نحو إعلان عربي للتعدد الثقافي
( الهوية المتعددة للأمة)


" قال أبي :
لا تقصصْ رؤياكَ على أحدٍ
فالشارعُ ملغومٌ بالآذانْ
كلُّ أذنٍ
يربطها سلكٌ سرّيٌ بالأخرى
حتى تصلَ السلطانْ "
فؤاد الصايغ

1ـ في الحالة العربية :
لقد طغت على الأمة العربية منذ قرون عديدة فكرة الانتماء الموحد لكل مكونات الجسم العربي : ثقافة وفكرا وعقيدة ومذهبا . بحيث كان يتصور أن ابن الوطن العربي يفكر بنفس الشكل ويعتنق نفس العقيدة وله نفس المذهب . وقد أدى هذا الأمر إلى تدبير خاطئ للاختلاف في كل مستوياته . فشهدنا قمعا ممنهجا للآراء السياسية المخالفة ، وتهميشا أو حربا على الأقليات العرقية والدينية واللغوية ، وتكفيرا وتخوينا للمعارضة الفكرية ....بحيث غدا الواقع العربي أمام الرائي كثلة موحدة في تنميطها العقدي والسياسي ، وحتى الفني .
لكن في العقد الأخير بدأت الصورة العامة تبرز بعض خدوشها . حيث بدأنا نعترف ، مخيرين أو مجبرين ، بوجود تعدد فكري وعقدي في المجتمع العربي . لكن هذا الاعتراف أخذ طابع الصراع والتصادم في العديد من الحالات . وتستوقفني في هذا الإطار حادثتين يمكن اعتبارهما تلخيصا للحالة العربية:
ـ الأولى ما كشف عنه الشاعر العراقي عدنان الصائغ المقيم في السويد بأن إسلاميين متطرفين هددوه بقطع لسانه ومن ثم قتله وذلك في شريط فيديو يصور كل ذلك التهديد نشره على موقعه على شبكة الانترنت قائلاً في تعليقه "الآن وبعد نجاتي وبقائي على قيد الشعر، أقول: ما الشعر إلا مغامرة كبيرة به خرجت من الحرب سهواً عام 1993، وبه نجوت من الموت بأعجوبة في مهرجان المربد الثالث عام 2006 في البصرة، وأضاف -وفقا للوطن الكويتية- بعد قراءاتي لنصوص مشاكسة قليلاً ونزولي من المنصة وسط تصفيق لم اشهد مثله في حياتي، تقدم إلي احدهم، من الميليشيات الظلامية مهدداً إياي بقطع لساني وعلى أثرها واستجابة لنصيحة الأصدقاء الذين تجمعوا حولي وخبروا تهديداتهم جيداً غادرت إلى الكويت متجها إلى لندن حيث أقيم حالياً، هذا لن يوقفني أبدا وسأواصل تحديهم، أنا الأعزل الذي لا املك سوى قلمي في غابة البنادق."
ـ الحادثة الثانية هي الحملة المنظمة لتكفير الشيعة وعقائدهم من قبل رموز الفكر الوهابي وزعمائه . فبعد انتشار المواقع الإلكترونية التي تناقش المذهب الشيعي وتخرجه من دائرة الانتماء الإسلامي تطلع علينا وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بكتاب "حكم سب الصحابة" الذي يقع في (80) صفحة من القطع الصغير، ويضم بين دفتيه أقوالاً تكفيرية لكل من ابن تيمية وابن حجر الهيثمي العسقلاني. وفي نفس الوقت طلعت علينا جريدة "الزمان" بخبر مفاده أن منظمة مجهولة تحمل اسم (سرايا الثأر) أمهلت العرب السنة من أبناء البصرة حتى الأول من الشهر المقبل لمغادرة المدينة وإلا واجهوا الموت.
وهذين الحدثين يثبتان عمق هوة الخلاف داخل الجسم العربي . حيث لازال الإبداع الفكري والفني يواجه بمعاول التكفير والهدم والتخوين ، ولا زالت لائحة المطلوبين على ذمة القتل من أجل كلمتهم الحرة طويلة ومتجددة من جميع التيارات والطوائف . وفي المقابل تتناسل الكتابات "الحربية" على هذا التيار أو ذاك وعلى هذا المذهب أو الآخر التي تتأثر عادة بالواقع السياسي لكن دون أن يلغي ذلك وجودها الأصيل في الفكر العربي. حيث تطلع علينا بين الحين والآخر نماذج لهذه المواجهات المكتوبة بين الشيعة والسنة ، بين العلمانيين والإسلاميين، بين العرب وغيرهم من أكراد وتركمان وأمازيغ ....مما يضطرنا إلى التفكير الجدي في إعادة القراءة لمفهوم الأمة العربية : فهل نحن أصلا أمة ؟ وإذا كنا كذلك هل نحن نؤمن بالتنوع الداخلي ؟
أعتقد أن ثقافتنا قد بنيت على قمع الضد بناء على رؤية انعزالية تنسب للذات كل عناصر العلو العقدي والفكري . ولكي نواجه هذا التنميط الذي يحنط ذاتنا العربية لابد أولا من الاعتراف بوجود تنوع عرقي وديني ومذهبي داخل الجسم العربي ومن ثم البدء في استراتيجية موحدة لتنظيمه وتأطيره ومأسسته ، بحيث يصبح تنوعا إيجابيا لا مهدما وذلك عبر إعلان عربي للتنوع الثقافي على غرار الإعلان العالمي للتنوع الثقافي . فلماذا الإعلان ؟ وما هي بنوده ؟
2 ـ الإعلان العربي للتنوع الثقافي
إن الاقتناع بوجود أنسجة فكرية مختلفة لدى عموم القاعدة الشعبية وأصحاب القرار يفرض تدبيرا سليما للتنوع . فلا يمكن بأي حال من الأحوال فرض أنموذج مذهبي على مخالفيه ، أو تأطير الناس بأكملهم داخل هوية واحدة .لأن ذلك هو العامل الذي أنتج الفوضى المذهبية و"الهوياتية" في العالم العربي . ويظل النموذج العراقي المثال الأنصع لهذه الفوضى . لكن لا يمكن القفز على النماذج المنتشرة على طول الوطن وعرضه والتي تظهر بين الفينة والأخرى مثل :المسيحية في مصر والأمازيغية في الجزائر والمغرب والأكراد في سوريا والعراق،....وعند بداية الحياة التكتونية لحمم كل طائفة أو مذهب تجد من يسارع إلى نسبة الأمر إلى الخارج أوأياد خفية أو في أحسن الأحوال تضخيم الإعلام للصورة كما حدث في أحداث الإسكندرية . وهذا يدل على أننا لا زلنا لم نستوعب حقيقة أساسية هي أن العالم العربي يعيش أزمة هوية وانتماء . وسواء كان للخارج دور أم هو مجرد وهم أهل السلطان ، فإن الحل يكمن في توحيد جهود المثقفين العرب والمبدعين من أجل اقتراح إعلان عربي للتنوع الثقافي تحافظ فيه كل الطوائف والأقليات والمذاهب والتيارات على حقوقها الوجودية .وأهم بنود هذا الإعلان التي نقترحها هي كالآتي :
ـ التنوع الثقافي ضمانة أساسية لحقوق الإنسان في جغرافية الوطن العربي . حيث يمكن من خلاله التعبير الحر عن هويته الذاتية داخل المشترك الجمعي.
ـ ضمان الحقوق الثقافية للأقليات المختلفة عرقيا ودينيا ولغويا .
ـ الحفاظ على التراث الثقافي لجميع الأقليات والطوائف والمذاهب ليس بشكلها الفلكلوري المشوه بل باعتبارها مصدرا للإبداع .
ـ ضمان حرية التعبير لكل التيارات والأفكار والتوجهات الثقافية .
هذه بعض المبادئ الكلية التي نعتقد ضرورة إدراجها في هذا الإعلان والذي يبتغي حسن تدبير الاختلاف دون تطرف أو عنصرية مقيتة ولن يتأتى ذلك إلا عبر الحل الديمقراطي .
3 ـ الديمقراطية والهوية :
لا نعتقد أن هناك دولا لا تعاني من وجود فوارق عرقية وثقافية داخل شعوبها . لكن الدول الديمقراطية الحديثة استطاعت تدبير اختلافها بطريقة حداثية وديمقراطية . فعلى سبيل المثال سويسرا تتكون من ثلاث مقاطعات لا تتكلم نفس اللغة : ألمانية وإيطالية وفرنسية . وبلجيكا موزعة بين لغتين : الفرنسية والفلامانية . وفي كندا يوجد جزء من الشعب يتكلم الفرنسية في مقاطعة الكيبيك والباقي يتكلم الإنجليزية . لكن كل هذه الدول استطاعت أن تصل إلى أن الدولة ليسا نمطا ثقافيا واحدا وإنما هي مكون سياسي قانوني يوحده الانتماء الوطني . ومن ثم فإن الاختلافات تذوب في إطار التعبير الحر عن الهوية الخاصة ومن خلال مأسستها . وللعرب الذكرى والعبرة . فالإطار الأمثل لتجاوز كل الشقاقات هو تذويبها في مؤسسات تمثيلية تحافظ على لحمة الدولة دون أن تلغي الانتماء الذاتي . ولعل الإعلان يكون البداية الأسلم لضمان التنوع الثقافي داخل جسم مكون من هويات عديدة ويصر على أنه أمة واحدة .