).
    ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
    الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
    الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
    كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
    «السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
    أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
    ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
    وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
    أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
    «أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
    والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
    ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
    ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
    1 - دارفور ـ
    2 - الاستوائية ـ
    3 - بحر الغزال ـ
    4 - أعالي النيل ـ
    5 - جزء من شمال كردفان ـ
    6 - قيسان - قيسان ـ
    7 - كسلا ـ
    ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
    ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
    عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
    لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
    وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
    ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.
    النبي الزائف!
    في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
    بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
    إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
    إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
    وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
    س : ما القصد من ذلك؟
    ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
    والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
    في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
    وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.


  13. #13
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي جنوب السودان لأحمد أبو سعدة

    الفصل الأول
    عقيدة الإنكليز
    «علينا أن نعلم هؤلاء الوحوش السلوك والطاعة».
    هذا هو شعار المحتلين البريطانيين لجنوب السودان وهو الذي كانوا يرددونه ويعملون به.
    في الوقت الذي كانت فيه قوات الحكم الثنائي تعمل لإخضاع قبائل الجنوب ووضعها تحت سيطرتها كانت الحكومة المركزية في الخرطوم تعمل لإيجاد أسس حضارية لإدارة مناطق الجنوب التي تم إخضاعها بالقوة - ومن ثم تخليصها من السيطرة البريطانية.
    في عام 1921 اقترحت الحكومة المركزية أن تحكم الجنوب السلطات المحلية الأصلية ويكون هذا الحكم تحت إشراف الحكومة، هذا من جهة أما الجهة الأخرى فهي اقتراح الحاكم البريطاني أن يتخذ عدة خطوات لتثبيت وتقوية وضع الحكومة المركزية لتثبت وجودها علماً بأن الحكومة المركزية كانت توجه وتُؤتمر من قبل الحاكم العام الإنكليزي للسودان وبهذا يكون الاقتراح الذي تقدمت به الحكومة السودانية قد أُملي وفرض عليها من قبل البريطانيين، ومن هذه الاقتراحات:
    أ - تأسيس جيش مستقل لجنوب السودان بحجة أن السودانيين مسلمون ويوجههم الإمام لحفظ القرآن.
    ب - وعلى إثر الاقتراح الأول تم تشكيل الفرقة الاستوائية وكانت كافة عناصرها من الجنوبيين كما أسلفنا سابقاً، كما كانت لغة التخاطب هي اللغة الإنكليزية التي فرضت فرضاً، والشرط الأساسي لجنود هذه الفرقة أن يكونوا أصحاب عقيدة فرنجية مسيحية!
    وهكذا تم الإعداد لقيام التمرد وبشكل غير منظور إنما بشكل خفي.
    «شكل هذا الجيش وأصبح الأنانيا /1/ والأنانيا /2/ وبعدها أضحت الحركة الشعبية لتحرير السودان... والتي جلست الند للند مع الحكومة المركزية السودانية بمفاوضات ما سمي بالسلام»... وفيما يأتي نقدم مثالاً آخر وهو في منتهى الأهمية:
    البلاغ رقم /واحد/:
    إن الحاكم العام للسودان والذي كان أيضاً ضابطاً ممتازاً في الجيش البريطاني قد قتل قتلاً فظيعاً وبناءً عليه تطلب حكومة حضرة صاحبة الجلالة من الحكومة المصرية الآتي:
    1 - أن تقدم اعتذاراً كافياً عن الجناية.
    2 - أن تدفع في الحال إلى حكومة حضرة صاحبة الجلالة غرامة قدرها نصف مليون جنيه [ حينها أما الآن فثمن الفرد يبلغ عشرة ملايين دولار، وقد دفع (العقيد القذافي) هذا المبلغ للفرد الغربي الواحد ]؟؟!
    «هذا ثمن الرجل الإنكليزي أما ثمن الرجل العربي فكان عشرين جنيهاً وقد ارتفع ثمنه الآن وخاصة في العراق وقد يصل إلى /100/ دولار هذا إذا تكرمت قوات الاحتلال الأمريكية الإنكليزية ودفعت؟ أما في فلسطين المحتلة فلا ثمن لـه /بلاش/».
    3 - أن تصدر في خلال /24 ساعة/ الأوامر بإرجاع جميع الضباط المصريين ووحدات الجيش المصري البحتة من السودان «موت رجل إنكليزي واحد يعادل جيش مصري كامل»!
    4 - أن تبلغ المصلحة المختصة أن حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تزرع في الجزيرة من (300) ألف فدان إلى مقدار غير محدد تبعاً لما تقتضيه الحاجة. /طبعاً البريطانية/.
    5 - إذا لم تلب هذه المطالب في الحال تتخذ حكومة صاحبة الجلالة على الفور التدابير المناسبة لصيانة مصالحها في مصر والسودان؟!
    لقد استغلت بريطانيا حادث قتل الضابط الإنكليزي وعملت على إتمام أهدافها.
    طرد الجيش المصري من السودان:
    طرد الإنكليز الجيش المصري من السودان وأرغمت مصر على دفع النفقات العسكرية لعودة الجيش من السودان إلا أن الزعيم المصري (سعد زغلول) لم يقبل بذلك فقدم استقالته احتجاجاً على التصرف البريطاني وعلى إثر الاستقالة تألفت وزارة جديدة برئاسة (زيور باشا) الذي قبل وقبلت معه حكومته هذا الطرد بعدها أصدرت الحكومة المصرية المعينة من قبل الإنكليز أمراً بعودة القوات المصرية إلى البلاد، وفعلاً تمت إعادة الجيش المصري للبلاد، وقد ادعى البريطانيون أن السودانيين أبدوا ارتياحهم ورضاهم للوضع الجديد الذي أوجدوه، لكنه ثبت عكس ذلك فقد تمرد الجيش السوداني ورفض الوجود البريطاني، وفي ما يلي أورد الرواية التالية للدلالة على أن الدم العربي لا يمكن أن ينفصل وأن يتلاشى مهما طغت وتجبرت القوى الاستعمارية ومهما رضخ البعض:
    اللورد اللنبي:
    في السادس من شهر كانون الثاني عام 1924 أرسل اللورد (اللنبي) إلى السير (أوستين شمبرلين) التقرير التالي:
    في يوم الثلاثاء 27 تشرين الثاني /نوفمبر/ من عام 1924 وأثناء القيام بعملي في مكتبي بوزارة الحربية، وصل في الساعة الرابعة والنصف من بعد الظهر المستر (كيرلس) المفتش في الخرطوم وأبلغني أن ضابطاً من الكتيبة الحادية عشرة السودانية هددني بمسدسه، فاعترتني دهشة بالغة جعلتني أكاد لا أتصرف، فتوجهت لمكتب المركز لمقابلة الكولونيل (ماك كوان) وفي أثناء الحديث جاءني أحد رجال المكتب السوداني القدامى وقال لي وقد بدت عليه علامات الانفعال، إنه رأى قوميين من الكتيبة الحادية عشرة السودانية متوجهين بسرعة نحو المعسكرات البريطانية، فخرج الكولونيل (كوان) على الفور بسيارته ليرى ماذا يجري، بعدها ذهب إلى المكان الذي به كتيبة المستر (ليستر) فقلت لهم أن يعطوا إشارات الإنذار والوقوف على أهبة الاستعداد وتنبيه الكتيبة الأخرى، كتيبة /اركليز/ للقيام بنفس الاحتياط... في الساعة الخامسة من بعد الظهر، عاد الكولونيل (كوان) وأخبرني أن جزءاً من المتمردين بمدافعهم الرشاشة قد أوقف في مواجهة الشرف في شارع الخديوي بجانب المستشفى العسكري المصري... تركت الكولونيل (كوان) وتوجهت بسيارتي لمقابلة الضابط المتولي قيادة الأركيلز (الميجور كوير)... أبلغته الحالة.
    وأمرته بأن يعزز موقفه بكافة المدافع وعددها /6/ فلما أتم استعداده ذهبنا معاً في الطريق وصلت إلى الخطّ الفاصل وقلت لهم /يقصد للسودانيين/ إني السردار، أطيعوا الأوامر؟
    رفض /السودانيون/ وعدت إلى الميجر (ماجركوير) وطلبت منه أن يفتح النار بكل المدافع، رد السودانيون علينا النار بالنار... لم تقع بيننا إصابات...
    وفي الصباح تقدمنا من جديد غير متوقعين معارضة جدية، إذ كنا نعتقد أنهم قد هزموا، ولكن عندما قربنا من المبنى الطبي قوبلنا من جديد بضرب شديد وأثناء الضرب وصلت المدافع... فتحنا النار على الجانب الشمالي الشرقي من المنطقة... لكن الرجال السودانيين ظلوا صامدين حتى النهاية.
    حاولت الكتيبتان /لستر/ و /اركل/ اقتحام المنازل المتحصن فيها السودانيون فردوا في كل مرة على أعقابهم بخسائر... حاصرنا مبنى كان فيه السودانيون وأطلقنا عليهم /40/ طلقة مدفع... اعتقدنا أنهم قد ماتوا ولم يبق منهم أحدٌ حياً.
    ولكننا أخطأنا التقدير وحصلت معركة كبيرة لمدة ساعات طويلة ولما اقتحمنا المنزل - أخرجنا من بين الأنقاض أجساد ضابط وأربعة عشر جندياً سودانياً.
    إن أولئك الرجال السودانيين قاوموا مقاومة جبارة حتى بدا مستحيلا أن ينجو أحد من الموت المحتم( ).
    ما الهدف من وراء إبعاد الجيش المصري إلى مصر وضرب الجيش السوداني؟
    الهدف واضح ولا يحتاج إلى كثير من التفسير والشرح.
    الهدف هو إبعاد السودان، خاصة الجنوب، عن مصر، وقد ادعى البريطانيون أنهم يعملون لحماية القبائل الجنوبية /وهذا عكس ما كان يفعله البريطانيون/ من التأثير الثقافي السوداني وقد أوصل البريطانيون إلى الحكومة السودانية طلبهم بأن عليها أن تحكم جنوب السودان بشكل منفصل عن الشمال، ثم اقترحت الحكومة البريطانية على الحكومة السودانية إمكانية قطع الجزء الجنوبي وضمه إلى بعض أجزاء المناطق التابعة للمستعمرات البريطانية في شرق أو وسط أفريقيا.
    كما اقترح البريطانيون في مذكرة مكتوبة سلمها سكرتير التعليم والصحة إلى السكرتير المدني الآتي:
    «السياسة البريطانية في الجنوب يجب أن تهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال بهدف خلق مجموعتين عرقيتين لكل منهما خصائص مختلفة وتطلعات مختلفة أيضاً» وبعد فترة سلمت مذكرة ثانية تحوي نفس العبارات ثم جاءت المذكرة الثالثة للحكومة البريطانية تقول المذكرة الآتي:
    أ - يجب ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال على خط يسير من الشرق إلى الغرب ويتبع نهري /بارو/ و /سوباط/ والنيل الأبيض وبحر الغزال.
    ب - بدأت الحكومة البريطانية تنفيذ ما تريده عن طريق ضغطها على الحكومة السودانية التي استجابت لها.
    وفي عام 1920 وإلى عام 1930 وخلال هذه الأعوام العشرة بدأت الحكومة بأخذ الخطوات التالية في الجنوب من أجل قطعه وضمه إلى مستعمراتها ثم بدأت بأخذ الخطوات في الجنوب وفق الترتيب الآتي:
    أ - كان حكام الجنوب وعددهم ثلاثة أشخاص أي لكل إقليم حاكم يحضرون اجتماعات الحكام التسعة في الشمال، إلا أن الحاكم العام البريطاني طلب منهم عدم الذهاب إلى الخرطوم لحضور الاجتماعات، وأن عليهم أن يقيموا اجتماعاتهم في الجنوب وأن يلتقوا نظراءهم في كل من يوغندة وكينيا، وبرر الحاكم العام البريطاني خطواته هذه بقوله:
    «أن خطوته هذه بُنيت على أساس طبيعي وديمقراطي ولكون المحافظات الثلاثة قريبة من الدول التي عنيناها؟!.
    والحقيقة أن خطوة الحاكم الإنكليزي هي بهذا الخصوص: عزل أبناء البلد الواحد عن بعضهم البعض تقديماً للانفصال المؤجل».
    ب - في العام نفسه أي عام 1922 صدر قانون استخراج جوازات السفر وتوابعه وكان الغرض من ذلك تقوية مركز وقوة الحاكم العام مما يمكنه من إعلان أي منطقة أو جزء من الجنوب منطقة مغلقة أمام كافة السودانيين أو غير السودانيين، كما فوض البند الـ /22/ من القانون بقفل أي جزء من جنوب السودان أمام التجارة، وكذلك فوض البند الـ /28/ الحاكم العام الإنكليزي منع العمال وفي أي جزء من السودان من العمل داخل السودان وخارجه إلا بموجب تصريح ممهور بتوقيع الحاكم الإنكليزي العام؟.
    ت - أصدر الحاكم العام قانوناً تحت اسم قانون «المناطق المغلقة» وبموجبه أعلن كلاً من المناطق التالية مناطق مغلقة، وكذلك سمح الحاكم بدخول هذه المناطق للسودانيين الذين يحملون أذوناً مدونة من الحاكم أو السكرتير المدني أو من حاكم المحافظة:
    1 - دارفور ـ
    2 - الاستوائية ـ
    3 - بحر الغزال ـ
    4 - أعالي النيل ـ
    5 - جزء من شمال كردفان ـ
    6 - قيسان - قيسان ـ
    7 - كسلا ـ
    ث - في عام 1921 قررت الحكومة دعم الإرساليات الفرنجية في الجنوب إذ قرر الحاكم العام أن تأخذ الحكومة مسؤولية التنظيم والإشراف على الإرسالية وقد منحت الحكومة المال اللازم لهذه الإرساليات وتم صرف المال لهم وبعد 6 سنوات صادقت الحكومة على قانون منح المال للإرساليات.
    ج - شدد القانون الذي صدر عام /1925/ على عدم السماح لغير الجنوبيين بالتجارة كما منع التجار الشماليين من ممارسة التجارة إلا بعد موافقة الحاكم العام.
    عند قراءتنا وتمعننا لهذه الفقرات نجد أن البريطانيين كانوا يستعدون لفصل الجنوب عن الشمال وهناك من يقول أن السلطات البريطانية لم يكن لها تفكير ثابت حول الفصل وكانوا يقولون أيضاً أن الأفكار السائدة في السنوات الأولى من الحكم البريطاني للجنوب كانت غير واضحة! والحقيقة هي أن البريطانيين كانوا يعملون وبتنسيق كبير فيما بينهم، لأنهم كانوا خائفين من انتشار الثقافة السودانية الوطنية، لأن انتشارها كان من الممكن أن يهدد الوجود البريطاني لذلك عملوا على إنهاء الوجود العربي المتمثل في اللغة والثقافة العربية، أما انتشار الدين /الفرنجي/ فهو أمر عادي ولا يهدد الوجود البريطاني بل يزيد في إرسائه وبهذا الخصوص قال الحاكم العام الإنكليزي للسودان الآتي: إذا ما اقتنع الزنجي بتعاليم الدين /الفرنجي/ فإنه سيتحول إلى وغد زنديق وعاطل وسفيه ماكر؟!
    لقد أريد للجنوب أن يكون قاعدة استعمارية غربية دينية متهودة، حتى يصد انتشار العقيدة والثقافة الإسلامية فيه وفي الدول التي تجاوره.
    وبهذا الخصوص كتب اللورد (كتشنر) عام 1882 قائلاً:
    ليس من شك في أن الدين الإسلامي يلقى ترحيباً حاراً في هذه البلاد /ويقصد طبعاً الجنوب السوداني/ فإذا لم تقبض القوى النصرانية على ناحية الأمر في أفريقيا فأعتقد أن العرب سيحظون حظوة كبيرة في هذه البلاد وسيصبح لهم مركز في وسط القارة يستطيعون منه طرد كافة التأثيرات الحضارية إلى الساحل وستقع هذه البلاد تحت العبودية.
    النبي الزائف!
    في عام 1909 قال القس (أرشيدكون شو) التالي عن القبائل الإفريقية: إن لم تتغير هذه القبائل السوداء في الأيام القليلة القادمة /يقصد بالتغيير التبدل الديني/ فإنهم سيصيرون /محمديين/ فهذه المنطقة منطقة استراتيجية لأغراض التبشير، إنها تمتد في عمق أفريقيا وهي منتصف الطريق بين القاهرة والكاب ثم يتابع قوله، أن الكنيسة في حاجة لإيوائها لصد انتشار الإسلام والقضاء على تعاليم النبي /الزائف/؟؟!! وبعد حوالي /100/ عامٍ تأتي صور الدانمارك الكاريكاتيرية لتثبت أن الفكر والمنهج الغربي المتصهين لا يتغير.
    بعد ذلك جاءت وصية مؤتمر /ادنبره/ التنصيري عام 1910 وأهم ما جاء في هذا المؤتمر الوثيقة التي تقول:
    إذا كانت أفريقيا ستكسب لمصلحة المسيح يجب أن تقوم قوة تنصيرية قوية في قلب أفريقيا لمنع تقدم الإسلام؟ وعلى أثر ذلك بدأت الإرساليات عملها خوفاً من التغلغل الإسلامي المتزايد ثم عمدت هذه الإرساليات إلى استخدام نفوذها لفصل الجنوب.
    إن الانفصال قضية وطنية معقدة وأي خيار فيها لـه خسائره الكبيرة لكن الأمر الوحيد الذي يجب أن ندركه جيداً هو أن هذه القوى الغربية المتصهينة تعمل على عدم تمكن الإسلام من التغلغل في الجنوب والمناداة بضرورة إيجاد سودان خالٍ من العروبة بشكل عام والجنوب بشكل خاص وهذا هو مطلب المتمردين الذين يقف وراءهم الفرنجة.
    وهذا هو السبب الرئيسي للغزو والاحتلال الإنكليزي للسودان وهو بداية التغيير في تاريخ جنوب البلاد هذا الغزو الذي أقام حكماً ثنائياً والحقيقة هو حكم أحادي إنكليزي ديني وكلنا يعرف ذلك، المهم أن الحكم هذا مهّد الطريق للدول الغربية للدخول إلى الجنوب كذلك سعى الحكم الإنكليزي الاستعماري لمحاربة انتشار الثقافة واللغة العربية وكان واضحاً أن هذا العمل يهدف إلى فصل الجنوب عن الشمال وذلك عبر إيهام الجنوبيين بأنهم مظلومون ومضطهدون من قبل الشماليين العرب، وقد وضعت سياسات عديدة لبث التفرقة وفصل الجنوب عن الشمال ومن بين هذه السياسات الظالمة التي وضعها الفرنجة ونفذتها دوائره: عام 1922 صدر قانون بجعل جنوب السودان منطقة مقفولة.
    س : ما القصد من ذلك؟
    ج - منع قدوم الجنوبيين إلى شمال البلاد خوفاً من تعلمهم اللغة العربية واعتناقهم للعقيدة الإسلامية كذلك أنشأت الإدارة الإنكليزية جيشاً محلياً مكوناً من أبناء الجنوب فقط وهذا الجيش يرأسه ويقوده ضباط إنكليز.
    والنتيجة الطبيعية لتولي الإنكليز إدارة الجنوب أن تقوم الإرساليات التبشيرية الأوربية والأمريكية بتنصير الجنوبيين عبر الترغيب والترهيب، وهذا ما أدى إلى إضعاف التطور الاقتصادي في الجنوب، وأدى كذلك إلى التخلف وعدم مواكبة التطور في شمال البلاد وهذه سياسة من السياسات التي وضعتها ونفذتها الدوائر الاستعمارية الإنكليزية.
    في عام 1938 حاول مؤتمر الخريجين السودانيين إيجاد صلة مع الجنوبيين بعد أن أثار قانون المناطق الجنوبية المقفولة الكثير من الشكوك، فأرسل المؤتمرون بعثة وطنية أصيلة إلى الجنوب لإلقاء ما أثاره القانون الإنكليزي، لكن دون جدوى وفي عام 1942 رفضت مذكرة من قبل الخريجين إلى الحاكم الإنكليزي يطلبون فيها إلغاء ذلك القانون، وفي عام 1944 تم تكوين المجلس الاستشاري في الجنوب إلا أن الأحزاب الشمالية قاطعته ولم تعترف به ثم أنشأت الجمعية التشريعية بديلاً للمجلس الاستشاري، ونتيجة لمعارضة الوطنيين لما وضعه الجنوبيون المتفرنجون فقد عارض الإداريون الجنوبيون مؤتمر /إداريي/ الذي دعا إلى الوحدة بين الجنوب والشمال.
    وفي عام /1947/ انعقد مؤتمر /جوبا/( ) وفيه اعترف الجانبان بضرورة الوحدة بين الشمال والجنوب وقد مهد هذا المؤتمر لاشتراك الجنوبيين في الجمعية التشريعية وتوحيد السياسة التعليمية وكذلك إدخال اللغة العربية إلى مدارس الجنوب، هذه السياسة بالإضافة إلى خطط التنمية الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية أدت إلى نوع من التعاون والالتصاق والوفاق بين شطري البلاد، لم يرق هذا الأمر للبريطانيين فعمدوا إلى إثارة الفتن بين أبناء البلد الواحد.


  14. #14
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اللورد بالمرستون
    وعندما نعود إلى عام 1851 وإلى كتاب اللورد (بالمرستون) الذي تضمن البحث عن إمكانية تحويل مجرى النيل كي يمنع ري الأراضي المصرية نعرف سبب السياسة البريطانية تجاه العرب وخاصة في السودان.
    قال اللورد (بالمرستون) حول ذلك الآتي:
    إن السيطرة على النيل مشكلة معقدة كثيراً، ونهر النيل يستمد مياهه من النيل الأزرق الذي ينبع من منطقة بحر دار في الحبشة كما أن النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة لا يوفر إلا كميات قليلة من المياه.
    إن تحويل مجرى النيل الذي اقترحه (سالزبوري) كان يهدف إلى موت الشعب المصري، إن وجود الشعب المصري مرتبط بالنيل والنيل يعني وجود الشعب السوداني ولهذا فإن الشعبين المصري والسوداني مرتبطان ارتباط الروح والجسد.
    ومن يسيطر على النيل يمسك بقبضته مصير الشعبين ونتيجة لذلك تحولت مسألة السيطرة على وادي النيل إلى هدف أساسي من الأهداف الإنكليزية والغربية، وبهذا الخصوص كتب (سالزبوري) إلى (بارنغ) عام 1891 ما يلي:
    - لقد اتفقنا على أن نعمل للسيطرة على كل روافد النيل التي تقع في دائرة نفوذ الممتلكات المصرية..؟!
    نعم الهدف هو النيل لأن المياه تكمن فيه، إنني آسف للظروف التي ساعدت المستعمرين على غزو واحتلال السودان فقد أعلن اللورد الكنسي (سالزبوري) اجتياح السودان في 12/3/1896 ومثل ما فعل المستعمر (سالزبوري) فعل (بوش وبلير) وقاما بغزو العراق من أجل النفط والماء وضرب الإنسان العراقي أيضاً؟![/size]


    يتبع


  15. #15
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اللورد بالمرستون
    وعندما نعود إلى عام 1851 وإلى كتاب اللورد (بالمرستون) الذي تضمن البحث عن إمكانية تحويل مجرى النيل كي يمنع ري الأراضي المصرية نعرف سبب السياسة البريطانية تجاه العرب وخاصة في السودان.
    قال اللورد (بالمرستون) حول ذلك الآتي:
    إن السيطرة على النيل مشكلة معقدة كثيراً، ونهر النيل يستمد مياهه من النيل الأزرق الذي ينبع من منطقة بحر دار في الحبشة كما أن النيل الأبيض الذي ينبع من يوغندة لا يوفر إلا كميات قليلة من المياه.
    إن تحويل مجرى النيل الذي اقترحه (سالزبوري) كان يهدف إلى موت الشعب المصري، إن وجود الشعب المصري مرتبط بالنيل والنيل يعني وجود الشعب السوداني ولهذا فإن الشعبين المصري والسوداني مرتبطان ارتباط الروح والجسد.
    ومن يسيطر على النيل يمسك بقبضته مصير الشعبين ونتيجة لذلك تحولت مسألة السيطرة على وادي النيل إلى هدف أساسي من الأهداف الإنكليزية والغربية، وبهذا الخصوص كتب (سالزبوري) إلى (بارنغ) عام 1891 ما يلي:
    - لقد اتفقنا على أن نعمل للسيطرة على كل روافد النيل التي تقع في دائرة نفوذ الممتلكات المصرية..؟!
    نعم الهدف هو النيل لأن المياه تكمن فيه، إنني آسف للظروف التي ساعدت المستعمرين على غزو واحتلال السودان فقد أعلن اللورد الكنسي (سالزبوري) اجتياح السودان في 12/3/1896 ومثل ما فعل المستعمر (سالزبوري) فعل (بوش وبلير) وقاما بغزو العراق من أجل النفط والماء وضرب الإنسان العراقي أيضاً؟![/size]


    يتبع


  16. #16
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثاني
    اندفاع الأوروبيين
    اندفعت الدول الأوربية الاستعمارية لاحتلال أفريقيا، وأخذت تتنافس على ذلك، ولكن كان قد أصابهم الخوف عندما أرسل خديوي مصر (إسماعيل) عام /1869/ البعثة المصرية إلى السودان، وعندما تمكن الإنكليز من الاستيلاء على مصر وحصل التدخل الرابع من قبل الإنكليز والأوروبيين في الجنوب السوداني ولا سيما في الناحيتين الدينية والاقتصادية، ثم جاء تعيين الجنرال (غوردون) حاكماً للجنوب السوداني الذي أخذ يعمل على تشجيع الإرساليات، وحيث وجه أمراً في عام /1871/ يدعو فيه إلى اتحاد الإرساليات الإنكليزية، ويدعوها إلى العمل تحت إمرته.
    ولقد عانى الكثير من أفراد الإرساليات أثناء وجودهم في مناطق السودان وذلك بسبب الظروف السيئة والمناخ، ولقد هلك قسم كبير منهم، ممّا دفع الطليان لإغلاق مراكز البعثات نهائياً في عام /1862/، ولقد قامت الإرساليات بإرسال بعض الطلاب إلى إنكلترا ليساهموا في نقل التعاليم الفرنجية من اللغة الإنكليزية إلى اللهجة /الدينكاوية/، ولقد نشرت هذه التعاليم الدينية في عام /1866/.
    الرقيق:
    عند دخول الجيش /الإنكليزي المصري/ إلى السودان سنة /1898/ أثار خلافاً حاداً بين إنكلترا وفرنسا، وكاد هذا الخلاف أن يؤدي إلى نشوب حرب بينهما، فقد زحفت فصائل الجيش الفرنسي بقيادة (مارشان) واحتلت منطقة /فاشوده/، وبعد عدة أسابيع وصل الجنرال (كتشنر) إلى قرب منطقة /فاشوده/، أبلغ (مارشان) وقال لـه بأنَّ وجود جيش في هذه المنطقة أي /فاشوده/ يعتبر اعتداءً سافراً على حقوق بريطانيا ومصر، وعندما أدرك الفرنسيون أنَّ الإنكليز جادون في كلامهم هذا، انسحبوا من المنطقة تفادياً لوقوع الحرب بينهم وبين الإنكليز والمصريين، وكان ذلك في كانون الأول عام /1898/ وبذلك دخلت السودان في مضمار السياسة العالمية، نظراً لوجود نهر النيل الأبيض الذي يعتبر الطريق الوحيد الذي يربط السودان بطرفي أفريقيا، وهناك جانب آخر هو أن مياه النيل الأبيض لها أثر كبير على مصر حاضراً ومستقبلاً، فقد كان الإنكليز حاضرين لهذا الأمر بعكس العرب الذين كانوا غائبين أو مغيبين؟
    وفي عام /1900/ شرع الإنكليز في إيجاد قوى عسكرية، وذلك بإنشاء حاميات يشرف عليها الضباط الإنكليز، وتمَّ التواجد الإنكليزي، واختلط الإنكليز مع المواطنين إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أن يجذبوا أو يكسبوا ثقة وولاء الناس لـهم، فعمدوا كعادتهم إلى إغراء الناس هناك بالهدايا تارة، وترهيبهم بالقوة تارة أخرى، ثم عمد الإنكليز إلى إثارة الفتن والأحقاد بين المواطنين ثم بين القبائل، وقوبل ذلك بتمرد القبائل على الإنكليز الذين عملوا بدورهم بقوة من أجل إخماد كل تحرك وطني معادٍ لهم.
    وفي عام /1902/ قام الإنكليز بشن حملة عسكرية على قبيلة (النوير) وعلى رئيسها المدعو (موت ونج)، وتتابعت الحملات على هذه القبيلة سنوات عديدة بدءاً من عام /1910/ إلى /1928/ كانت تتخللها سنوات توقف أو مهادنة إلاَّ أنَّ هذه القبيلة الجسورة لم تخضع للإنكليز إلاَّ في عام /1930/.
    بعد ذلك أرسلت حملات عسكرية إلى أعالي النيل للقضاء على تلك القبائل المتقاتلة فيما بينها، لقد كانت لهذا القتال آثار سلبية على مجالات عديدة منها المجال الاقتصادي حيث أدى إلى إصابته بالشلل، إضافة إلى تعميق التباعد بين الشمال والجنوب، والأمر الأهم هو تمركز السلطات في أيدي الإنكليز الذين كانوا يعملون وفق مبدأ «فرِّق تسد»، وإنْ سَمح الإنكليز للمواطنين الجنوبيين بالعمل والحكم وفق عرفهم، إلاَّ أنهم كانوا هم الفاعلين الحقيقيين ولكن بالخفاء فلقد عمل الإنكليز على تقويض سلطة زعماء ورؤساء العشائر وذلك تحت ستار فض المنازعات القبلية.
    علمنا التاريخ أنَّ الأوروبيين وتحديداً الإنكليز هم من الأوائل الذين مارسوا تجارة الرق، ولكنهم كانوا يشيرون بأصابع الاتهام للعرب والمسلمين، إلا أننا سوف نبرهن على أن هؤلاء الفرنجة هم الذين مارسوا تجارة الرق وذلك من المثال التالي والذي تخاطب به إحدى البعثات التبشيرية في /كينيا/ أحد السودانيين الجنوبيين المتنفذين:
    «إنَّ أكثرية السكان الأفريقيين من حولنا مسلمون وينتهجون الثقافة العربية، وكلما وقعت عيناي عليهم عادت بي الأفكار والذكريات دائماً إلى قصة تجارة الرقيق، تلك القصة الدامية في جنوب السودان، ذلك أنَّ قادة حملات الرقيق كانوا جميعاً من المسلمين، فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب فيضم تجار الرقيق بين جوانبه».
    انتهى مثال ممثل البعثة التبشيرية في /كينيا/ ليبدأ كلام ممثل بريطانيا في مجلس الأمن (الإسكندر كاودجان) الذي تحدث إلى أعضاء المجلس المذكور لافتاً انتباههم إلى أن الجنوبيين النصارى كانوا إلى وقت احتلالنا للسودان، عرضة لغارات المسلمين العرب، وأخذهم أرقاء»، ويقصد هنا: السودانيين الشماليين؟!
    هذه الأقوال الصادرة من رجل دين ورجل سياسة تحمل في معانيها الكثير الكثير ضد السودانيين الوطنيين، وما قاله المبشر الديني: «فيا لها من قصة بشعة دامية لذلك الدين الذي لا يراعي حسن السلوك والآداب»؟! هذه الأقوال هي ما يجيش في صدور الفرنجة من كره وحقد على العرب والمسلمين.


  17. #17
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الفصل الثالث
    سياسة الحكومة الإنكليزية
    عملت السياسة الإنكليزية وما زالت على بث الشقاق بين أهل البلد الواحد، ولذلك حاول الإنكليز إقناع المواطنين بأن وجودهم هو خدمة للناس..؟!! حسب ادعائهم؟!
    وفي شهر شباط من عام /1899/ طالب السير (جون كناواي) البرلمان الإنكليزي بدعوة إنكلترا إلى دعم ومساندة النشاط التبشيري الكنسي في السودان وخاصة الجنوب، هنا سارعت الإرساليات وطلبت من الحكومة إبعاد الدين الإسلامي من كافة أنحاء الجنوب، وما كان من الحكومة الإنكليزية إلاَّ أن استجابت لهذا الطلب؟!
    وقسم الجنوب إلى عدة أقسام، بحيث يتبع كل قسم بعثة تبشيرية معينة.
    وقد كتب (واطسن) في هذا الخصوص مقالاً بمجلة البعثات، قال فيه: «مما لا ريب فيه، أنَّ سياسة حكومة السودان تجاه الجنوب لا تتوافق مع الرأي العام الإنكليزي /النصراني/ حيث أن الأعمال كلها تعطل يوم الجمعة( ) وتعمل السبت والأحد»؟! بعد ذلك كتب أحد القساوسة من البعثات التبشيرية في الجنوب الآتي:
    «إنَّ زنوج جنوب السودان لا يعتبرون مسلمين، كما ليس لهم دافع لاعتناق الدين الإسلامي، وإنَّ القلة القليلة منهم هي التي اعتنقت الإسلام فهذا الدين يتسامح أخلاقياً، ويؤمن بتعدد الزوجات والصاحبات، ويؤمن سرعة إجراءات الطلاق، كما يوافق عواطف ومزاج الزنجي، مثلما يوافق كل الشعوب والأمم الهمجية وغير المتحضرة»؟! تحت هذه الضغوط تحول جنوب السودان إلى أرض خصبة لعداء العرب وثقافتهم وبعد ذلك طلب الإنكليزي (ونجت) من مسؤول منطقة بحر الغزال عدم تدريس اللغة العربية في المنطقة مدعياً بأنَّها ليست لغة القبائل هذا أولاً، وثانياً لأنَّ اللغة العربية تحتوي على جمل وعبارات عن الرسول، وثالثاً لعدم وجود رغبة في نشر الدين الإسلامي بين القبائل الوثنية من قبل (ونجت)؟! ورابعاً - يجب جعل اللغة الإنكليزية لغة التعليم؟ وخامساً - يجب نشر اللغة الإنكليزية بين كافة القبائل.
    هذا هو الخطاب الذي أرسله (ونجت) إلى حاكم منطقة بحر الغزال، ولكن كل هذه التعليمات والأوامر لم تؤدِّ إلى اختفاء أو إخفاق اللغة العربية، حيث بقيت وسيلة التفاهم بين كافة قبائل الجنوب.
    وفي عام /1910/ صدر قرار من البعثة الرومانية، ومن جمعية الكنائس بأن تُعطى الوظائف الحكومية لمن درسوا باللغة الإنكليزية، وكانت الحكومة الإنكليزية تشجع وتطلب المخاطبة باللغة الإنكليزية، وتكثر من استخدامها في المصالح الرسمية والوطنية، وحتى يصبح الأمل حقيقة عملت الدوائر الإنكليزية على تنفيذ رغبتها تلك دون أي ضجيج.
    وكان اتخاذ قرار محاربة اللغة العربية الذي صاغته البعثات التبشيرية الفرنجية وعملت به الدوائر الإنكليزية، نابعاً من الخوف من انتشار الإسلام في الجنوب السوداني خاصة والقارة الأفريقية عامة وللتأكيد على ذلك تم عقد مؤتمر دولي عام /1910/ في مدينة /ادنبرة/ بإنكلترا يبحث في شؤون البعثات التبشيرية، ولقد اتخذ المؤتمر عدة قرارات كان أهمها التسابق مع الإسلام المنتشر في أفريقيا لتحقيق الفوز عليه ولذلك لابد من إعطاء واجبات ذات أهمية تنصيرية كبرى تنفذ من قبل بعثات التبشير الموجودة في القارة الأفريقية.
    العمل التربوي:
    بدأ العمل التربوي الفعلي في الجنوب فقد قام آباء /فيرونا/ بإنشاء مدرستين الأولى في /ديتول ولول/ الواقعة في منطقة أعالي النيل عام 1901، والثانية في /واودكايانجو/ بمديرية بحر الغزال عام 1905 ثم في عام /1913/ وبعد ثماني سنوات أنشئت عدة مدارس في المنطقة الاستوائية ثم تبعها إنشاء عدة مدارس أخرى مولتها البعثات التبشيرية الأمريكية التي بدأت أعمالها في أعالي النيل( )، وكانت تعلم تلاميذ هذه المدارس القراءة وتعمل على نقل التعاليم الدينية الفرنجية إلى اللهجات المحلية، وتخرج في هذه المدارس الكثير من التلاميذ الذين /تفرنجوا/ فيما بعد، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فأوقفت تقدم التعليم لأنَّ أغلب المبشرين كانوا إيطاليين وألمانيين ونمساويين، فخاف أن يتحول هؤلاء المبشرون إلى أداة ضد بريطانيا، واتخذت الحكومة إجراءاتها في هذا الخصوص وقالت: من غير المرغوب فيه السماح لبعثات التبشير النمساوية والألمانية بمزاولة واستمرار نشاطها في الجنوب، وبعدها قامت لجنة الحكومة بطرد كل الإرساليات المذكورة من الجنوب، وأغلقت معظم مدارس آباء /فيرونا/، وهيمنت بعد ذلك البعثات التبشيرية الإنكليزية والعاملة تحت لوائها على الساحة السودانية، بينما كان التعليم في شمال السودان مقتصراً على إمداد الحكومة بالكوادر والموظفين، أخذ التعليم في الجنوب منحى آخر، أي اتجه إلى نشر التعاليم الدينية الفرنجية والحدِّ من انتشار الإسلام ويهدف هذا إلى غرس بذور الانفصال والتي بدأت منذ زمن بعيد، أي منذ دخول المبشرين الفرنجة، إلاَّ أنها نبتت وحُصِدت ثمارها بعد الحرب العالمية الأولى، وكان نضوج بذور الانفصال في عام /1924/ ولقد كان الحكام الإنكليز والمبشرون هم من أوجدها، وربَّ قائل بأنَّ هناك عوامل داخلية أيضاً ساهمت في رعايتها، إلاَّ أن هذه الأسباب الداخلية إنْ وجدت فهي من صنع خارجي، فسياسة الفصل ما هي إلاَّ سياسة استعمارية لفصل الجنوب وتمزيقه حسب المصالح الأمريكية الأوروبية الطامعة في ثروات وخيرات السودان.
    ولقد نضج وصدر القرار الرسمي للفصل في عام /1920/ وبعد أكثر من /83/ عاماً على صدور هذا القرار، نجد أن كثيراً من محاولات الفصل تجري ليلاً نهاراً وعلى قدم وساق، لم تتغير هذه السياسة بل استمرت وتزايدت وتيرتها.
    وبعد /83/ ثلاثة وثمانين عاماً يصرح السيد (بونا ملوال) وزير الإعلام السوداني الأسبق قائلاً: العرب لا يعرفون السودان؟ إنهم يتحدثون عن السودان العربي المسلم، وعن وحدة التراب السوداني، وكأن الجنوب بلا بشر إنهم يخشون مسألة مبدأ تقرير المصير، وخشيتهم أن يفضي الاستفتاء - في حالة الوصول إلى اتفاق سلام - إلى انفصال... وقلنا إنه بوجود الإدارة البريطانية كنا مواطنين من درجة ثانية، ولكن بعد الاستقلال أصبحنا مواطنين من درجة رابعة، فالعربي درجة أولى، والجنسيات الأخرى درجة ثالثة، والجنوبي درجة رابعة، إذاً، لابد للجنوب أن ينفصل؟ ومما أخشاه أن تؤدي اتفاقية السلام إلى تقطيع السودان وفصل الجنوب عن الشمال... هذا أولاً، وثانياً تأتي بقية الأقاليم /الغرب/ و /الشرق/...


  18. #18
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الباب الرابع
    الجنوب من عام 1930 إلى 1945
    قام الإنكليز في مناطق الجنوب بتشجيع التجار الشماليين على مغادرته، ومن كان يرفض المغادرة طوعاً، يتعرض لأنواع عديدة من المضايقة مما يضطره في النهاية إلى المغادرة، وما يؤكد ذلك رسالة مسؤول منطقة بحر الغزال إلى السكرتير الإداري، والتي جاء فيها:1 - هناك عدد كبير من التجار الشماليين في المنطقة، وخاصة بمدن (واو) و (اويل) و (راجا) و (كافي كنجي) و (مبيك).
    2 - إنَّ رُخَصَ بعض التجار على وشك الانتهاء، بسبب سوء سلوكهم؟!
    وإنني أعتقد أنَّ من الضروري اتخاذ إجراءات مشددة أكثر من أن نقوم بتخفيض عدد تجار الشمال فحسب؟.
    ولقد سبق وأن تقدمت باقتراحات بشأن التجار المقيمين (براجا)
    و(كافي كنجي).
    وأما بالنسبة للمدن الأخرى في المنطقة، فإنِّي أقترح بأن أمنح كل تاجر شمالي إنذاراً لمغادرة الجنوب خلال خمس سنوات على الأكثر.
    3 - إنَّ معظم التجارة بأيدي الشماليين في هذه المديرية! فليس هناك في (روبيك) مثلاً تجار من الإغريق أو السوريين، وأولئك التجار كقاعدة عامة أكثر نشاطاً وتجارتهم أكثر ازدهاراً من غيرهم، فإذا أبعدوا دفعة واحدة فلن نجد من أبناء الجنوب من يحلّ محلهم؟
    وإبعاد مثل هؤلاء سيكون مفيداً من ناحية السياسة حيال الجنوب، وإضافة لكونه لن يكون ضاراً بالتجارة بأي حال من الأحوال.
    هذا بعض ما جاء في رسالة مدير بحر الغزال الإنكليزي إلى المسؤول الإداري، فماذا كان رد المسؤول الإنكليزي عليها:«إن إبعاد تجار الشمال يجب أن يكون تدريجياً، بل يتعين أن تبذل عناية خاصة بشأن ذلك في كل حالة على حده، حتى أنَّه إذا ما طلب منا توضيح الأمر، فإنه ينبغي أن نكون في وضع يسمح لنا بالرد الشافي على أي شكاوي أو تحقيقات من الجهات المعنية هنا».
    - من هي الجهات المعنية المقصودة في كلام المسؤول الإنكليزي؟
    - هي الشركات الوطنية السودانية في كل من الخرطوم وأم درمان، حيث أن معظم التجار الذين يقطنون في الجنوب هم وكلاء عنها.
    ثم كتب مسؤول (بحر الغزال) إلى مفتش مركز (راجا) ما هو آتٍ:
    1- لا أعتقد أنَّ الظروف التي ذكرها السكرتير الإداري قد تسبب لنا قلقاً، ولكن يجب علينا أن نعمل بحذر.
    2- إنني أعتقد أنه من الأفضل أن نقابل كل تاجر على حده، ونسأله عما إذا كان يرغب في الرحيل إلى الشمال.
    3- لا يتعين عليك أن تخبر أياً منهم بأنَّ الحكومة ستقوم بدفع تكاليف سفره في حال عدم امتلاكه النقود اللازمة، ولكن إن حدث وأن ذكر أيُّ منهم بأنَّ السبب الوحيد لعدم سفره هو عجزه عن تدبير المال اللازم، فإنه يمكن لك أن تخبره بأنني سأسعى إلى مساعدته.
    4- يجب أن نقدم أسباباً معقولة لترحيل أي تاجر حتى تتسنى لنا الإجابة عن أي شكاوى أو أسئلة في هذا الشأن من الجهات المعنية في الخرطوم.
    5- إنَّ السبب الوحيد الذي يمكن أن نقدمه هو أن التجار قد رغبوا في العودة إلى الشمال لأنَّ أعمالهم لم تعد رابحة، ولقد رغبوا في ذلك منذ أمد بعيد ولكنهم لم يمتلكوا آنذاك إمكانيات السفر، كما أنَّه من المستحسن الحصول على إقرار مكتوب من التاجر بأنَّه موافق على الرحيل إلى الشمال، ويستطيع تسجيل نوع المساعدة التي يحتاجها في هذا الشأن، وإذا كان هناك بعض التجار لا يرغبون في العودة إلى الشمال، ولكنك تعتقد أنَّه يتوجب عليهم الرحيل فإني أرجوكم أن تذكروا أسباباً كافية لذلك، كحاجته إلى بضائع جديدة، أو لكونه لم يعد يمارس أي نوع من الأعمال التجارية فعلاً، أو لأنَّه سيئ السلوك... بعد كلَّ ما تقدم تم ترحيل التجار الشماليين من الجنوب بكل صفاقة وقسوة، وذلك بعد أن سُحِبت منهم رخص التجارة وبكل لؤم.
    وقد تم تقديم عدة اقتراحات لسد الفراغ الناتج عن تسفير التجار التعسفي، ومن هذه المقترحات الآتي:
    1 - قيام البعثات التبشيرية بأعمال التجارة.
    2 - إقامة تنظيمات تقوم على مبدأ الإدارة المحلية تحت إشراف لجنة من موظفي الحكومة والإرساليات، وتمويل بواسطة الحكومة.
    3 - تشجيع التجار الأجانب من البريطانيين واليونانيين والأوروبيين.
    4 - تعيين وكلاء محليين.
    ولكن كل هذه الاقتراحات لم تنفع، وجاء تاجر يوناني، واقترح الآتي: «إنَّ أفضل وسيلة لتشجيع نشوء طبقة تجار سودانيين جنوبيين هي أن يطلب من السلاطين والرؤساء أن يختاروا أشخاصاً موثوقاً بهم، لكي يمدهم التاجر اليوناني بالبضائع بأسعار أدنى من الأسعار التي يبيع بها عادة التاجر السوداني الشمالي، وأن يحث المفتشون السلاطين وزعماء القبائل لضمان أي خسارة ممكن أن تلحق بالتاجر اليوناني».
    بهذا المخطط الإنكليزي تمَّ تفريغ الجنوب من التجار السودانيين العرب ولم يبقَ من أصل /23/ تاجراً سوى /4/ تجار في الجزء الغربي من منطقة /بحر الغزال/، وما إن أطلَّ عام /1933/ حتى كان الجنوب خالياً من التجار الوطنيين، ولم يبقَ في الجنوب غير التجار اليونانيين واليهود، ولقد ترك هذا العمل بصماته السلبية على أبناء الجنوب لسنين طويلة، هذا هو الوجه الأول للسياسة الإنكليزية، أما الوجه الآخر فكان زرع الفتن بين أبناء الجنوب وأبناء الشمال، وخاصة في أماكن الجوار بين القبائل الزنجية والقبائل العربية، ومثالاً على هذا، نجد بعض قبائل الجنوب مثل (الباندا) و(دونجو) و(كريش) و(وتوجيو) و(فيروج) و(نيانجولوجولا) هذه القبائل كانت متأثرة تأثراً كبيراً بالثقافة العربية وحيث كانت على اتصال دائم مع القبائل العربية في كل من /دارفور/ و/كردفان/ هذه القبائل الجنوبية هاجرت إلى مناطق أخرى بعيدة عن القبائل العربية التي كانت تجاورها، أما في بقية مناطق الجنوب فلم يسمح لأي سوداني جنوبي أن يعيش في منطقة تبعد حوالي /20/كم عن منطقته الأصلية.
    وهكذا فرضت الإدارة الإنكليزية سياسة التباعد بين أبناء الوطن الواحد، ولقد أدت هذه السياسة إلى إيجاد مناطق محايدة، تشكل حزاماً يفصل بين قبائل الشمال وقبائل الجنوب، إضافة إلى أعمال الشغب والاعتداء حيث حُرقت المساجد، ودمرت الدكاكين، وامتد التدمير والحرق إلى البيوت وإلى قرى كاملة، كما أُجبرت القبائل المسلمة القادمة من غرب أفريقيا والمستوطنة في الجنوب على مغادرته إلى منطقة /دارفور/ حيث وطنوا هناك كما تم منع مواطني /كردفان/ و/دارفور/ من الدخول والتنقل في منطقة /بحر الغزال/ وكذلك منع مواطني /بحر الغزال/ الدخول والتنقل في منطقتي /دارفور/ و/كردفان/، وكل ذلك تم وفقاً للسياسة البريطانية المرسومة لفصل الجنوب عن الشمال.
    وفي عام /1942/ اجتمع كل من مدير منطقة /دارفور/، ومدير منطقة /بحر الغزال/ واتفق المجتمعون على إصدار جوازات تكون مكتوبة باللغة الإنكليزية، يتم بموجبها دخول الجنوب.
    وكان هدف هذا الإجراء الحدِّ من التواصل بين الشماليين والجنوبيين، الذين هم في الأصل سودانيون.
    ثم قدمت الإدارة البريطانية اقتراحاً آخر ينص على الآتي:1
    -من الأفضل سجن الرعايا الذين يتواجدون بطرق غير مشروعة في منطقة الآخر، على أن تأمر بترحيلهم بعد قضاء فترة العقوبة.
    2- يعتقل كل من وجد في منطقة بحر الغزال إذا لم يملك البطاقة الجديدة التي تم إصدارها من قبل الإدارة الإنكليزية.
    وبذلك قيدت وانحسرت حركة المواطن السوداني الشمالي والجنوبي على السواء؟
    3- نصح الزعماء والرؤساء ونوابهم بتغيير أسمائهم الأصلية العربية إلى أسماء /مفرنجة/.
    4- منع المواطنين الجنوبيين من ارتداء الزي العربي.
    5- إصدار أمر إلى التجار والباعة بعدم بيع أي زي لأبناء الشمال؟!
    - وفي عام /1935/ كتب مسؤول غرب /بحر الغزال/ الأمر التالي إلى ثلاثة من التجار:
    1 - عمانوئيل لارغو لاريس.
    2 - وكيل إخوان بابوليدس.
    3 - وكيل شيخ عامر الطيب.
    ولقد جاء الأمر على الشكل التالي:
    - لقد لاحظت أنَّه خلافاً لأوامري المتكررة، فإنَّه ما زالت تعرض في الأسواق كميات كبيرة من الأزياء العربية؟!
    إنَّ صنع وبيع هذه الملابس أمر محظور...
    يجب أن يتم صنع القمصان القصيرة بياقة مفتوحة من أمام، كما هو الحال بالنسبة للزي الأوروبي... كما يجب عدم بيع /الطواقي/ التي يرتديها العرب، ويجب عدم تفصيل أي ملابس عربية منذ تاريخ هذا الأمر، وإنني أمنحكم مدة سبعة أشهر تمتد من 21/5/1935 إلى 1/1/1936، للتخلص من كل ما هو مجمع في المخازن، وهذا الأمر ينطبق على التجار والوكلاء وأصحاب ماكينات الخياطة أيضاً.
    وممنوع اتباع التقاليد العربية مثل الختان، كما يمنع الزواج ما بين الشماليين والجنوبيين، ويمنع ويستبعد المسلمون من قوات البوليس في الجنوب وعليه يتم نقل كافة الموظفين الشماليين العاملين في الجنوب إلى الشمال كما تم إبعاد كافة الضباط المسلمين الشماليين من الفرقة الاستوائية نهائياً، وتم فتح فصول دراسة لتعليم أفراد البوليس الجنوبيين اللغة الإنكليزية وذلك في كافة أنحاء الجنوب، وكل من كان يجيد الإنكليزية بشكل جيد يكافأ مكافأة ثمينة.


  19. #19
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الحرب ضد اللغة العربية

    أرسل مسؤول منطقة /بحر الغزال الإنكليزي/ رسالة إلى الحاكم البريطاني يقول لـه فيها: «سيدي الحاكم إني أرسل لكم مقترحاتي حول الحد من انتشار الثقافة واللغة العربية، وإذا تم تنفيذ هذه المقترحات نكون قضينا تماماً على الثقافة واللغة العربية، وننشر هنا أهم هذه المقترحات:
    أ - يجب إبعاد كل الناطقين باللغة العربية من منطقة /واو/.
    ب - إغلاق المدارس التي تعطى فيها الدروس باللغة العربية.
    جـ - استبدال اللغة العربية بمجموعة من اللهجات المحلية في /واو/ وعدم تشجيع التخاطب باللغة العربية.
    د - جلب التلاميذ لمدرسة الإرسالية من منطقة /واو/ فقط».
    تقسيم الجنوب:في عام /1937/
    تقرر دمج مديرية الاستوائية وبحر الغزال في مديرية واحدة، وسمّيت بالمنطقة الاستوائية، علماً أنَّ الاستوائية كانت منطقة واحدة تضم المناطق الثلاث ولقد هدف التقسيم إلى تنفيذ السياسة الخاصة بالجنوب وهي العمل على وضع المنطقة بأسرها ضمن دائرة النفوذ البريطاني استعداداً لفصل الجنوب عن الشمال بشكل نهائي وكامل، وما دمج منطقتي /الاستوائية/ و/بحر الغزال/ إلاَّ بمثابة الخطوة الأولى لجعل منطقة أعالي النيل مركزاً للحكومة المقبلة عند قيام دولة الجنوب.
    ولكن هذا التقسيم التعسفي لم ينجح، ولم يستجب لـه المواطن السوداني، ولكن سرعان ما تم وضع (الاستوائية) و(بحر الغزال) تحت إشراف ورعاية مسؤول بريطاني واحد، يقيم في مدينة (جوبا).
    وفي عام /1945/ أعيد تقسيم (الاستوائية) وفقاً لما كانت عليه، ألاَّ وهي منطقة (الاستوائية) و(بحر الغزال).
    وفي عام /1945/ أرسل المندوب البريطاني في القاهرة رسالة إلى الحاكم العام الإنكليزي يقول فيها الآتي:
    1 - إنَّ السياسة المتفق عليها هي العمل على أساس أن سكان جنوب السودان أفارقة زنوج، ويختلفون عن سكان الشمال، وإنَّ واجبنا الظاهر هو الإسراع بقدر الإمكان في تنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية والثقافية صوب اتجاه افريقي زنجي، وليس وفق الاتجاه العربي السائد في منطقة الشرق الأوسط والذي يتفق مع مصالح شمال السودان.
    2 - ذلك أنَّه من خلال ذلك الطريق وحده، يمكن إعداد الجنوبيين لمستقبل أفضل، سواء أكان مصيرهم الانضمام إلى شمال السودان أو شرق أفريقيا.
    3 - وفي حالة الانضمام للشمال، سيكون لزاماً على الجنوبيين باعتبارهم أقلية تقدمية التصدي لأي توغل من جانب عرب الشمال.
    4 - وفي حالة الانضمام لأي من بلدان أفريقيا فإنَّه يتعين عليهم بذل جهود كبيرة للحاق بالأقطار المتقدمة في شرق أفريقيا.
    كانت قد أخفيت هذه الاقتراحات البريطانية عن مصر، وعن الرأي العام السوداني خوفاً من إحراج حكومة السودان في مواجهة الحكومة المصرية.
    وهذه التوجيهات هي في الحقيقة أوامر مشددة لتنفيذ السياسة البريطانية الرامية إلى فصل الجنوب عن الشمال.
    ازدادت الحملات الغربية التي تتحدث عن غزو ثقافي عربي للجنوب المسيحي، وهذا هو الافتراء بحدِّ ذاته، فالجنوب لم يكن يضم أكثر من خمسة عشر بالمئة من بين سكانه من تعداد مسيحيي السودان بينما يبلغ تعداد المسلمين في الجنوب 37% من سكانه؟ معظمهم سودانيون وطنيون.
    وقبل المتابعة لا بد من وقفة قصيرة عند الحركات الوطنية السودانية.


    الدول المتصهينة
    عندما عمدت الدول الغربية المتصهينة كبريطانيا وبعدها أمريكا إلى إخضاع الكثير من الأمم والشعوب لإرادتها ومصالحها نبتت ثمرة الكفاح لتعيد الحياة إلى نفوس وأراضي هذه الأمم والشعوب من خلال الحركات الوطنية، وقد شمل نشاط وكفاح الحركات الوطنية، السودان العربي المسلم، وهنا أخصّ وأوجز تاريخ الحركات الوطنية الاستقلالية لهذا البلد العربي عبر التاريخ الحديث...
    1 - المهدية: إن الحركة المهدية كانت تكافح وتقاتل الاستعمار البريطاني من أجل التحرير وتوحيد الأمة الإسلامية لأنها تعتبر تحرير السودان هو الخطوة الحقيقية لتوحيد الأمة الإسلامية والتي تعتبر السودان جزءاً منها.
    2 - كانت الانتفاضات الوطنية في السودان عديدة وقادها كل من (عبد القادر ود حبوبة) و(السحيني) و(الفكي سنيني) و(الفكي علي الميرادي) والسيد (محمد حامد)، وهؤلاء قاتلوا الاستعمار البريطاني كما أنهم خلقوا تياراً قوياً لمقاتلة وتحدي الاستعمار البريطاني.
    3 - حركة الخريجين الأنصار: عندما دخل البريطانيون السودان شنوا على إسلام /الأنصار/ حرباً دموية بشعة، فقد كان الحكم الاستعماري البريطاني بالمرصاد ضد أي تحرك وطني وخاصة في أواسط الخريجين، وتقول الوثائق البريطانية أن السياسة البريطانية نحو الأنصار مرت بأربع مراحل وهي:
    1 - المرحلة الأولى: بدأت هذه المرحلة منذ احتلال السودان عام 1899م واستمرت ضد الاحتلال حتى قيام الحرب العالمية الأولى عام 1914م وتميزت هذه المرحلة بالعنف والقمع وكذلك التصفية الجسدية، إن هذه المرحلة كانت سياسة الحكم الثنائي تجاه /الأنصار/.
    2 - المرحلة الثانية: تبدأ هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية فقد وضعت الحكومة سياسة محددة نحو السيد (عبد الرحمن المهدي) وفحواها شغله بالعمل الاقتصادي لتقليل نشاطه السياسي الوطني.
    المرحلة الثالثة: تبدأ المرحلة الثالثة في عام 1935 فقد أدرك الحاكم العام الجديد (سير ستيورات) أن سياسة إنهاء الإمام (عبد الرحمن) بالكسب المادي سياسة فاشلة لأن السيد (عبد الرحمن) استخدم المال الذي حصل عليه في توسيع صلاته بالأنصار في كل أنحاء السودان ووظفه للمسألة السودانية.
    المرحلة الرابعة: وتقع هذه المرحلة في فترة ما بعد عام 1951 أو
    أثنائها وقد أدركت السياسة البريطانية إخفاق كل وسائلها في احتواء السيد (عبد الرحمن المهدي) والأنصار ومن ثم قررت الدخول ضده في صراع سياسي مكشوف بتكوين حزب سياسي مضاد لـه اسمه الحزب الجمهوري الاشتراكي وهو حزب كونته الإدارة البريطانية في السودان بإشراف مساعد السكرتير العام الإداري المستر (هكسوبرت) ثم قدم الخريجون مذكرة إلى حكومة السودان التي لم تعرها أي اهتمام.


  20. #20
    كاتبة وصحفية
    تاريخ التسجيل
    09/05/2007
    المشاركات
    1,119
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الباب الخامس
    السودان بعد عام 1946


    الفصل الأول
    تشكيل المجلس الاستشاري لجنوب السودان
    وبدء عمليات المتمردين

    (1946):
    في هذا العام كونت الحكومة السودانية المجلس الاستشاري لشمال السودان وقد قبله الاستقلاليون بينما رفضه الاتحاديون، لأن تصورهم لمستقبل السودان هو الاتحاد مع مصر، ومن داخل المجلس تم العمل لإيجاد جمعية تشريعية، وفي عام 1948 وبعد قيام الجمعية التشريعية وقعت بين الاستقلاليين وبقيادة حزب الأمة صراعات عديدة منها زيادة وزن الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية والعمل على جلاء البريطانيين عن مصر والسودان وتحقيق وحدة وادي النيل، إلا أن المفاوضات مع البريطانيين أخفقت ومن نتائج هذه المفاوضات إلحاق السودان بالتاج المصري.
    (1952):
    في هذا العام قامت ثورة 23 تموز /يوليو/ وتم تشكيل مجلس قيادة الثورة الذي رئسه اللواء (محمد نجيب) كما رئس الوزارة (علي ماهر) وكان (ماهر) صديقاً شخصياً للإمام (عبد الرحمن) كذلك كان اللواء (نجيب) صديقاً لعدد من القادة السودانيين وعلى معرفة بحقائق السياسة السودانية، بل كان يعتبر نفسه نصف سوداني لأن ولادته وتعليمه كانا في السودان وفي هذا العام سافر الإمام (عبد الرحمن) إلى بريطانيا لمطالبة حكومتها بالموافقة على دستور الحكم الذاتي وبعد المحادثات مع الحكومة البريطانية رهنت موافقتها بموافقة الحكومة المصرية عليها، وفي شهر تشرين الأول أكتوبر من نفس العام زار الإمام (عبد الرحمن) مصر وقوبل بترحيب حار ومن ثم أجرى محادثات مع قادة الثورة المصرية وقد تمخضت هذه المحادثات عن عدة نقاط نذكر بعضاً منها:
    1 - عقد اتفاق عرف باسم اتفاقية المهدي - نجيب ومضمونها تعديل دستور الحكم الذاتي لصالح السودان وفق الآتي:
    أ - إتمام السودنة.
    ب - جلاء القوات البريطانية، وبعد قيام هذا الوضع وفي ظل دستور الحكم الذاتي المعدل يقرر السودانيون بحرية تامة مصيرهم /الاستقلال/ أو /الاتحاد مع مصر/.
    2 - عقد اتفاقية بين الحكومة المصرية وحزب الأمة السوداني ومضمونها التزام مصر بالحياد التام في السياسة المصرية قبل وأثناء حق تقرير المصير.
    هذا الاتفاق قد أخرج مصر من موقفها الضعيف تجاه المفاوضات مع البريطانيين الذي استؤنف دون شروط مسبقة.
    (1953):
    في هذا العام أجريت أول انتخابات عامة في السودان وفي ظل دستور الحكم الذاتي بهذه الانتخابات فاز الحزب الاتحادي بـ /54/ مقعداً وكان صاحب الأغلبية وفاز أيضاً حزب الأمة بـ /21/ مقعداً كذلك فاز الجنوبيون بعدد مماثل.
    (1955):
    أطل هذا العام وقد أصبحت الحركة الاستقلالية هي التيار القوي في الشارع السوداني.
    (1956) عام الحرية والاستقلال:
    في شهر كانون الثاني /يناير/ من هذا العام قام الرئيس (إسماعيل الأزهري) والسيد (محمد أحمد محجوب) زعيم المعارضة برفع العلم السوداني ليصبح السودان بلداً حراً مستقلاً، إلا أن هناك سؤالاً لابد من الإجابة عنه وتوضيحه:
    هل السودان شعباً، وأرضاً، سيبقى موحداً؟
    أم أن مقولة الزعيم المصري (النحاس باشا) التي قال فيها:
    «تقطع يدي ولا يقطع السودان»
    أصبحت تاريخاً منسياً كما حدث حينها وكما سيأتي به المستقبل عند تطبيق اتفاقية مشاكوس ؟؟!!
    بدء عمليات المتمردين:
    بعد المجازر التي قام بها الجنود الجنوبيون، غادروا ثكناتهم إلى الغابات والمستنقعات وكان ذلك في شهر آب - أغسطس - عام 1952، وهنا أصيبت الدولة السودانية إصابة بالغة في الصميم، واستشرى الضعف فيها وانتقل أثره إلى الدول العربية الإسلامية.
    بعد ذلك تعاقبت تنظيمات جنوبية متفرنجة رافضة للحكم السوداني الوطني وظهرت شخصيات تقود هذه التنظيمات وهي ما سمي بـ:
    1 - المتمردين.
    2 - الحركة السياسية الإفريقية.
    3 - العمل الجنوبي.
    4 - الخوارج.
    5 - الأنانيا.
    6 - الحركة الشعبية.
    ولقد صرَّح هؤلاء وعملوا عبر السلاح لأنَّ مبتغاهم هو تحرير السودان بأكمله من الشماليين، وعليهم ردّه إلى الجزيرة العربية، ولقد عملت قبيلة (الدينكا) أكثر من غيرها من أجل تحقيق ذلك سياسياً وعسكرياً.
    وقد جرى التعامل مع الوضع في الجنوب من قبل كافة حكومات السودان التي تعاقبت عليه باعتباره جزءاً من السودان الواحد، رغم قول بعض الذين تبنوا تصريح أحد وزراء الخارجية السودانية السابقين حيث قال: «فضوها سيرة، وليذهب الجنوب حيث يشاء»؟!.
    كذلك لم تقف دول الجوار موقفاً واحداً، بل كانت أكثر دول الجوار تتآمر على وحدة السودان كأثيوبيا مثلاً التي طلبت من السودان مقايضتها وفق قاعدة أرتيريا مقابل جنوب السودان؟
    كذلك يوغندة وكينيا اللتان وفرتا ملاذاً آمنا للمتمردين الجنوبيين فضلاً عن دعم الغرب والصهيونية لهم.
    وبإيعاز من القوة الاستعمارية البريطانية ومسؤولي الإرساليات قامت قوة من الجنود الجنوبيين في منطقة /توريت/ الاستراتيجية بتقتيل العرب السودانيين الوطنيين، وجاء تبريرهم لهذا العمل الشنيع أنهم يُعاملون في الشمال عندما ينقلون إليه معاملة الرقيق؟!


موضوع مغلق
صفحة 1 من 4 1 2 3 4 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •