الفصل الثاني
«التمرد الأول» 1955 – 1972

انشغلت حكومات السودان الوطنية المتعاقبة بمشكلة الجنوب، فلقد استنفذت هذه المشكلة الخطيرة القدر الأكبر من طاقات السودان: السياسية - المادية - العسكرية كما كانت أحد أهم الأسباب التي أطاحت بالحكومات الديمقراطية والعسكرية ولقد أنشئت عدة تنظيمات سياسية جنوبية في الخارج والداخل، وكان أهم هذه المنظمات «الاتحاد السوداني الأفريقي للمناطق المغلقة»، وقد اتخذ هذا التنظيم مدينة «ليوبولدفيل» الكنغولية مقراً لـه، ولكن ما لبث أن غيَّر اسمه ليصبح «الاتحاد السوداني الأفريقي القومي» واختصاراً «سانو» ونقل مقره إلى مدينة «كمبالا»( ) اليوغندية، وكان من أبرز قادة الاتحاد السوداني (جوزيف أودهو)( ) الذي أصبح رئيساً للتنظيم و(وليم دنيق)( ) الذي أصبح سكرتيراً عاماً للتنظيم، و(باركورومي)( ) نائباً لرئيس التنظيم، و(ساترنيتو لاهور)( ) و(فرد اديناق) و (بانكر اسيواوشنق)( ) الذي عين أميناً للصندوق المالي، و(جيمس وول اشيان)( ) و(فالوياو) الذي عين معاوناً لأمين صندوق التنظيم، و(اقري جادين) الذي عين مساعداً لسكرتير التنظيم و(باسيار تريه)( ) و(كرت اثيم) و(الكسيس مايالي يانجو) و(فيليب يداك) و(ناثينال أويت)( ).
الأنانيا:استطاع الاتحاد السوداني الأفريقي في الداخل والخارج أن يستقطب عدداً لا بأس به من الجنوبيين «طلاباً وموظفين...»، كذلك اتصل ببقايا المقاتلين المتمردين المختبئين في الأدغال منذ تمرد عام /1955/ وبهؤلاء تم تكوين قوة عسكرية مقاتلة أطلقوا عليها اسم «الأنانيا»( ) التي أصبحت الجناح العسكري للاتحاد السوداني الأفريقي «سانو» منذ عام 1962.
في عام 1964 تمكن القس والنائب السابق والعضو في «سانو» من الحصول على أسلحة وذخائر وبكميات كبيرة من «إسرائيل» وهذا بهدف تسليح «الأنانيا»، وبالتالي مهاجمة الجيش السوداني الوطني في مديرية بحر الغزال، ففي كانون الثاني - يناير - 1964 قامت «الأنانيا» بمحاولة الاستيلاء على مدينة «واو» عاصمة مديرية «بحر الغزال»، ورأس مجموعة المتمردين هذه أحد أبناء سلاطين قبيلة (الدينكا) ويدعى (برنابا ديني ماو)( )، ولقد فشل المتمردون في محاولتهم هذه وقتل عدد كبير منهم الأمر الذي توقف عنده التنظيم كثيراً، ولقد تفاعلت الأحداث وانعكست على «سانو» حيث أخذت الخلافات تطفو على السطح، وانفصل عنه أحد قادته المهمين وهو (وليم دنيق)، وخرج معه جناح كبير، وعاد (دنيق) إلى السودان وبشكل سري، حيث عمل كمنافس لما يسمى بجبهة الجنوب، وقد أعلن في 27/2/1965 استعداده الدخول في مفاوضات مع الحكومة السودانية.
في الوقت نفسه ظهرت تنظيمات جديدة وعديدة منها:
1 - حزب الوحدة بقيادة (سانتينو دنيق).
2 - الجبهة الجنوبية الحرة وقادها (بون ديو).
3 - الاتحاد السوداني الأفريقي الذي قاده أحد أقطاب الحزب الشيوعي السوداني (جوزيف كرنغ)( ).
ازدادت الخلافات في داخل «سانو» وأنصاره في الخارج والداخل، ولم تكن هذه الخلافات عقائدية أو سياسية، بل قبلية وشخصية.
وكذلك انشقت عناصر عديدة من منظمات مختلفة متنافسة ومتصارعة فيما بينها ومثال على ذلك الحكومة التي شكلها (كرنغ) وحملت اسم «حكومة فاشوده الوطنية المؤقتة» كذلك «جبهة التحرير الأفريقية» ومنظمة « المحاربون السودانيون من أجل الحرية»، إلاَّ أنَّه ومع مجيء عام 1965 - وتحديداً في شهر حزيران - 1965، وقع انشقاق وسط قادة تنظيم الاتحاد السوداني الأفريقي، ومن جراء هذا الانشقاق خرج عدد من القياديين الجنوبيين المهمين وكونوا «جبهة تحرير/ أذانيا» بقيادة (جوزيف أودهو) الذي كان أول رئيس لـ «سانو» كما انشق معه قيادي آخر هو (أقري جادين) الذي كوَّن تنظيماً خاصاً به، وقد أطلق عليه اسم «جبهة التحرير السودانية الأفريقية» إلاَّ أنَّه لم تمض أشهر إلاَّ وعاد وانضم إلى «جبهة تحرير أذانيا» وأصبح نائباً لرئيسها.
أطل عام 1967، وأطلت معه الانقسامات في صفوف القادة المتمردين فقد انشق الاتحاد السوداني الأفريقي الذي يعمل داخل السودان - إلى قسمين، حيث خرج القائد (الفريد وول) عن قيادة الزعيم (وليم دنيق) وقد تتالت الانشقاقات بين صفوف المتمردين في الداخل، إلاَّ أنَّها سجلت نسبة أكبر في الخارج ولاسيما في يوغندة.
وفي ضوء هذه الانشقاقات دعا بعض المثقفين الجنوبيين إلى ضرورة وحدة الكلمة والصف ضد عدوهم الشمالي، ولقد لاقت هذه الدعوة قبولاً قوياً وسط العناصر السياسية الفاعلة التي تقف وراءها القوى الغربية، وفي شهر آب - أغسطس - عام 1967 انعقد مؤتمر كبير في منطقة «انجودين» في جنوب السودان، ولقد شاركت في هذا المؤتمر عدة فصائل جنوبية متمردة، كما شارك فيه قادة «الأنانيا» وعدد من السياسيين المحترفين.
ولقد ساد المؤتمر جو من الوفاق والوئام، وعلا صوت الدعوة لجمع الشمل وخاصة بعد فشل القس المتمرد (ساترنينولاهور) الذي قتلته القوات اليوغندية، وغياب (جوزيف أودهو) الذي زادت أموره السياسية تدهوراً فوقع في عزلة لا يحسد عليها، مع العلم بأنَّ المذكور لا يحظى بالتأييد إلاَّ في منطقة شرق الاستوائية.
ولقد صدرت عن مؤتمر «انجوديت» عدة قرارات أهمها الإعلان عن قيام حكومة مؤقتة في جنوب السودان، وقد رأسها المتمرد الانفصالي (أقري جادين)، كما ضمت هذه الحكومة معظم القوى القبلية والسياسية المتمردة في جنوب السودان، كذلك تم اختيار (اميدوتافنج) قائداً عاماً لقوات الأنانيا.
بدأت حكومة التمرد عملها، وقبل أن تقوم بأي عمل فعّال دبَّت الانشقاقات السياسية والقبلية فيها، وفقدت نفوذها في كافة أنحاء الجنوب إلاَّ في محافظة الاستوائية، والتي يسيطر على شرقها المتمرد (جوزيف أودهو)، ولقد ابتعدت عنها القوى السياسية والقبلية في مديريتي «بحر الغزال» و«أعالي النيل» إلاَّ أنَّ أحد أهم الأسباب التي عجَّل بنهايتها هو رفض قبيلة (الزاندي)( ) لها، والسبب يعود إلى اختيار (اميدوتافنج) قائداً عاماً لقوات الأنانيا، وانسحاب ممثل القبيلة من الحكومة في شهر أيلول - سبتمبر - عام 1968، بعد ذلك أعلن رئيس الحكومة (أقري جادين) بأنَّ نائبه (كاميلودول) يكيد المؤامرات ضده، وأنَّه قد تحالف مع أعداء الجنوب لإسقاطه.
فجأة غادر «رئيس حكومة المتمردين» (أقري جادين) الجنوب واتجه إلى «نيروبي» عاصمة «كينيا» ليعيش لاجئاً هناك، وقد ترك وراءه الحكومة المؤقتة التي استمرت بعض إداراتها تعمل لغاية عام 1969.
وجاء عام 1968، وجلب معه النكسات للجنوبيين فقد تم اغتيال الزعيم (وليم دنيق) في الجنوب أثناء قيامه بزيارات سياسية في شهر - أيار - مايو - عام 1968، وباغتيال (دنيق) تكون قد فقدت قبيلة (الدينكا) زعيماً مهماً لها، وكان الجنوب قد فقد زعيماً من زعمائه الذي عمل على انفصال الجنوب عن الشمال وهو المتمرد الأب (ساترنينولاهور)( ) الذي دُعِم مالياً وعسكرياً من قبل الغرب واسرائيل، وكان هذا في سبيل تسليح تنظيم الأنانيا، وبعد انهيار الحكومة المؤقتة الجنوبية، تم تكوين حكومة جديدة أطلق عليها اسم «حكومة النيل المؤقتة» وقد رأسها (تمورون مورتادماين)( ) لم تستطع النيل الصمود والمتابعة أمام الصراعات القبلية والعنصرية، وقد أُخِذَ على رئيسها (غوردون مورتا) أنّه جاء بأغلبية وزرائه من قبيلة (الدينكا) هذا الأمر أغضب زعماء وقادة القبائل الأخرى وخاصة القبائل الاستوائية التي تعتبر أنَّ الفضل في إشعال /الثورة/ أي التمرد عام 1955، ورعايته إنما يعود إليها، ولذلك اعتبرت أنَّ رئيس الوزراء قد انحرف عن طريق الثورة والتمرد، بعد ذلك عمل القادة والزعماء المتمردون وعلى رأسهم القس (ساترنينولاهر) على إعادة تنظيم الجناح العسكري في «الأنانيا» الذي جلبَ لـه المال والسلاح من اسرائيل والدول الغربية.
ازدادت الصراعات بين قادة وزعماء حكومة «النيل المؤقتة» ممَّا أدى إلى ظهور عدة تنظيمات شكَّلت خطراً مباشراً عليها، وأهم هذه التنظيمات:
1 - منظمة نهر سو الجمهورية.
2 - منظمة أزانيا السودانية.
وقد ترأس منظمة /أزانيا/ المتمرد الانفصالي (أزيوني منديري)( ) ولقد كان وزيراً للمواصلات في حكومة (سر الختم الخليفة)، كذلك أعلن الجنرال (اميدو نفتح) معارضته لحكومة /النيل/، وأطلق أيضاً «مجلس الثورة» ثم قاد الحكومة ومجلس الثورة، علماً أنَّ المجلس ضمَّ كبار العسكريين من «الأنانيا» ثم أصدر بياناً قوياً أدان فيه السياسيين الجنوبيين الذين اتهمهم فيه بأنهم أضاعوا سبع سنوات من كفاح الأفريقيين الجنوبيين ضد العرب.
نجم جديد؟
في خضم الصراع القبلي السياسي على القيادة خرج متمرد جديد من رحم الانفصال وضباب الجنوب، إنَّه الضابط السوداني السابق والمتمرد في قوات الأنانيا لاحقاً إنَّه (جوزيف لاغو)( ) الذي استطاع أن يقوي مركزه وسط حركة التمرد «الأنانيا» في شرق الاستوائية في الفترة الممتدة من شباط - فبراير - إلى تشرين الثاني - نوفمبر 1969، واستطاع أن يشكل خطورة كبيرة وتحدياً أكبر للقائد الجنوبي المتمرد (اميديوتارنخ) ولقد كسب (لاغو) ولاء قوة التمرد «الأنانيا» في غرب الاستوائية، وعندما استتب الأمر قام بما يشبه الانقلاب وبعد نجاحه أطلق على قواته اسم «الأنانيا الوطنية»؟
إنَّ القوى الغربية والكنسية وإسرائيل والتي عملت وتعمل على فصل الجنوب عن شقيقه الشمال، وجدت ضالتها وشخصها القوي في (جوزيف لاغو) فهو الرجل الذي يستطيع فصل الجنوب، وإقامة دولة متفرنجة موالية للغرب واسرائيل، وبدأت تنهال المساعدات العسكرية والمالية من هذه الدول، كما بدأت أعداد كبيرة من المرتزقة الأوروبيين والذين كانوا يعملون في «الكونغو» و«بيافرا»( ) بالعمل معه، وتدريب قواته ومنهم المرتزق الألماني (رودلف شتاينر) الذي اعتقلته قوات الجيش السوداني وحوكم في الخرطوم، وحكم عليه بالسجن ثم أطلق سراحه فيما بعد، بعد تدخلات كثيرة؟..