د. محمد السيد سعيد

نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية و الإستراتيجية - مستشار مجلة أحوال مصرية




1/30/2008














أزمة المعبر : صدمات وكرامات


لا أظن أن أزمة رفح ستمر ببساطة. فهي صدمت الوعي المصري والعربي بعدد من الكشوف المرعبة. أولى الصدمات واضحة بذاتها، وكان لابد أن تتيقن أية إدارة أو حكومة سليمة الحواس وتعرف شيئاً عن الاجتماع البشري، من حتميتها وتحديداً الانفجار الكبير الذي أطاح بالمعبر والحدود الفلسطينية المصرية كلها.

كان لابد للحكومة المصرية أن تدرك استحالة الإبقاء على الأوضاع المرتبطة بعزل غزة وفرض الحصار التام على سكانها بدون أن يقع انفجار شعبي كبير تستحيل مقاومته أو حتى تنظيمه.

إغلاق المعابر كان قراراً يقوم على اعتبارات حسابية لكنها حسابات حكومية أو عقلانية بلاستيكية لا حياة فيها. فأولاً خشيت الحكومة المصرية أن يُفهم فتح المعابر لحركة الناس والبضائع كاعتراف بحكومة "حماس"، وهو أمر يغضب حكومة رام الله ويزج بمصر في وحل الصراع الفلسطيني الفلسطيني. ومن ناحية ثانية فإن انسحاب المراقبين الأوربيين مثّل السبب المباشر لإغلاق الحدود، لأن مصر خشيت أن يفسر فتحها كخرق للتفاهمات الخاصة بالمعابر عموماً، أو أن يعزز الاتهامات بتسهيل تهريب الأسلحة.

وهناك صدمة أهم للحكومات، وخاصة للحكومة المصرية، وهي تمكُّن سكان القطاع من التغلب على كل المقاومات على الحدود والغائها فعلياً ودخول الأراضي المصرية بدون أوراق أو تأشيرات. والواضح أن اقتحام الفلسطينيين للحدود كان نصراً شعبياً تعاملت معه الحكومة المصرية بحكمة، ولم يكن قراراً رسمياً ابتداءً. وقد عبر البعض عن هذا الاقتحام ساخراً بالقول إنه فرضٌ للوحدة الشعبية وتحقيق للحلم العربي بإلغاء الحدود بين الدول العربية!

وبهذا المعنى يبدو الحدث وكأنه يبرر انتظار اقتحام الجماهير العربية لكل الحدود المفروضة على التطور العربي، بما فيه التطور نحو الديموقراطية. ويعتقد كثيرون أن للجماهير العربية كرامات تتحقق فور أن تقتحم هذه الجماهير فضاء السياسة! لكن البعض نغص على اليسار بالذات (وهو صاحب تلك الطروحة)، بأن أطلق نظرية صادمة لتفسير ما حدث تقوم على مخاوف التوطين. هذا البعض لم يشتر فكرة أن ما حدث كان عفوياً تماماً. ولم يكن تدمير الحدود، وخاصة معبر رفح، عملاً "شعبياً" بسيطاً، بل كان نتيجة قرار مسبق، والأرجح أنه انتظر استكمال عملية تخطيط دقيقة خاضتها حركة "حماس". ووفقاً لهذه النظرية فـ"حماس" وظفت الغليان الشعبي في القطاع ضد العزل من أجل تحقيق الانتصار على غريمتها "فتح" في رام الله وتدمير العزل الواقع على القطاع وإجبار النظام العربي كله على التعامل مع حكومة "حماس" والاعتراف بها فعلياً أو قانونياً. ويصل البعض بهذا المنطق إلى نهاية قصوى ومتطرفة بأن أطلق فكرة أن ما حدث كان نتيجة توافق صريح أو مضمر بين "حماس" وإسرائيل وربما مصر أيضاً ينتهي إلى توطين أعداد كبيرة من الفلسطينيين في شمال سيناء.

وحتى لو لم يكن هناك اتفاق أو توافق، فالبعض ما زال يعتقد أن ثمة خطراً حقيقياً في تدفق أعداد كبيرة من سكان القطاع عبر الحدود إلى مصر لأنه يعني تفريغ القطاع من سكانه وربما مبادلة القطاع بأراض مصرية في شمال سيناء ومن ثم تصفية القضية الفلسطينية أو اختراع وتطبيق أسطورة الوطن البديل!

وثمة قطاع ثالث من المراقبين يخشى أن يؤدي هذا الحدث إلى اكتشاف الفلسطينيين لسهولة اقتحام الحدود في أي وقت والتغلب على السلطات المصرية وربما الاستيلاء المباشر على رفح والعريش ومناطق أخرى من شمال سيناء، مما يؤدي إلى صدامات مسلحة بين الفلسطينيين والمصريين، وهو ما يمهد لكوارث أخرى أشد.

والواقع أن ما حدث لم يكن ترجمة لمؤامرة، لكنه كشف السهولة المذهلة التي يمكن أن تحاك بها وتطبق فعلياً مؤامرات كثيرة في سيناء بالذات. وربما تكون هذه أسوأ الصدمات التي كشفتها أحداث الاقتحام الشعبي لمعبر رفح.

فقد أكدت الأحداث بما لا يدع مجالاً للشك أن الانكشاف الاستراتيجي والأمني لسيناء، والذي نتج عن القيود التي وضعتها المعاهدة المصرية الإسرائيلية لعام 1979، وحذر منها جميع الخبراء الاستراتيجيين والسياسيين الوطنيين. وتبين أيضاً أن الإدارة المدنية أضعف من أن تتعامل مع موقف طارئ وضاغط من النوع الذي حدث في رفح الأسبوع الفائت.

أما على المستوى السياسي فثمة بالفعل جوانب إيجابية للغاية، ويجب أن تحظى بالتقدير. فالحكومة المصرية توصلت إلى تقدير سليم للموقف وقررت تجنب أي صدام دموي مع الفلسطينيين، سواء على المستوى الشعبي أو المستوى المنظم مهما كانت التضحيات. وكانت ثمة مخاطر كبيرة للغاية، خاصة فيما يتعلق بخشية مصر من الإرهاب وتسرب أعداد كبيرة من الناس الراغبين في القيام بأعمال عنف في جنوب سيناء مثلاً. وكانت هناك مخاوف أيضاً من استحالة إعادة نحو ربع أو نصف مليون فلسطيني للقطاع بعد أن دخلوا بدون أوراق وبدون أدنى رقابة. ومع ذلك قررت الحكومة المصرية ألا تواجه الفيض البشري الكبير الذي اقتحم الحدود بالعنف.

وكان هناك أيضاً شيء إيجابي للغاية وهو قبول مصر لمناقشة هذا الموضوع في مجلس الجامعة الذي انعقد الأسبوع الجاري، ومشاركة بقية البلاد العربية في اتخاذ قرار صائب حيال الأزمة وفي تحمل تبعاته.

وحتى على المستوى الدولي لم تخسر مصر كثيراً بتصريحات بدت لائمة ومعادية من جانب الإدارة الأميركية وخاصة وزيرة الخارجية رايس. بل قد تحقق مصر مكاسب حقيقية من إدارتها للأزمة أو حتى من مجرد وقوعها. وبالفعل اضطر الأوربيون للوعد بإعادة المراقبين إلى معبر رفح، وهو ما يعد بفتح المعابر أمام الحركة المنظمة للسكان والبضائع.

لكن مقابل هذه "الكرامات" ثمة صدمات كبيرة حتى في الإدارة السياسية. فهذه الإدارة لم تتوقع الأزمة، وهذه مشكلة كبرى. وما إن بدأت حتى أخذت بالسيناريو الأقصى في التسيب، بعد أن كانت أخذت بالسيناريو الأقصى في التشدد وإغلاق الحدود، بينما كان يمكن الاستجابة للأزمة بقدر كبير من المرونة دون التخلي تماماً عن تنظيم الدخول والخروج.

ولا يقل أهمية ما يبدو من غياب جسم محدد يقوم بإدارة الأزمة علناً وبوضوح. والأصل أن مصر كانت طورت هيكلية لإدارة الأزمات الدولية وعملت بكفاءة في إدارة بعض الأزمات خلال عقد ثمانينات القرن الماضي، لكنها فيما يبدو إما توقفت أو صارت غير منتظمة. هذا ما نستنتجه من تضارب التصريحات التي نسمعها على مدار اليوم. والأهم أنه كانت هناك معالجات للأزمة أشد ذكاءً بكثير مما حدث, وفي الحد الأدنى فإن الاستجابة لحاجات سكان القطاع المادية بتسريع شحن السلع والخدمات الأساسية، والتي عبر عنها سكان القطاع، كان يمكن أن تقود إلى تخفيف الفيضان السكاني على مناطق حدودية غير جاهزة وغير مجهزة.

الحدث له كراماته الجليلة، لكن صدماته يجب أن تعالج وبسرعة، مصرياً وعربياً، حتى لا تدهمنا مخاطر أشد وأعظم. فالواقع أن نظرية التوطين لا أساس لها من الصحة. والخطر الآتي من التفريغ قد يكون مبالغاً فيه أيضاً. ولا أساس لأي حديث عن مخاطر تهدد مصر من الجانب الفلسطيني. لكن ما حدث يؤكد على ضرورة التصرف بسرعة لسد مكامن الانكشاف أمام مخاطر قد تأتي من إسرائيل وهي التي أصابها الجنون، ولا يتوقع أن تلتزم بالعقل، خاصة أن من بين صناع السياسة فيها كثيرين لديهم لوثة مؤكدة.