ما بيننا( الفصل4)

بوحنيفية...
وادي الربيع ا المبلل برذاذ ماء العيون.. عيون جبال بني شقران..
وبدعاء الصالحين..
تعويذة المدى الغامض في نفوس الحيارى..ولمسة السماء للوجود..

***
أنزل إلى السّاحة الكبيرة الشبيهة بكل ساحات المدن العامرة ..
أخطو بإحساس كامل الوضوح في الرغبة ..
رغبة اللقاء ..
كما أجهد عينّي في مسح الجديد والتأكد من علائق الماضي ..
هذه المدينة الحمام تختزن ذكريات الصيف ،وتعطي لزائرها شيئا من الحنين الذي يضمن عودته ..
عوّدت نفسي النزول في هذه الساحة قبل أي مكان ..
إذا جلست على أحد كراسيها رأيت المدينة تمرّ كلها من أمامي ..
اليوم كلّ شيء كما هو باستثناء أنّي لم أشعر بصداع مجددا..
تلاشى ذلك الثّقل عن رأسي .. ذهب مع الاستغراق في النظر إلى نفسي ،أو مع سنة الشّرود في الحافلة ..
يــاه ..الآن فقط خرجت من الماضي وقذفت في قلب المدينة ..
في ساحتها العتيقة.. أنظر بشغف وتمعّن ..
في مدينة مصممة بهدوء وقصد أكبر يسهل على السائح التوغل في عمقها فقد يعثر بين أزقتها وجاراتها على علائق ترشده إلى ما يروي فضوله..فربما من ذلك يولد العشق...
العشق بين مدينة والإنسان..
كعادتها السّاحة في الصيف طلاء جديد لمبان عتيقة..
جمالها يكمن في أنّها ابتدعتها هندسة حالمة لعقول شاعرة ..
يدرك ذلك كل سائح يستقرئ العمران أو يفقه علاقة التأريخ بالجغرافيا ..
بأياد غريبة رصفت هذه الساحة كواجهة للعرض، كما بنى أجزاءها المتقنة البالغة الإثارة بتصوّر هندسي رائج يؤرخ لمرحلة الاستدمار أولئك المقيمون حينما أرغموا على النفي واستيطان أرض غير أرضهم ..
حين جيء بهم ليقضواعقوبة النّفي من الحياة بمعزل عن أوطانهم،كما نقل جزائريون من سكان هذه البقعة ليقضوا بقيّة حياتهم في جزيرة كيان ..
جسّدوا حبّهم للحياة والفن والحيّاد الذي لا يتناقض وآمالهم المقبورة في الضفّة الأخرى من البحر .
فكان ثمن عقوبتهم على جرأتهم حرّية أكبر ..
لكن حرية بطعم العبث و الهباء..
ربما جيء بهم من أنحاء أوربا التي يختصرها فن العمارة في المدينة ،كما تختصر ساحتها نماذج بشرية من كل الأصقاع ..
لستِ أنتِ بينهم ..
كرسيّنا العام الماضي فارغ ولم يتغير من مكانه ..
أوراق جديدة لعام جديد تكسو الأشجار .. روّاد أو سكان جدد كصاحب الكشك الذي يتوسّط الساحة .
هنا وجوه جديدة تلمع .. أغنياء .. فنانون .. رياضيون وساسة ..
سماء هذا العام تلمع فيها وجوه جديدة لا نعرفها ..
طبقة مخملية حديثة بعمر أزمة البلاد ،وعمر موسيقى الرأي التي اجتازت هذا المكان إلى العالم وعرّفت سكّانه بلفظة شاب وجزائر ووهران..
بالنسبة لي هناك سرّ غامض في هذا الحمام ..
لا يزال يحتضن القادمين على ضيقه كمدينة تستوعب الحديث والقديم، وتبرز التناقض والتنافر بينهما ..
الحديث والقديم من المباني ،والسلفي والمحدث من الأفكار..
ربما صار الكل يدرك أن المدن أصبحت تحجب الرؤية الصحيحة للأشياء الجوهرية في الإنسان .. تخفيها ثمار التمدن المرضيّة ..
لا بد أن هؤلاء المصطافين خلعوا ألقابهم وارتدوا ألقابا أخرى تنضح بالحيوية والشباب ..
ألقاب يستهويها كل ما هو حديث ومسلّ وممتع كأطفال ..
أكاد أعمّم الحكم و أنا أنظر إلى صاحب الكشك .
كم يبرع بعض الناس في إخفاء الشّيب بالتصرفات الشابة واقتناء الموضة في كل شيء .. حتى في تفكيرهم ..لكني لا أعمم الحكم على السكان والمشتغلين بالسياحة ولا على نزلهم .
بعض النزل هنا تستهوي المتعبين القادمين من الجيوب المنسية في جغرافية الوطن..
تمنحهم اهتماما لا يجدونه في بيوتهم..تهيّؤهم إلى جو توشحه المتعة..
متعة النوم والأكل قبل متعة الروح ..
تمنحهم السياحة الحقيقية ..
فالسياحة ربما ليست ما تعرّفها النظريات التعليمية فقط وإنما هي كذلك خدمات أساسها السعي وراء منتهى الإغراء ..
لفظة لا يستحي أن يقولها الفرد من العائلة عندما تجتمع على طاولة العشاء برغم أنها مرادف فعليّ لإطلاق العنان للغرائز إذا ما تعلق الأمر بحمام أو شاطئ..
على الأقل هذا ما تعلمته في الجزائر..
فهي صندوق رملي يبتلع نقود الذين يملكون المال ويبذرونه .
مسحتي لقلب الحمّام لم تأت بجديد عدا إغلاق الفندق الذي بتّنا فيه عامنا الماضي .. لكن فنادق أخرى تنبت كالفطر استجابة لنداء الانفتاح الذي تنتهجه الدولة..
عليّ أن أسأل خادم فندق الصحراء المحاذي للساحة ما إذا كان لديه غرفة شاغرة للحجز فالفنادق التي لا تطلب عقد الزواج في الكراء قليلة ، وطلب التغـاضي عن ذلك يتطلّب وقاحة وجرأة أو جاه الثور الإفريقي المرسوم على خلفية النقود .
أدخل وأسأل :
- هل لديكم غرفة شاغرة ؟
- وحدك ..؟
- لا .. مع صديقه ..
- آسف ممنوع يا لعزيز ..
- بت من قبل هنا ..
- قلت ممنوع وComplet .. تفهم !
- أفهم .. أفهم تماما ( واش بيك تاكل في روحك .. خلاص !؟)
أخرج .. وأحب أن أستغرق في الفهم ..
فهم أشياء يلوح غبارها من بعيد :
هذه القهقـهات الرقيقة والغليظة التي تنبعث من أروقة الفندق مصدرها الغرف ..
هذه المئات من النساء اللائى يتهاومن كلهن يبتن في الفنادق ..
هذه الـشاحنات المصطفة تفرغ حمولتها من الشراب هنا ..
في الليل عندإغلاق الملاهي تخرج كل امرأة في يد رجل..فأين يبيتون !؟
وكيف أفلحوا في الحصول على غرف ولم أفلح في إقناعه ؟
أعود إلى الساحة .. أصبّ جامّ غضبي على القانون الذي لا يراعي النوايا ويجبرنا على استعمال جيوبنا للدوس على مواده ، أو يدفعنا إلى تخطي جغرافية الوطن لنحظى بخدمات أرقى لمقابل أقل ..
أتفووه ...
أولى العـقبات مصمّمة على المقاس الذي يزعجني أو يجهد تفكيري المتعب أساسا..
تبدو فكرة تناول فنجان قهوة أمرا يساعد على التفكير في حل هذه المشكلة..
المقاهي هنا كذلك تشيع طقسا يبدد التعب ..
قاعاتها عند اختناق الجوّ في الخارج تصير معبرا لنسمات منعشة ولهذا الناس يهرعون إليها في الظهيرة ..
ولهذا تتنوع المقاهي وتكثر، فبين كل مقهى ومقهى مقهى ..
هناك مقاه للعشق .. مقاه للقوادة .. وأخرى للهروب من الواقع والشمس..
الطرقات من حولها تشوي الأرجل والحرارة تفور من الجدران ..
أخمّن أن أختار واحدة ...
جلستي في المقهى ستمنحني قدرة جدّية لتخطيط برنامج ثري لإقامتنا..
الوقت مازال ..
مازال في يدي ساعات المساء .
أعرف أن هناك في زقاق مهجور مقهى محليا لا يستقبل إلا الأغنياء ومعظمــهم يصحبون هدوءهم معهم ، وهناك حانة محلية لا تستقبل إلا المتقاعدين وبعض الأدباء ..
تـقدّم الشراب مع الأكل ..ربما علي أن أهتف من هناك قبل أن أشرب زجاجات بيرة...ولم لا ؟
كيف فاتني ذلك ؟
في وقــت كـهذا ما من شيء يضاهي كؤوسا باردة تجعلني أرى الدنيا بشكل مغاير.. شكل ينعدم فيه الإحساس بالزمن المضني ..
المهرب الذي يقتل الوقت كما قال محمود ..فأسوأ الأشياء لدي الانتظار..
يمر وقتي فيه كالذي يحرق السعرات في مضغ علكة خالية من السكر ..
يتكرر هذا الفعل معظم حياتي دون الحصول على شيء ..عدا هدر الدقائق والساعات وجني التعب ..
فلم لا أهدرها ملكا تظلّله النشوة بتاج من القدرة الخرافية ودفقه من زمن لا يعترف بطبيعة الأشياء وعقبات الخوف.
الشراب يقتل الوقت .. يذهب الحياء .. وحديث النساء كذلك ..
النساء اللواتي لم نألفهن أو لم تزل هناك مساحات منهن لم نكتشفها .
الشراب علمني الجرأة مع كار ولين ..
الـجرأة التي نفتقدها نحن القرويين ونشتريها بجرعات تحل عقال الخوف من امرأة جميلة، أو من زوجة في ليلة الزفاف الأولى ..
أترى لـهذا تعاطاها الكثير من شباب القرية ليلة دخلتهم تعويضا عن فترة التعارف أو إزالة لعقدة القرون التي تخلفنا فيها عن غيرنا ..
تاج النشوة يحل عقد المستحيل ..
على الأقل هذا ما يحدث لي ابتداء من الكأس الرابعة من خمرة أسبانية استعارت طعم البرتقال ..ذات الخمرة التي رافقت مكوثي في اشبيلية ولازال طعمها مدعاة لتذكر أهلها وسجاياهم ..
لازالت تذكرني بطباعهم..وأنبذتهم..
انقاد تحت وهج الشمس والذكريات..
ادخل إلى الحانة..جو خافت يشعرني بالبرودة..
امرأة واحدة وكثير من الشراب..
الشراب المختلف الصفات...
هل تعرفين يا جويدة أن النبيذ كالناس يأخذ بعض الأشياء من حوله ويقتبسها..
نـبيذ بطعم إكليـل الجبل .. نبيذ برائحة البسباس .. نبيذ بنكهة اللوز..أو بمذاق الكرز..نبيذ ذو شخصية ثابتة يحبه الجميع أو يقدره
جيّد يصبح أفضل مع التقدم في السن .
ونـبيذ يجعل شاربه مكروه الملائكة يتجاوزه المارّون كشق في الأرض دون أن يأبهوا به ..
نـبيذ مفرط التمكـن ممن يعاقره، وأخر يعصر الوجه كوجه هذه السيدة العجوز التي تقتبس من طعم الخمرة المحلية..
هذه العجوز المتعجرفة قوية البنية ربما لا تصلح لها إلا خمرة العنب الثقيلة أو ( دم الـسبع ) كـما يعرفه أصحاب المحششات أو كما عرفته في حانات اشبيلية ،فقد طافت بي كار ولين كل حاناتها ..
بإمكاني أن أعرف رواد الحانة من مشروباتهم لو كنت نادلا ..
كاروليـن مثلا كانت تشرب الويسكي الايرلندي وهو ينسجم مع روح الفكاهة البريطانية الباردة ..
ويسكي مزكى بقطع من الثلج ..
محـمود كان يشرب الويسكي الأسكتلندي sec بدون ثلج أو ماء ، كراعي بـقر أمريكي يراه من مستـلزمات فروسيّته في بلاد تعتبر شرب كؤوس مجرد فطور..والكثير الكثير.. كل يشبه مذاق ما يشرب..
جوني والـكر الإنسان تظهر عليه مسحة البرودة التي يمنحها جوني والكر الـشراب.. ابو نواس الشاعر يشبه شعره وكلاهما يمنحان الانتشاء الذي يمنحه شراب أبو نواس..
أيـــه.. خمور شتى تعرّفك بسجايا أهلها وكلها تخرج الدّفين وتدفن الوقت .. ومثلما تهوي بصاحبها إلى الحضيض فقد ترفعه إلى السماء ..
إلى حدّ الكرامات ..
كولي ّ قريتنا صاحب القبة الخضراء سي الحواس ..
سي الحواس المرابط ..
فـهل كان يخدع الصّاحين قبل السكارى حين يخلط شراب
(لا نيزات) بالماء ليبيضّ فيوهمهم أنه حليب، أم الخمرة هي التي تخدعهم ..
ومن من الأمهات والجدات لم تزر قبة سي الحواس ..؟
من المعمرين لم يتبرّك به أو يهاديه بخمرة معتّقة تصدّه عن عهد أجداده الذين حاربوا الفرنسيين حتى أبيدوا ..
أجداده وأجدادنا ..
ومن قبل هناك في أسبانيا أجدادنا من ملوك الطوائف تعاطوا خمرا جاسوسة أذهـبت ملكهم وريحهم إلى الأبد، وجعلت أديم مقابرهم وضيّعهم مزارعا للكروم ..نالوا حظهم مما تنتج تلك البلاد..
هم كذلك قضوا بعض وقتهم في انتظار أن يدقّ جرس الخروج من الأندلس ليلقوا حتفهم تحت موسيقى الأنهر الحزينة وأنشودة الموشح الذي لازلنا نردده دون حياء :
هات كأس الراح
و اسقنا الأقداح ..تركوا لنا ما يمكن أن يتركه الأموات للأحياء..
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتركه الأموات للأحياء هو الحزن..
ذهاب الأشياء على غفلة يضاعف أنين فقدها..
ذهبت الأرض واستمر الأنين ..
ذهبت أسبانيا مع أجدادنا الذين أورثونا الحنين إليها ..يقول الباكي :
لم يبق من أسبانيا ومن قرونها الثمانية
سوى الذي يبقى
من الخمر
بجوف الآنية
لم يبـق من آثارهم ما يذكّرنا بهم سوى خام من سينما العبث في أشعارهم ولياليـهم، أو بقايا من قصر الحمراء ، أو هذه الخمرة التي أمامي والمكتوب عليها exeres معصور بأسبانيا .
حتى خمرنا اقتبست اسمها من هناك .
Montserrat مانسيرا .
اختارت هذا الاسم تمجيدا للخمرة الأسبانية ولبطش الأسبان ..
ليـشرب من يشرب ويتذكر مانسيرا المصيف الأندلسي ومانسيرا المسرحية وكيف كانت سيطرة الأسبان على أجزاء شاسعة من أمريكا اللاتينية ..
وكيف أن بطل المسرحية مانسيرا الضمير الحي انصاع إلى الثوار على حساب ولائه لحكامه وعلمه ..
أصحو على صورة ملصقة الزجاجة وألتفت ..أهيم سابحا في أرجاء الحانة..
أنظر من حولي فتلمع زجاجة الخمر أمام السيدة العجوز وهي تشرب نخب عمرها المتبقي ..أو نخب ما فات ..سالت نفسي..لم النظر إليها..؟
السر واضح ..أمامي ضحية من ضحايا mscara
خمرة الكروم "المعسكرية" .. أجود أنواع العنب المعصور..
أشعرتني مرة أخرى أني ضحية خمرهم..أجادل نفسي..كيف إن شربي يزيدني وهنا على وهن وكرها للخمر..
يجعل منيّ هشاّ يستهويني البكاء
أعاود الشك في يقيني أن البكاء حيال مسألة لن يزيلها، كحجة أدرأ بها التفكير في ضعفي..ّ
فهل من كل يشربها للهروب من لحظاته الحقيقيّة يكرهها؟
وهل كل من يشربها للزهو يحبها؟
أسّلي نفسي بأني: لم أكن وحدي ضحية خمرهم .. قبلي ملوك وملوك وأبطال استعارت الخمرة بطولاتهم واقتبستها كأسماء لألوانها
تذكرت كارولين وأغنية كانت تملأ سيارتها كلما ركبت معها ..
يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتولي
أشحال تعبو لعباد الغافلين قبلك وقبلي
قلت :
هناك سر ما ..
سمط يربط الخمرة بالنساء بالموسيقى ..
واحدة منهم تغلف الثانية التي تغلف الأخرى ..
اقتباس متبادل يكتسح المرء فيغيّبه عن عالم الوعي والتفكير والحزم
إحساس لازمني فتطور إلى اعتقاد ..اعتقاد زائف أو حقيقي ..
لا أدري ..
ما أدريه هو أني دفنت بعض وقتي أنا كذلك .
صحوت من التذكر ولم أصح من نشوة الخمر .