طُرِحت أسئلة "أساسية" بشأن حركة الترجمة العربية في مؤتمر المعرفة الذي عقد في الإمارات العربية المتحدة أواخر شهر أكتوبر الماضي (2007). والحق أن هذه الأسئلة طرحت مرارا وتكرارا منذ سنوات عديدة، وهي: لماذا نترجم؟ وماذا نترجم؟ وكيف نترجم؟ وأود أن أتناولها ببعض الملاحظات فيما يلي:

أولا - لماذا نترجم؟ وأطرح بدل هذا السؤال "الأساسي" سؤالا "جوهريا" آخر هو: لماذا يجب أن نترجم؟

وجوب الترجمة نابع من أننا لسنا في حاجة ماسة إليها فحسب، بل وحاجتنا إليها تتزايد بشدة وإلحاح، وتقصيرنا في هذا المضمار يزيد من عزلتنا تدريجيا. فهل التقوقع على الذات هو ما نريده لأجيالنا المقبلة؟ أم نريد لها الحوار وثقافة الحوار؟ يجب أن نترجم كي ننمي معارفنا ونثري ثقافتـنا وندعم لغتنا. وقنوات الترجمة هي التي تتيح لنا استيراد ما نحن في حاجة إليه.

الترجمة نشاط برهن التاريخ غير ما مرة على ضرورته ومنافعه، لأنه ليس عملية استيراد فحسب. والترجمة لا تكتفي بإثراء اللغة التي نترجم إليها بما تجلبه إليها من مصطلحات ومعلومات ومعارف. وإنما ترسخ لغة النقل وتكرس استعمالها وتوطد دعائمها، وتضمن استدامتها، كما تحميها إن كانت في حاجة إلى حماية... وهنا يمكن التذكير بالقول المأثور: "المغطى بمتاع الناس عريان"، لأنه ينطبق على كثير من الأمور بما فيها اللغة. نحن نؤمن بالحوار وندعو إليه، و لا نرى مندوحة عنه. وإلا لما كان جزءا من نشاط جمعيتنا، ومن شعارها أصلا. ومن مقومات الحوار تعلم لغات الآخرين. فلكل لغة جمالها وثراؤها وفوائدها. لذلك لا نتصور تطورا من دون تعارف واكتشاف للآخر. وهذا أمر مفروغ منه. لكن الحوار يعني بالضرورة تشبثـنا بلغتنا وتطويرنا لها واعتزازنا بها. ولا أحد يستطيع أن يدخل في روعنا أفكار العجز أو التهميش. لقد برهنت العربية على قدراتها حينما أراد لها أهلها أن تكون لغة العمل، فتركت بصماتها في كثير من اللغات...

ثانيا – ماذا نترجم؟ وسؤالي "الجوهري" هنا هو بالأحرى: ماذا ينبغي أن نترجم؟

هذه معضلة مزمنة: ما الذي نختاره للترجمة إلى لغتنا؟ وهل نختار كل ما نترجمه؟ أم إن معظمه ياتينا بدون انتقاء أو تخطيط. ماذا ينبغي أن نترجم؟ ومن يقرر ما ينبغي ترجمته؟ "الدوائر المسؤولة" أم القطاع الخاص؟ لعل الواقع والتاريخ يدلان على أن القطاعين متكاملان على نحو ما، وأن لكل منهما وظائفه ومهامه. لذلك سيستمر القطاع الخاص في اختيار المواد التي يجنح إلى ترجمتها تحقيقا لمصالحه. لكن القطاع العام مسؤول عن قسط وافر مما ينبغي أن يترجم في الميادين التعليمية والعلمية والتثقيفية لنشر أنواع المعرفة التي يحتاج إليها المجتمع. ويعلم الجميع أن الكثير من المعارف لا تهم دور النشر الخاصة التي لا تترجم في العادة إلا ما ترى أنه سيدر عليها الأرباح. بيد أن تدخل القطاع العام يتطلب التخطيط الذي ما زال غائبا حتى اليوم. وقبل التخطيط لا بد من الإرادة السياسية لاتخاذ القرار الاستراتيجي. هذا القرار هو الذي يحدد ما ينبغي أن يترجم اليوم في المقام الأول: العلوم البحتة والتطبيقية. ويكفي في هذا الصدد أن ننكب قليلا على الإحصاءات كي نرى أن نسبة ما يترجم في هذا المضمار هي الأضعف. ولهذا الموضوع كلام آخر...

ثالثا – كيف نترجم؟ وهذا سؤال أتركه إلى مناسبة أخرى. وأطرح بدله سؤالا "جوهريا" أحسبه أهم في هذا السياق بالذات، وأوثق صلة بالسؤالين الأولين، ألا وهو: لـمـن يتعين أن نترجم؟

هذا السؤال الذي لم يطرح ضمن الأسئلة "الأساسية" الثلاثة المذكورة أعلاه هو بيت القصيد هنا.

الترجمة نشاط يقوم به البشر لفائدة البشر، بطبيعة الحال، وليس لرفوف المكتبات... ونتائج الترجمة مآلها الاستهلاك أو نقيضه، وهو في هذه الحالة: الهلاك. لابد، إذن، أن تُهيأ للكتب المزمعِ ترجمتُها سبل الاستهلاك كي لا تهلك. لأن الكتب والمعارف المستهلكة بفضل الترجمة تصبح حية مفيدة وتغدو ترجمتها نشاطا نافعا. يتعين ألا نترجم كي تتراكم أعداد الكتب المترجمة بعضها فوق بعض، أو من أجل أن ترضى عنا التقارير الدولية [التقرير الأممي لعام 2002، مثلا...]. يتعين أن نترجم لـ"من" سيستفيد من الكتب والمجلات والمحتويات المترجمة في المواقع الشبكية. إن كانت هناك حركة جديدة في هذا الميدان، فينبغي أن توظف لصالح طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس، بل ولفائدة من لم يولدوا بعد.

يتعين أن تُمارس الترجمة لفائدة من "لا يتغطون بمتاع الناس"، لأنهم، بفضل الترجمة، يتدثرون بغطاء لغتهم لا لغة الآخرين.

وللحديث بقية...

عبد الله العميد