بداية لا بد لنا من القول ،أن العرب المسيحيين ، لم يكونوا في يوم من الأيام،على هامش التاريخ في منطقتنا العربية، فهم لعبوا دوراً فكرياً وحضارياً،في صنع مشروعنا الحضاري الحديث ،وكذلك لا أحد ينكر إسهاماتهم البارزة في المشروع التحرري والوحدوي في المنطقة.
والعرب المسيحيين لم يضعوا في أي يوم من الأيام طائفيتهم في تعارض او فوق وطنيتهم، بعكس الكثير من الطوائف والشيع الإسلامية، والتي لم تضع فقط طوائفها فوق وطنيتها، بل وفوق إسلامها، ولنا في العراق شواهد عملية وحسية على ذلك، وفي سياق تقديم الجانب الوطني على الطائفي، رأينا كيف أن الأب شنوده الثالث في مصر، قال والله لو كان الإسلام شرطاً للعروبة لأسلمنا، واليوم نرى في المطران عطا الله حنا،رئيس أساقفة سبسطية في بطريركية الروم الارثودكسيه ، خير تعبير عن ذلك ، فهذا الرجل ابن الرامة في الجليل الغربي، في الوقت الذي شنت عليه قوى الاحتلال حرباً شعواء وضيقت علية وأعاقت حركته في الكثير من المرات لمواقفه العروبية والقومية، ودوره في الدفاع عن عروبة القدس، وعن أملاك الكنيسة الارثودكسية، والتي عملت بعض الجهات المتواطئة في الكنيسة الارثودكسية على تسريبها وبيعها لمؤسسات صهيونية عنصرية، وهذا المطران المناضل نتيجة لمواقفه العروبية هذه، صدر بحقه حرمان كنسي مرتين متتاليتين في العام الماضي، وهو الرجل المعروف بإمانته واستقامته، ولم يرتكب من جنحة أخلاقية أو مالية ، أو فقدان للأهلية ، توجب مثل هذا الحرمان،اللهم دعوته لكشف وتعرية المتواطئين في بيع أملاك الكنيسة في ساحة عمر وباب الخليل، والعمل على إبطال تلك الصفقات واسترداد تلك الممتلكات.
والمطران المناضل تراه حاضراً في كل المناسبات والاجتماعات واللقاءات والندوات والمناشطات المستهدفة الاحتجاج على الممارسات الاذلالية والقمعية، التي ترتكبها سلطات الاحتلال الإسرائيلي يومياً بحق شعبنا الفلسطيني، وهو يجوب فلسطين غرباً وشرقاً ،شمالاً وجنوباً دفاعاً عن الحق العربي والفلسطيني، وداعياً إلى التسامح والتوحد الإسلامي المسيحي الفلسطيني والعربي في وجه الممارسات الإسرائيلية، ولم يترك مؤتمراً خارج فلسطين أقيم لهذه الغاية،إلا وذهب إليه متسلحاً بمواقفة القومية والعربية الأصلية ،وأنا سآتي بالعديد من الأمثلة الحسية ،التي تؤكد على مبدئية هذا الرجل وثباته على مواقفه ،ففي وقت تعز فيه الرجال والمواقف، ففي إحدى اللقاءات التي عقدها مع لاجئي شعبنا الفلسطيني ،في مخيم البقعة في الأردن ،قال إن ما يفعلة الرئيس المريكي جورج بوش والإدارة الأمريكية من جرائم وممارسات بحق الشعوب العربية والإسلامية ، وتحديداً في أفغانستان والعراق وفلسطين، ليس من المسيحية في شيء والمسيحية براءة من هذه الأفعال، وترجمة لهذا القول والشعار،فإنه عندما زار الرئيس الأمريكي بوش الابن،فلسطين يوم الخميس 10/1/2008، رفض ان يكون في استقباله في كنيسة المهد، في الوقت الذي كان فيه الكثيرين من المتزلفين والمنافقين مسلمين ومسيحيين، يتسابقون لاستقباله وهذا الموقف العروبي والوطني والاحتجاجي على الممارسات والانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل ،لاقى الاستحسان والقبول من قبل القوى الشعبية الفلسطينية، وعندما حضر لتأدية واجب العزاء في الدكتور المسلماني، فقد عبر عن أصالة وموقف عربي أصيل،عندما قال كم كان يعز علي هذا الصديق،والذي رحيله ليس خسارة لنا وللقدس،بل وللحركة الوطنية الفلسطينية وفلسطين عموماً،وهو صديق لي شخصياً كنا نلتقي ونتشاور في الهم الوطني والمقدسي، ولولا أن تشيع جثمانه كان في يوم العيد، يوم عيد الميلاد للطوائف الشرقية، وما يترتب علّي في ذلك اليوم من التزامات دينية واجتماعية،لكنت على رأس المشيعين، وفي حزيران الماضي عندما وجهت له دعوة للمشاركة وإلقاء كلمة ،في حفل توقيع كتابي"صرخات في زمن الردة" لم يتكبر ولبى الدعوة وقال"إن راسم في كتابه هذا تحدث عن همومنا والآمنا جميعاً،نحن أبناء الشعب الفلسطيني، عن هموم أبناء القدس ومعانياتهم، وعن أسرانا البواسل وما يعانونه من إذلال يومي من قبل إدارات السجون الإسرائيلية، وأذكر أنه عندما ذهبنا أنا والمرحوم الدكتور احمد مسلماني وعبد اللطيف غيث ومعنا عدد آخر لزيارته في مقره للتضامن معه،بسبب قرار الحرمان الكنسي الجائر بحقه،فإنه استقبلنا في بيته المتواضع، وتكلم معنا حول همومه وعن أن هناك محاولات من قبل البعض لتهميشه، نتيجة لمواقفه القومية والعروبية، ومطالباته الدائمة بضرورة العمل على كشف المتورطين في تسريب ممتلكات الكنيسة في ساحة عمر وباب الخليل إلى سلطات الاحتلال، وهو يعاقب على مواقفه المبدئية والثابتة من هذه القضايا.
والدور الذي يقوم به المطران عطا الله حنا ومواقفه المبدئية والقومية، ليست قصراً عليه،بل قام بها الكثير من المسيحيون العرب، وبالتالي فالمسيحيون العرب جزء صميمي من المجتمع العربي والفلسطيني، وهم أحد مكوناته الأساسية،ووجودهم بين العرب هو وحده الذي يقدمهم كأمة ذات طبيعة قومية لا كمجرد مجموعة دينية،فالأمم الحديثة وان كان الدين عنصراً حيوياً في وجودها،إلا أنها لا تقوم على أساس ديني، دون أن تجد نفسها في حرب مع كل دين، وهذا ليس من الإسلام في شيء.
وأدلة التاريخ تقول ان الغزاة الصليبين عندما اجتاحوا القدس عام 1099 ،فإنهم لم يقصروا مذابحهم على المسلمين،بل ذبحوا معهم المسيحيين أيضاً.
وهكذا كان موقف الغرب الاستعماري تجاهنا على مر العصور والتاريخ،أعطيناهم العلوم الأولى فجاءوا إلينا بتكنولوجيا القتل والدمار الشامل ، وارتكاب كل أشكال وأنواع الجرائم في سبيل مصالحهم وأهدافهم،وأعطيناهم قيم العدالة والقانون،فعادوا إلينا بديمقراطية الدبابات كما حصل في العراق، ورفضوا الديمقراطية الحقيقية والتي يتشدقون بها ليل نهار، عندما مارسها الشعب الفلسطيني، وفاز بها من لا يتفق معهم في الرؤية والأهداف والمصالح،بل يحاصرون ويجوعون الشعب الفلسطيني بهدف تركيعه وإذلاله،وأعطيناهم المسيحية،فعادوا إلينا بالحروب الصليبية، وشهادة للتاريخ فقد ظلت الكنائس الشرقية،غريبة ومنبوذة في نظر كنائس الغربيين لا لشيء إلا لأن مسيحيها عرب،ولأن روح المسيحية الأصيلة تكمن فيهم.
وفي النهاية يبقى المطران المناضل عطا الله حنا رمزاً وعنواناً وطنياً وقومياً وعروبياً يجسد أماني وطموحات كل الأحرار والشرفاء من أبناء شعبنا، ونحن بحاجة إلى من هم على شاكلة المطران في النضال والثبات ومبدئية وقومية الموقف.

راسم عبيدات
القدس- فلسطين
14/1/2008
Quds.45@gmail.com