آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: إسمع يا وليد

  1. #1
    عـضــو الصورة الرمزية د.سليم صابر
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    69
    المشاركات
    189
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي إسمع يا وليد

    إسمع يا وليد
    نشر في جريدة النهار بتاريخ 5- آذار - 2008

    في البدء كنّا، وكان الجبل، وكانت مواثيقٌ وعهودٌ، وكان عيشٌ مشترك. كان ذلك قبل لعبة الأمم. قي البدء كنّا نرفض الفِتن، نعيش بسلام، نبني صداقات، نتبادل الأحلام ونتجاذب السهر. ترعرعنا على هذه الأرض، لعبنا وكبرنا، شقينا وتلاحمنا، أقمنا وما أزانا أحد. بالضيم ما قبلنا، شكلنا منعة صلبة، مشينا قدما طوال العمر، نبني الخُلُقَ قبل الحجر ونواصل مع الوقت السفر. هذه المواثيق صُنَّا على مرّ الزمن، وعلى الناس حافظنا، علاقات ودّ أنشأنا و ما نكسنا العهد، أحبابا بقينا وبقي الجبل.
    في هذا المكان ولدتُ، وولد أجدادُكَ، وولدتَ مثلي هنا. ما رضينا بذلٍّ، ما قبلنا المهانة، تحالفنا دوما، أشاوس كنا، حاربنا الغازي، قاتلنا بضراوة وانتصرنا وما فرّقتنا المحن. ذلك اليوم كان للصدق مكانه... آه ما أقسى القدر!
    أتسمع ما أقول؟
    إسمع يا وليد...
    بلادنا أرض سلام، بالمحبة التقينا، وعشنا أخوّة حقيقية، لا يفرّق بيننا أحد. نصادق مَنْ بالمودّة يأتي، وحده من يخاصمنا يلقى منا الحمم ولا نعادي أحد. نسير دربا سويًّا ونواكب الأُمم. هذا شأننا يا وليد ودربنا الطويل، هذه حكايتنا تأكّد مذ كان للقلب نبض. أُنْشِئتَ على الإخلاص، وسرتَ بلا خوف، حتى انقضى الأمر وأتى من يقسِّم وأتت معه الحرب كوارث وقتل ودمار، وموت يغفو على وسادة من دم! أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    دعني أخبرك ما حصل
    وصلت الحرب على حين غفلة، خجولةً في البدء، تدقّ الأبواب بحذر، لكنّها ما لبثت أن أظهرت عن وقاحةٍ سافرة، مبرزةً أنيابها الحادّة، وبدأت تقضم الأرواح وتبتلعها بوحشيّةٍ مخيفةٍ وكأنّ جوفها لا يمتلئ! كان ذلك في نهاية صيفٍ مشتعلٍ بنار الأحداث، حيث الموت يهوى الإنسان في عتمة ضياء المعارك ضمن لحظات غدر مفاجئة. بات البلد بأكمله في غليان مستمرٍّ، وكأنّه على فوهة بركان يبشّر بالانفجار. اكفهرّ أمن هذا الوطن، فما من انفراجٍ يلوح في الأفق. ما من أملٍ في إبعاد تلك العواصف الهوجاء التي تتحضّر بغيومها الكثيفة وتتلبّد فوق سمائه، وموسم الشّتاء يُبشّر بهطول الكوارث مع أمطار الدم الغزيرة، وصقيع الموت ينتظر الناس، كلّ الناس، من دون استثناء! أصبح الأمر والفعل للبندقيّة والقول لتجّار الحرب والسلاح والأرواح.
    كبرت دائرة الخوف من العنف، وبرز غول الحرب فاغرا الفاه بكلّ جشعٍ، وبدأت تبين ملامح الخراب والدمار في الأجواء. وتفشّت معالم الأحزان من ويلاتٍ ومصائب في كلّ منزل.
    إنّها دوّامة الحرب بشؤمها الزاحف، بعنجهيّة اقتدارها الساخرة، باستهزائها من مصائر البشر، بتواجدها الدائم واستعدادها المتواصل للانقضاض على أوّل فرصةٍ سانحة لها، لتعبث بالأرواح. إنّها الحرب تُفلت دوائر الغضب وتفجّر الحقد وتزيد من نزيف الجراح وتغمد سيوف الغدر في الظهر وتطعن روّاد الحقيقة على حين غرّة. إنّها الحرب تُعَمّد الألم وتدمّر البلد وتشرّد النفوس وتشرذم الفرح وتهجّر الإنسان!
    أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    امتدت الظلمة إلى النَفوس وبدأت تجاور المجازر والاقتتال والتهجير، حيث كؤوس الموت تُجرع دُفُعاتٍ دُفُعات. انتصب الرعب على مفارق الذات ليخيّم فيها، وبدأ الموت يهرول في كلّ اتّجاه. راح يحصد الرؤوس في كلّ مكان، ومن دون إنذارٍ مسبق، ويصطاد أجسادها على الطرقات، يقتنصها من خلف الأبواب وينتشل الروح منها بلا استئذان. انطلق يختلس الحياة بصلف، يأتيها على حين غرّة وهي في المنازل أو على الشرفات، أمام الحواجز أو في الساحات، فوق أسطح الأبنية أو في الملاجئ. يأخذها ويرحل، يسير بها دون الاهتمام بما يخلّفه من مآسي وشجن. كان يأتي بسبب هويّةٍ تحمل دمغة مذهبٍ أو طائفةٍ معيّنة، أو بشكل قنبلةٍ يدويّة، أو نتيجة لرصاصةٍ طائشة، أو مع قذيفةٍ من مدفع ضلّت طريقها، أو على طرف شظيّةٍ من انفجارٍ قريب، أو بطريقة إعدامٍ جماعي وهي الأشنع والأفظع.
    إنّها زفرة هاربة من الماضي الأليم أتعلم؟ حيث خمره الرعب تُسكِر كلّ الأنام وتُغرِقهم في واقعهم المخيف وحيث المدافع تعربد قصفا على أحياء سكنيّة بأكملها من دون سببٍ وجيه!
    حينها تقاسمت الأحزاب المتناحرة المناطق وكأنّها قطعة خزفٍ مختلفة الأشكال فسيفسائية الألوان، ففي كلّ بقعةٍ حزبٌ وفي كلّ حيٍّ تنظيمٌ وفي كلّ بيتٍ تنافرٌ واختلافٌ في الآراء. كان على الإنسان أن يقطع كلّ تلك الحواجز، وما أكثرها، وقد شكّل الحاجز النفسيّ العائق الأكبر في تلك الحرب المدمّرة. تصارعت فيما بينها منحّية بذلك فرصة السلام ممعنة بطشًا وفظاعة بحربٍ قذرة جرّت الويلات على الناس والدمار على كلّ ما في هذا الوطن من حضارة توارثتها الأجيال عبر التاريخ.
    أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    هُدِّمَتْ أسس التعايش إذا، وهُشِّم الوفاق بين الناس، وسيطر الرعب وتملّك الذعر كلّ الأنام. نشبت المعارك من دون أيّة ضوابط، وبشراسةٍ لا ترحم، وتفشّت صناعة القتل المقزّز والتلذّذ بطُرق تنفيذه! أراد كل طرفٍ إلغاء الآخر ليسيطر سيطرةً تامّة على المناطق المتواجد فيها علّه يفوز بالحكم. أو هكذا اعتقد! لقد أعْمَتْ السلطة بصيرتهم وأبهرتهم مراكزها، وظنّ كلّ فريقٍ نفسه قادرًا على التحكّم بزمام الأمور وحسم المعارك وإنهاء الحرب لصالحه. انتهوا في معارك جانبيّة، لا نفع منها ولا أهداف معيّنة، وانغمسوا في مذابح جماعيّة مخزية تقشعرّ لها الأبدان، مكرّسين بذلك التجزئة. هذه هي حالهم في صراعهم الضاري والدامي، وهم، وربّما دون أن يدروا، لا ينفّذون سوى مخطّطات مبرمجة منذ سنوات. أو ربما كانوا يدركون ذلك ويشاركون في تقويض البلد!!! فكان التهجير من أسوأ المراحل التي مرّ بها الوطن خلال الحرب، وأفظعها عنفًا، وأشنعها قتلاً، وأشدّها تنكيلا وتهويلاً.
    لم يكن لهذا الجنون المشترك والشامل، ولهذا الهوس الجماعي وهلوسة البغض، أيّة نهايةٍ قريبة. وانزلق النَاس بمعاناتهم وأحزانهم المريرة، لا سيّما تلك التي تتعلّق بالقنص والخطف ومستنقعاته الرهيبة. إنها قسوة درب موجعة، لم تنسَ جنون البشر والفظاعات التي ارتُكِبَتْ بحقّ الأبرياء. والواقع أنّ تلك الحرب قد أوصلت البلاد إلى الخراب والدمار والاقتصاد إلى الانهيار وأرسلت جيلاً كاملاً من أبناء هذا الشعب إلى الخارج دافعة به إلى الهجرة.
    إنّها الفترة الأكثر إيلامًا صدّقني، حيث هدير النفس الجارح لا يخفت ولهيب جمر المعاناة لا يهمد وصراخ الحقّ الضائع لا يهدأ، وحيث الذعر هو سيّد الموقف!
    وكم من صحفي وأديبٍ وفيلسوفٍ سلك درب التصفية، لرفضه منطق الحرب والهيمنة بالقوّة والقتل على الهويّة. كم من أشخاصٍ خطفوا على تلك الحواجز السيئّة الذكر ولم يُعرَف مصيرهم. لقد بقي سفّاحو هؤلاء الناس من دون أدنى ملاحقة قضائيّة. ومن يفعل!؟! أوَتحاكم التنظيمات والأحزاب نفسها؟ أوَتتنكّر لمواقفها باستعمال العنف وسيلةً للسيطرة على المناطق المتواجدة فيها! أوَتدين قراراتها بالتصفية الجسديّة للمثقّفين وأصحاب الرأي المغاير! لا والله لن تفعل!
    هكذا فَقَدَ الوطن مكوّنات وجوده وأُفْقِد الكرامة، وفُقِّد شعبه من إنسانيّته! لم يعد بالإمكان حتى تنفّس الحياة في ظلّ الإرهاب السائد، وأصبحت حياة المرء في خطرٍ حقيقي داهم ولم تعد تساوي أكثر من ثمن رصاصة! أهذا ما يسمونه لعبة الأمم؟ ما أبخس الإنسان ساعة يصبح سلعة أو مجرّد رقم على لوحة رخاميّة!
    أتسمع ما أقول؟
    إسمع يا وليد...
    في البدء كنا، وكان الجبل، وكانت مواثيق وعهود، وكان عيش مشترك. كان ذلك قبل لعبة الأمم. وأتت الحرب لتدمّر كل ما بنينا، وتركت لنا المآسي والعبر لمن اعتبر. وعُدتَ الآن مجدّدًا تتكلّم عن الحرب وكأنّك لست ممّن رأى! أتيتَ تطلبُ الطلاق وتعلم ما الثمن! أوَنسيتَ الفظائع والفتل والتهجير وكل ما حدث؟ أخبرني بالله عليك، ما بالك تحنّ للمعارك وتعود إلى نغمة الاقتتال، أم أنّك لم تعتبر! أيّ سلام ننشده عبر التاريخ لشعبنا؟ آه أي إرثٍ أضعت... قل لي... أي إرث أضعت يا وليد!

    د. سليم صابر


  2. #2
    عـضــو الصورة الرمزية د.سليم صابر
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    69
    المشاركات
    189
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي إسمع يا وليد

    إسمع يا وليد
    نشر في جريدة النهار بتاريخ 5- آذار - 2008

    في البدء كنّا، وكان الجبل، وكانت مواثيقٌ وعهودٌ، وكان عيشٌ مشترك. كان ذلك قبل لعبة الأمم. قي البدء كنّا نرفض الفِتن، نعيش بسلام، نبني صداقات، نتبادل الأحلام ونتجاذب السهر. ترعرعنا على هذه الأرض، لعبنا وكبرنا، شقينا وتلاحمنا، أقمنا وما أزانا أحد. بالضيم ما قبلنا، شكلنا منعة صلبة، مشينا قدما طوال العمر، نبني الخُلُقَ قبل الحجر ونواصل مع الوقت السفر. هذه المواثيق صُنَّا على مرّ الزمن، وعلى الناس حافظنا، علاقات ودّ أنشأنا و ما نكسنا العهد، أحبابا بقينا وبقي الجبل.
    في هذا المكان ولدتُ، وولد أجدادُكَ، وولدتَ مثلي هنا. ما رضينا بذلٍّ، ما قبلنا المهانة، تحالفنا دوما، أشاوس كنا، حاربنا الغازي، قاتلنا بضراوة وانتصرنا وما فرّقتنا المحن. ذلك اليوم كان للصدق مكانه... آه ما أقسى القدر!
    أتسمع ما أقول؟
    إسمع يا وليد...
    بلادنا أرض سلام، بالمحبة التقينا، وعشنا أخوّة حقيقية، لا يفرّق بيننا أحد. نصادق مَنْ بالمودّة يأتي، وحده من يخاصمنا يلقى منا الحمم ولا نعادي أحد. نسير دربا سويًّا ونواكب الأُمم. هذا شأننا يا وليد ودربنا الطويل، هذه حكايتنا تأكّد مذ كان للقلب نبض. أُنْشِئتَ على الإخلاص، وسرتَ بلا خوف، حتى انقضى الأمر وأتى من يقسِّم وأتت معه الحرب كوارث وقتل ودمار، وموت يغفو على وسادة من دم! أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    دعني أخبرك ما حصل
    وصلت الحرب على حين غفلة، خجولةً في البدء، تدقّ الأبواب بحذر، لكنّها ما لبثت أن أظهرت عن وقاحةٍ سافرة، مبرزةً أنيابها الحادّة، وبدأت تقضم الأرواح وتبتلعها بوحشيّةٍ مخيفةٍ وكأنّ جوفها لا يمتلئ! كان ذلك في نهاية صيفٍ مشتعلٍ بنار الأحداث، حيث الموت يهوى الإنسان في عتمة ضياء المعارك ضمن لحظات غدر مفاجئة. بات البلد بأكمله في غليان مستمرٍّ، وكأنّه على فوهة بركان يبشّر بالانفجار. اكفهرّ أمن هذا الوطن، فما من انفراجٍ يلوح في الأفق. ما من أملٍ في إبعاد تلك العواصف الهوجاء التي تتحضّر بغيومها الكثيفة وتتلبّد فوق سمائه، وموسم الشّتاء يُبشّر بهطول الكوارث مع أمطار الدم الغزيرة، وصقيع الموت ينتظر الناس، كلّ الناس، من دون استثناء! أصبح الأمر والفعل للبندقيّة والقول لتجّار الحرب والسلاح والأرواح.
    كبرت دائرة الخوف من العنف، وبرز غول الحرب فاغرا الفاه بكلّ جشعٍ، وبدأت تبين ملامح الخراب والدمار في الأجواء. وتفشّت معالم الأحزان من ويلاتٍ ومصائب في كلّ منزل.
    إنّها دوّامة الحرب بشؤمها الزاحف، بعنجهيّة اقتدارها الساخرة، باستهزائها من مصائر البشر، بتواجدها الدائم واستعدادها المتواصل للانقضاض على أوّل فرصةٍ سانحة لها، لتعبث بالأرواح. إنّها الحرب تُفلت دوائر الغضب وتفجّر الحقد وتزيد من نزيف الجراح وتغمد سيوف الغدر في الظهر وتطعن روّاد الحقيقة على حين غرّة. إنّها الحرب تُعَمّد الألم وتدمّر البلد وتشرّد النفوس وتشرذم الفرح وتهجّر الإنسان!
    أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    امتدت الظلمة إلى النَفوس وبدأت تجاور المجازر والاقتتال والتهجير، حيث كؤوس الموت تُجرع دُفُعاتٍ دُفُعات. انتصب الرعب على مفارق الذات ليخيّم فيها، وبدأ الموت يهرول في كلّ اتّجاه. راح يحصد الرؤوس في كلّ مكان، ومن دون إنذارٍ مسبق، ويصطاد أجسادها على الطرقات، يقتنصها من خلف الأبواب وينتشل الروح منها بلا استئذان. انطلق يختلس الحياة بصلف، يأتيها على حين غرّة وهي في المنازل أو على الشرفات، أمام الحواجز أو في الساحات، فوق أسطح الأبنية أو في الملاجئ. يأخذها ويرحل، يسير بها دون الاهتمام بما يخلّفه من مآسي وشجن. كان يأتي بسبب هويّةٍ تحمل دمغة مذهبٍ أو طائفةٍ معيّنة، أو بشكل قنبلةٍ يدويّة، أو نتيجة لرصاصةٍ طائشة، أو مع قذيفةٍ من مدفع ضلّت طريقها، أو على طرف شظيّةٍ من انفجارٍ قريب، أو بطريقة إعدامٍ جماعي وهي الأشنع والأفظع.
    إنّها زفرة هاربة من الماضي الأليم أتعلم؟ حيث خمره الرعب تُسكِر كلّ الأنام وتُغرِقهم في واقعهم المخيف وحيث المدافع تعربد قصفا على أحياء سكنيّة بأكملها من دون سببٍ وجيه!
    حينها تقاسمت الأحزاب المتناحرة المناطق وكأنّها قطعة خزفٍ مختلفة الأشكال فسيفسائية الألوان، ففي كلّ بقعةٍ حزبٌ وفي كلّ حيٍّ تنظيمٌ وفي كلّ بيتٍ تنافرٌ واختلافٌ في الآراء. كان على الإنسان أن يقطع كلّ تلك الحواجز، وما أكثرها، وقد شكّل الحاجز النفسيّ العائق الأكبر في تلك الحرب المدمّرة. تصارعت فيما بينها منحّية بذلك فرصة السلام ممعنة بطشًا وفظاعة بحربٍ قذرة جرّت الويلات على الناس والدمار على كلّ ما في هذا الوطن من حضارة توارثتها الأجيال عبر التاريخ.
    أتسمع يا وليد؟
    إسمع يا وليد...
    هُدِّمَتْ أسس التعايش إذا، وهُشِّم الوفاق بين الناس، وسيطر الرعب وتملّك الذعر كلّ الأنام. نشبت المعارك من دون أيّة ضوابط، وبشراسةٍ لا ترحم، وتفشّت صناعة القتل المقزّز والتلذّذ بطُرق تنفيذه! أراد كل طرفٍ إلغاء الآخر ليسيطر سيطرةً تامّة على المناطق المتواجد فيها علّه يفوز بالحكم. أو هكذا اعتقد! لقد أعْمَتْ السلطة بصيرتهم وأبهرتهم مراكزها، وظنّ كلّ فريقٍ نفسه قادرًا على التحكّم بزمام الأمور وحسم المعارك وإنهاء الحرب لصالحه. انتهوا في معارك جانبيّة، لا نفع منها ولا أهداف معيّنة، وانغمسوا في مذابح جماعيّة مخزية تقشعرّ لها الأبدان، مكرّسين بذلك التجزئة. هذه هي حالهم في صراعهم الضاري والدامي، وهم، وربّما دون أن يدروا، لا ينفّذون سوى مخطّطات مبرمجة منذ سنوات. أو ربما كانوا يدركون ذلك ويشاركون في تقويض البلد!!! فكان التهجير من أسوأ المراحل التي مرّ بها الوطن خلال الحرب، وأفظعها عنفًا، وأشنعها قتلاً، وأشدّها تنكيلا وتهويلاً.
    لم يكن لهذا الجنون المشترك والشامل، ولهذا الهوس الجماعي وهلوسة البغض، أيّة نهايةٍ قريبة. وانزلق النَاس بمعاناتهم وأحزانهم المريرة، لا سيّما تلك التي تتعلّق بالقنص والخطف ومستنقعاته الرهيبة. إنها قسوة درب موجعة، لم تنسَ جنون البشر والفظاعات التي ارتُكِبَتْ بحقّ الأبرياء. والواقع أنّ تلك الحرب قد أوصلت البلاد إلى الخراب والدمار والاقتصاد إلى الانهيار وأرسلت جيلاً كاملاً من أبناء هذا الشعب إلى الخارج دافعة به إلى الهجرة.
    إنّها الفترة الأكثر إيلامًا صدّقني، حيث هدير النفس الجارح لا يخفت ولهيب جمر المعاناة لا يهمد وصراخ الحقّ الضائع لا يهدأ، وحيث الذعر هو سيّد الموقف!
    وكم من صحفي وأديبٍ وفيلسوفٍ سلك درب التصفية، لرفضه منطق الحرب والهيمنة بالقوّة والقتل على الهويّة. كم من أشخاصٍ خطفوا على تلك الحواجز السيئّة الذكر ولم يُعرَف مصيرهم. لقد بقي سفّاحو هؤلاء الناس من دون أدنى ملاحقة قضائيّة. ومن يفعل!؟! أوَتحاكم التنظيمات والأحزاب نفسها؟ أوَتتنكّر لمواقفها باستعمال العنف وسيلةً للسيطرة على المناطق المتواجدة فيها! أوَتدين قراراتها بالتصفية الجسديّة للمثقّفين وأصحاب الرأي المغاير! لا والله لن تفعل!
    هكذا فَقَدَ الوطن مكوّنات وجوده وأُفْقِد الكرامة، وفُقِّد شعبه من إنسانيّته! لم يعد بالإمكان حتى تنفّس الحياة في ظلّ الإرهاب السائد، وأصبحت حياة المرء في خطرٍ حقيقي داهم ولم تعد تساوي أكثر من ثمن رصاصة! أهذا ما يسمونه لعبة الأمم؟ ما أبخس الإنسان ساعة يصبح سلعة أو مجرّد رقم على لوحة رخاميّة!
    أتسمع ما أقول؟
    إسمع يا وليد...
    في البدء كنا، وكان الجبل، وكانت مواثيق وعهود، وكان عيش مشترك. كان ذلك قبل لعبة الأمم. وأتت الحرب لتدمّر كل ما بنينا، وتركت لنا المآسي والعبر لمن اعتبر. وعُدتَ الآن مجدّدًا تتكلّم عن الحرب وكأنّك لست ممّن رأى! أتيتَ تطلبُ الطلاق وتعلم ما الثمن! أوَنسيتَ الفظائع والفتل والتهجير وكل ما حدث؟ أخبرني بالله عليك، ما بالك تحنّ للمعارك وتعود إلى نغمة الاقتتال، أم أنّك لم تعتبر! أيّ سلام ننشده عبر التاريخ لشعبنا؟ آه أي إرثٍ أضعت... قل لي... أي إرث أضعت يا وليد!

    د. سليم صابر


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •