امرأةٌ أربعينية, قصيرة, سمراء, لامعةُ العينين, شديدةُ التوقّدِ, ليس فيها ما يلفتُ النظرَ, ومع ذلك فهى تملأُ السمعَ والبصرَ وكأنَّها جمرة نار فى ليلٍ شديدِ البرودةِ والظُّلمة؛ فهى مبعثٌ للدفءِ والنورِ معاً.
حكايتُها تعرفها القرية, ولكننى التقيتها فى منزل أختى, فكنتُ أرى وأسمعُ تجسيداً حيّاً لفصولِ قصةٍ غيرِ معتادةٍ.
فى قريةٍ تلتوى فيها الألسنةُ بعدة لهجاتٍ بدوية وصعيدية وقروية تتحدث هى وحدُها بلهجةٍ قاهريةٍ محببةٍ مختلطة ببعض كلمات بدوية لم تنسَها منذ كانت ذات أربعِ أو خمسِ سنواتٍ. فقد استقرت لدى عائلتِها بالقرية بعد سنواتٍ طويلةٍ جداً من العمل فى القاهرة كمربِّيةٍ لدى عائلةٍ قبطية ثرية تضرب جذورُها فى أعماقِِِ الصعيد. كبُرت بين ربوع البيت الدافىء محاطةً بحب الأب والأم والأبناء الذين اعتبرتهم إخوتَها. حكت لى كيف إنها فُقِدَت وهى صغيرة, وتم العثورُ عليها لدى العائلة القبطية. قالت: "كنتُ أصرخ رافضةً العودة مع أبى؛ فقد بهرتنى حياتُهم. ثم انتقلتُ معهم للعاصمة بعد اتساع نشاطِهم وأعمالهم, وذلك بعد تسويةِ الأمر مع والدى الذى وافق على عملى لديهم ورعايتهم لى فى المقابل. ثم.. هاهى المدنيّة والحضارة وهذا العالم الذى انفتحت أبوابُه على مصاريعِها أمامى: الملابسُ, مصفّفو الشعر, النوادى, المصايف, الأحياءُ الراقية, وحتى نجومُ السينيما, كل ذلك كان جزءاً من حياتى. فى احتفالات رأسِ السنة, كنت أستيقظ من نومى لِأجدَ هدايا بابا نويل- قالتها بلكنةٍ فرنسيةٍ- مخبَّّأة تحت السَّرير. كنت أحضرُ معهم قُدَّاساتِ الأحد والأعيادَ القبطية, ولم أشعر يوماً أننى مختلفةٌ عنهم إلا عندما أهدتنى أمى القبطية سجَّادة صلاة وأوصتنى بالحفاظ عليها.
ولكنَّنى استيقظت يوما, على طريقة أهل الكهف, لأجد أننى على أعتابِ الأربعين: تذكّرت أمى فى القرية والتى كنتُ أزورُها من وقتٍ لآخر. هى الآن مريضةٌ, وحيدةٌ بعد رحيل أبى عنها واستقلال إخوتى كلٌّ بحياتِه الخاصة. ولكننى لا أكتُمكِ سراً- قالتها وهى لاتُخفى دموعاً قد تحدّرت من عينيها- أشعرُ بحنينٍ للصخَبِ الذى كنتُ أحياه ولا يزالُ ينتظرُنى, ولكن من العدلِ أن أُقاسمَ عائلتى بعض الشقاء وقد استحال عليهم أن يشاركونَنى بعض الترف. سأظل هنا فى القرية حيث السكونُ والعزلةُ والغربةُ.. أمى لا تشعرُ حتى بوجودى؛ فهى صمَّاءُ, وعلى اتِّساع عينيها لا ترى النور, تأخذ طولَ الغرفةِ وعرضَها جيئةً وذهاباً تحبو كالأطفالِ, تنام جُلَّ النهارِ, أسمعها تحدث أشخاصاً لا أحدَ يراهم, ربما يكونون قضَوا نحبَهم".
انتهى حديثها لى, وبعد أن تناولَتِ الغداءَ, جاءت للجلوس بجانبى أمام التلفاز.. ثم تسلَّل ذراعُها بخفّةٍ ليطوِّقَنى من ظهرى, والتقى ذراعاها فى عناقٍ دافىءٍ لى, و سرت فى أوصالى تلك الحرارةُ المعتادة التى أشعرُ بها كلّما غمرنى أحدُهم بعاطفةٍ صادقةٍ, أحسستُ بسخونتِها فى وجنتَىَّ تم سرت فى جسدى كلِّه, وانتزعتُ من شفتىَّ ابتسامةً على استحياءٍ ولم أنطق بكلمةٍ.
لا أعرف لماذا تذكرتُ لحظتَها زهرةَ الياسمين نجميّة الشكلِ: لتلك الزهرةِ خمسُ بتلاتٍ ورائحةٌ قوية سريعةُ الانتشار تخترق الحواسَّ وكأنها جزءٌ منها, حتى فى فصل الشتاء وقد نَدُرت وتناثرت على الأغصانِ وتبدَّل لونُها ليتحولَ من الأبيضِ الزاهى للأصفرِ الباهتِ, فإنَّ رائحتَها لا تغادر النطاق الذى وُجِدت فيهِ فتَخالُ أنك فى طريقِك لدخول طوقٍ من مجالٍ مغناطيسىٍّ شديدِ الجاذبيةِ, شديدِ الحُلولِ والاقتحامِ. تلك المرأةُ كانت أيضاً زهرةَ ياسَمين.
المفضلات