رسم كاريكاتوري يشعل غضب مسيحيين هولنديين
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl


لا يتعلق الأمر هذه المرة، كما هو معتاد، برسوم تسيء إلى الإسلام أو إلى مقدس من مقدساته، كالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما برسم كاريكاتوري يمس الدين المسيحي من خلال الإساءة الجلية إلى المسيح عليه الصلاة والسلام!
ترى أين ومتى وكيف حدث هذا؟ وما هي أهم خلفيات هذا الحدث اللا متوقع؟ وهل ثمة أي ترابط بين الإساءة عن طريق الرسوم إلى الإسلام وبين هذه الإساءة بالرسوم كذلك إلى المسحية؟
تتمثل هذه الإساءة من خلال رسم كاريكاتوري نشرته جريدة هولندية محلية في صفحتها الأخيرة، وهي جريدة Wereldregio، التي تصدر في إحدى الجزر الهولندية الواقعة في منطقة بحر الجنوب، وتحديدا في الشق الغربي من جنوب هولندا، وتدعى جزيرة Schouwen-Duivenland، وقد رسم هذا الكاريكاتور الفنان الهولندي (أري رون)، وهو من مواليد 1977 في براورس هافن، وتندرج تجربته الفنية في دائرة التجربة الشبابية الجديدة، حيث يقدم لوحات متنوعة، تجمع بين التشكيل والكاريكاتور، وبين الواقعية والسريالية.
ولم يعرف على هذا الفنان بإساءته لأي جهة، حتى أنه تفاجأ بموقف ثلة من المواطنين المسيحيين من هذا الرسم الكاريكاتوري، الذي لم ينو من خلاله الإساءة إلى المسحية أو إلى أي رمز من رموزها المقدسة، حيث أثبت رئيس تحرير الجريدة (فان در فاودن) لصحيفة تلغراف الذائعة الصيت، بأنه لم يكن المقصود من ذلك الرسم تجريح الناس وإهانتهم. وقد تم رسم ذلك الكاريكاتور بصدد المنحة المالية المقدرة بـ 750 يورو، التي خصصتها بلدية Schouwen-Duivenland لإحياء ذكرى مرور 400 عام على سياسة الإصلاح الكنسي، في الوقت الذي أوقفت فيه كل مثل هذه المنح المادية!
بمجرد ما ظهر هذا الرسم الكاريكاتوري على الصفحة الأخيرة من جريدة Wereldregio، نشأت ضجة كبيرة عبر تلك الجزيرة، قامت بها مجموعة من المسيحيين الهولنديين، حيث سبب ذلك الكاريكاتور جرحا عميقا في مشاعرهم، فراحوا يصبون جام غضبهم على تلك الجريدة، عبر عشرات الرسائل والإيمايلات والمكالمات، التي تعبر عن غضب أصحابها الشديد وتذمرهم القوي من ذلك الرسم، لأن دم المسيح يمنع مطلقا استعماله للتنكيت وإثارة الضحك! لا سيما وأن هذا الرسم يتضمن ثلاثة أشخاص، حيث يجلس على المائدة رجل على اليمين وامرأة على اليسار، ويتوسطهما رجل واقف، يأخذ في يده كأسا، وهو يقول: "اشربْ هذا المشروب الممزوج لأنه دمي".
عقب نشوء هذه الضجة، عمدت إدارة الجريدة إلى سحب هذا العدد من بعض المحلات التجارية، كما ورد في مجلة إلسفير الأسبوعية، أما جريدة تلغراف اليومية، فقد تضمن عددها ليوم الإثنين 10 مارس 2008 مقالا إخباريا، يحمل عنوان (هولندا وشغب الرسوم الخاصة بها)، جاء فيه أن صاحب محل تجاري تلقى نقدا لاذعا حول هذه الجريدة، مما جعله يسحبها من أكشاك محله!
كما أن الصحافة الهولندية سجلت عدة ردود أفعال، التي لم تتعد مجرد عبارات الغضب وكلمات الشجب، حيث اعتبر أحد المواطنين المسيحيين أن هذا الرسم الكاريكاتوري أفزعه، لأن المسيح ضحى بنفسه لينقذ البشرية، لذلك ينبغي التبرك بدمه المراق من أجلنا، لا التنكت به لإثارة الضحك والسخرية، واتهم مواطن آخر الجريدة بأنها فاشية، ليست بحاجة إلى الاستهزاء بدم المسيح في رسم (أري رون)، حيث كثير من الناس في هذه الجزيرة جرحوا في مشاعرهم.
في مقابل ذلك، عبرت جريدة Wereldregio، عن أنها لم تسع بتاتا إلى الإساءة إلى المسيح عليه الصلاة والسلام، وأنها تعتذر عن ذلك بشدة، وقد تجسد اعتذارها جليا، كما جاء على لسان رئيس تحريرها، في منح حيز كاف لواعظ مسيحي يكتب عمودا في الجريدة، للتعبير مرتين عن موقفه الرافض لهذا الرسم.
في حقيقة الأمر، لم نعمد إلى تناول هذا الموضوع لغرض الإخبار بما وقع فحسب، وإنما لمدى إحالته على الإساءات اللا متناهية التي تعرض ويتعرض إليها الإسلام، من خلال حرب الرسوم الكاريكاتورية المستهزئة بمختلف المقدسات الإسلامية، فهذه الإساءة غير المقصودة، التي وجهت هذه المرة إلى شخص المسيح عليه السلام، هي من نفس جنس وطبيعة الإساءة التي توجه إلى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
على هذا الأساس، إنه بمجرد ما عبرت ثلة من المسحيين الهولنديين عن غضبها الشديد من هذه الإساءة الموجهة إلى المسيح، عمد الإعلام الهولندي إلى ربط الحدث أو تشبيهه بحدث الرسوم الدانماركية وغير الدانماركية التي أساءت إلى الإسلام، فجريدة Wereldregio، التي لم يكن في نيتها إهانة المسيح، رأت أن القراء المسيحيين استمدوا شغب الرسوم من الدانمارك، حيث يحس الإسلام بحق أنه مهان، وهذه شهادة حية من هذه الجريدة لصالح الإسلام والمسلمين، فهي تثبت أن الرسوم الدنماركية أساءت إلى نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، أما جريدة تلغراف اليومية المعروفة باللا موضوعية والنزاهة في التعامل مع قضايا المسلمين، فقد أشارت إلى أن هذه المرة لم تقم ثائرة متطرفين إسلاميين، وإنما قامت ثائرة متطرفين مسيحيين! وهذه شهادة كذلك لصالح الإسلام، حيث أن الغيرة على الدين (وهو في نظر البعض تشدد أو تطرف!) ظاهرة إنسانية مشتركة، ليست قصرا على ما هو إسلامي، بقدرما لها وجود في سائر الأديان والثقافات والأمكنة والأزمنة.