آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: دراسة حول ترجمة الزيات لبحيرة لامارتين

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي دراسة حول ترجمة الزيات لبحيرة لامارتين

    دراسة بقلم د. إبراهيم عوض
    حول ترجمة أحمد حسن الزيات لقصيدة "البحيرة" للشاعر الفرنسى لامارتين

    Ibrahim_awad9@yahoo.com
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    قصيدة "البحيرة" للامارتين
    ترجمة: أحمد حسن الزيات
    مشفوعة بدراستى لكل مقطع على حدة

    أهكذا قضى الله أن نمخر في عباب الحياة
    مدفوعين في ظلام الأبد من شاطئ إلى شاطئ،
    دون أن نملك الرجوع إلى ملجأ،
    أو الرسو ذات يوم على مرفأ؟
    ** ليس فى الأصل شىء عن قضاء الله، بل يتساءل الشاعر: أولن يستطيع هو وحبيبته أن يلقيا بمرساتهما ولو يوما واحدا فوق محيط الزمن؟ كذلك ليس فى القصيدة إشارة إلى أى ملجإ يرجعان إليه، بل الحديث عن دفع الحياة لهما على الدوام إلى شواطئ جديدة يحملهما الليل السرمدى دونما رجوع، أيا كان هذا الرجوع دون تعيين المكان الذى يرجعان إليه، وإن كان المقصود الإلحاح على الشعور بالألم جراء جريان الزمن وانقضاء كل شىء دون أمل فى عودة ما فات وانقضى من أوقات السعادة والهناء. وبالمثل لا يوجد فى القصيدة أى حديث عن المرافئ، بل كل ما هنالك هو تمنى الشاعر لو توقف الزمن به هو وحبيته بدلا من هذا الاندفاع الذى يحملهما حملا فوق أمواج الحياة ولا يعطيهما فرصة للتمهل والتقاط الأنفاس. فالمترجم إذن يعكس عقيدته الإسلامية حين يتحدث عن قضاء الله الذى لا مرد له، مما لا وجود له فى النص الأصلى.

    انظري أيتها البحيرة!
    ها هو ذا العام قد كاد يشارف تمامه،
    وأنا وحدي بجانب أمواجك الحبيبة
    أرتقب عبثًا عودة جوليا إليها،
    جالسًا فوق الصخرة التي كنت ترينها جالسة عليها!
    ** أولا: يقول الشاعر إن العام قد ولى لتوه (à peine)، لا إنه كاد يشارف تمامه، بما يدل على أنه لم يتم بعد. لا، لقد شارف تمامه وانتهى الأمر، إلا أن ذلك لم يحدث إلا قبل قليل. ثانيا: ليس فى القصيدة شىء عن ارتقاب الشاعر لحبيبته، فضلا عن أن يكون قد ذكر اسمها. وبالمناسبة فقد سماها على محمود طه: ألفير. وها هو ذا الزيات يسميها: جوليا. والذى فى القصيدة هو قول الشاعر إنه جالس الآن وحده على الصخرة التى كان ينبغى أن تعود جولى فتراها مرة أخرى، تلك الصخرة التى طالما رأتها البحيرة جالسة عليها. وقد قرأت للشاعر اللبنانى صلاح لبكى هذه الأبيات التى يخاطب فيها شاعرنا قائلا:
    يا وحيد الشعر من أي دجى* جئت هذي الأرض أو أي سماء؟
    عشت في الدنيا غريبا ملهما* نير الفكرة شأن الأنبياء
    هل تلاقيت و"ألفير"؟ وهل* هي ما زالت على عهد الولاء؟
    أم تراها أعرضت مذ أبصرت* في سما عينيك أظلال البكاء؟
    وهل العاشق في الجنة، يا* مؤنس العشاق، موصول اللقاء؟
    وفى هذه الأبيات يسمى لبكى حبيبة الشاعر: "ألفير" هو أيضا. والمعروف أنها كانت تدعى: "جولى شارل"، فتسمية الزيات لها باسم "جوليا" مفهوم إذن. ولكن ماذا عن "ألفير"؟ وإذا كانت ألفير هى فعلا جولى شارل، فهل كان هذا اسما آخر لها؟

    كذلك بالأمس كنت تهدرين فوق هذه الصخور المعلقة،
    وتتكسر أمواجك على جوانبها الممزقة
    ويقذف هواؤك الزبد على قدميها المعبودتين.
    ** لم يقل لامارتين إن البحيرة كانت تهدر فوق الصخور المعلقة، بل تحت الصخور العميقة، وشتان هذا وذاك. ثم إنه ليس مما يسوغ فى الذوق العربى وصف الصخور بأنها ممزقة، إذ التمزيق إنما يكون للورق والملابس وما أشبه، أما الصخور فتوصف بأنها مكسورة أو مثلَّمة أو محطمة أو متآكلة مثلا. ومعروف أن الفرنسية تستعمل الفعل: "déchirer" للتمزيق والكسر معا. كذلك فالشاعر لم يقل إن الصخور كلها متثلمة، بل جوانبها فحسب. وفوق هذا فليس الهواء هو الذى يقذف بالزبد، بل الريح. ولو كان الزيات ينظم ترجمته شعرا لكان له بعض العذر. أما وهو يترجم نثرا، وكان ضليعا فى الفرنسية، فليس له مندوحة من الأعذار.

    أتذكرين ليلة كنا فوق صفحتك بين الماء والسماء
    نجدف في سكون وصمت،
    وقد ضرب الله على آذان الطبيعة وختم على أفواه الخليقة،
    فلا نحس حركة ولا نسمع ركزا
    غير إيقاع المجاديف على أنغام الموج؟
    ** فأما التجديف فى صمت فمفهوم ومقبول، ولكن كيف يمكن التجديف فى سكون، والسكون إنما يعنى عدم الحركة، على حين أن التجديف لا يمكن أن يتم دون حركة؟ واضح أن الزيات قد استخدم الكلمتين بمعنى واحد مع أنهما غير مترادفتين. ثم إن لامارتين لم يقل إن الحبيبين كانا يجدفان، بل كان كلامه عن المجدفين الموجودين على سطح البحيرة بوجه عام. كذلك فقوله إن الله قد ضرب على آذان الطبيعة وختم على أفواه الخليقة قد يوحى بأنه لم يعد فى الدنيا كلها أحد أو شىء يصدر صوتا أو يسمع شيئا، ما دام مترجمنا قد ذكر الطبيعة والخليقة كلها فلم يستثن منها شيئا. ولا أظن هذا هو المراد من كلام لامارتين، فقد حدد نطاق ذلك بالمحيط الذى كان يشمله هو وحبيبته لا غير، إذ قال: "au loin". ومعنى هذا أنهما، فى نطاق ذلك المحيط الذى كان يمتد حولهما إلى بعيد، أى إلى ذلك المدى الذى تستطيع آذانهما أن تلتقط أى صوت يصدر فيه، لم يكونا يسمعان شيئا إلا صوت المجدّفين. ثم إن الشاعر لم يحدد الوقت بــ"الليلة" بل بــ"المساء". كما أنه لم يقل إن الحبيبين كانا فوق سطح البحيرة بين الماء والسماء، بل قصد أنه لم يكن هناك صوت يُسْمَع بين الماء والسماء (أو إن أردت الدقة: على صفحة الماء وتحت السماء) سوى صوت المجدّفين.

    وإذا بصوت لا عهد للآذان بمثله ينبعث من ضفتك الجميلة،
    فشق حجاب السكون، وأطلق لسان الصدى.
    وهناك أنصت الموج، وأصغى الهواء.
    وأخذ هذا الصوت الحبيب إليّ يساقط هذه الكلمات:
    ** أرى أن الصوت لم يأت من ضفة البحيرة، بل من القارب نفسه، ثم ترددت أصداؤه فى كل مكان على الشاطئ. وهذا واضح على الأقل من وصف الشاعر للصوت بأنه حبيب إلى نفسه، فهو إذن صوت حبيبته. وإلا فمن يا ترى ذلك الذى كان يغنى ويناشد الدهر أن يقف جريانه حتى يتملى السعادة التى هو فيها؟ لا أظن الشاعر كان يقصد راعيا أو صيادا مثلا يغنى على الشاطئ، وإلا لما نعته بأن صوته حبيب إليه، ولا كان معقولا أن يتجاهله تماما فلا يشير إليه طوال القصيدة ويتركه هكذا مجهَّلا. ثم إن تركيب البيت يدل على أن الصوت قد تردد صداه على شاطئ البحيرة لا أنه هو نفسه صادر من الشاطئ. ولقد فسر د. خليل الموسى الأمر بأن الشاعر "قد سمع صوتا غريبا في داخله" (د. خليل الموسى/ هجرة النصوص وجماليات القراءة والتلقى- قصيدة "البحيرة" نموذجا/ مجلة "الموقف الأدبى"/ دمشق/ كانون الأول 2006م)، وهو تفسير مبعد فى النُّجْعة، إذ لا يصف شاعر فى العادة صوتا كهذا بأنه حبيب إلى نفسه، كما لا يمكن أن يكون لمثل ذلك الصوت المعنوى أى صدى تردده الجبال والوديان فى كل مكان حول البحيرة، فضلا عن أنه من غير المعقول أن ينشغل الشاعر عن حبيبة الفؤاد الجالسة قبالته أو لصقه فى القارب بما يدور فى خواطره من أفكار تتجسم على هذا النحو العجيب الذى يشبه أن يكون هلوسة مرضية. كذلك لم يصف الشاعر الضفة بأنها جميلة، بل بأنها مسحورة، أى سحرها الصوت الفاتن الجميل. وأما قول المترجم إن صوتا قد "شق حجاب السكون" فليس له وجود فى الأصل، بل هو زيادة من عنده أضفت على الترجمة النكهة التى تتلاءم مع سياق الكلام والوصف. كما أن الأصل يخلو من قوله: "وأصغى الهواء"، إذ ليس فيه إلا أن الموج قد ألقى السمع وانتبه.

    أيتها الأرض قفي دورانك!
    وأنت أيتها الساعات قفي جريانك!
    ودعينا نتمتع بعاجل لذاتنا، وننعم بأجمل أيام شبابنا"
    ** فى الأصل: "أيها الزمن، كف عن الطيران، وأنت أيتها الساعات السعيدة توقفى عن الحركة"، فلا خطاب من الشاعر إلى الأرض البتة، أما الساعات فليست الساعات بإطلاق، بل الساعات السعيدة على وجه التحديد. ثم إن بقية المقطع تقول: "دعينا نستمتع باللذات السريعة التى تتيحها لنا أجمل أيامنا". ولا أظن المترجم قد أخطأ هنا، بل حاول أن يقتنص إيحاءات النص فأضاف إليه ما ليس فى ألفاظه وحروفه، مما يكمن بين السطور.

    إن كثيرا من صرعى الحياة وفرائس البؤس
    يتضرعون إليك أن تسرعي بهم
    لتخففي من كربهم،
    فاستجيبي إليهم،
    وكري مسرعة عليهم، وخذي مع عمرهم الذاهب ألم عذابهم الواصب،
    واتركي السعداء والناعمين غارقين في غفلات العيش وظلال الأمن!
    ** مرة أخرى لم يكتف الزيات بترجمة النص كما هو، بل أضاف ما رأى أنه يأتى بالمعنى العميق الذى فى بطن الشاعر بإشعاعاته وإيماءاته. لقد قال لامارتين مثلا: "إن كثيرا (كثيرا بما فيه الكفاية: Assez de) من البائسين يتضرعون إليك"، أما عند الزيات فنقرأ: "إن كثيرا من صرعى الحياة وفرائس البؤس يتضرعون اليك أن تسرعي بهم لتخففي من كربهم، فاستجيبي اليهم". فانظر الفرق بين الأصل والفرع. أما قوله: "وكرى مسرعة عليهم" فليس دقيقا، إذ المقصود أن تعدو الأيام من أجلهم، أى أن تأخذ شقاوتهم وتعاستهم وتمضى بها بعيدا عنهم، وتتركهم فى حالهم. ونفس الشىء نقوله فى عبارة المترجم: "اتركي السعداء والناعمين غارقين في غفلات العيش وظلال الأمن". ذلك أن كل ما قاله الشاعر هنا هو: "أما السعداء فانْسَيْهم".

    على أنني، واويلتاه، كلما لججت في الطلب
    لج الزمان في الهرب، فأنا أتمنى عليه المنى فلا تحقق،
    وأستزيده البرهة اليسيرة فلا أوفق.
    فسألت هذه الليلة أن تكون أطول وأمهل،
    ولكن السؤال خاب،
    وبازي الصبح قد افترس غراب الليل!
    ** ليس فى النص: "واويلتاه"، وكذلك ليس فيه "كلما لججت فى الطلب..."، بل الذى فيه هو أنه "عبثا ما أطلب من الزمن أن يملى لى فيما أنا فيه لحظات أخرى، فهو يفر منى ويهرب. ولقد قلت لليل: أبطئ وأبطئ. إلا أن الفجر سوف يطلع مع ذلك ويجعل الليل بَدَدًا". وانظر كيف استعان الزيات بمحفوظه من التراث فذكر افتراس بازى الصبح لغراب الليل، وهو ما يمكن فهمه وإساغته، أما الذى لا يمكن فهمه فهو تنكبه للزمن المستقبل إلى الزمن الماضى فى قوله إن بازى الصبح قد افترس غراب الليل، فى حين قصد الشاعر أن الزمن لن يُرْعِيَه سمعا أو يحقق له مطلبا، بل سوف يمضى فى طريقه بذات السرعة التى كان يمضى بها ويأخذ معه الليل فيما يأخذ.

    فلنتساق إذن كؤوس الهوى دهاقا،
    ولنقض مآربنا عجالا،
    فليس لسفينة الإنسان مرفأ، ولا لخضم الزمان ساحل:
    إن الزمان ليتدفق، وإنا مع تياره نمر ونمضي!
    ** واضح من العبارة اقتباس المترجم لقوله تعالى فى سورة "النبأ" عن أهل الجنة: "وكأسا دهاقا"، وإن كان قد جمع "الكأس" تعبيرا عن شدة لهفة الحبيبين للسعادة وحرصهما على أن يذوقا منها لا كأسا واحدة بل كؤوسا وكؤوسا مترعة كلها حتى الحافة. وهو اقتباس فى محله تماما، إذ الشاعر يحس أنه هو وحبيبته فى الفردوس ينعمان، وإن كان فردوسا عابرا ليس من طبيعته الخلود، ومن ثم نسمعه يناشد الزمن أن يمنحهما مزيدا من اللحظات، لكن دون فائدة، كما نسمعه يناشد حبيبته أن يسرعا فيستمتعا بالساعة التى هما فيها قبل أن تفر منهما هاربة بين أطواء الزمن حيث لا عودة.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي دراسة حول ترجمة الزيات لبحيرة لامارتين

    دراسة بقلم د. إبراهيم عوض
    حول ترجمة أحمد حسن الزيات لقصيدة "البحيرة" للشاعر الفرنسى لامارتين

    Ibrahim_awad9@yahoo.com
    http://awad.phpnet.us/
    http://www.maktoobblog.com/ibrahim_awad9

    قصيدة "البحيرة" للامارتين
    ترجمة: أحمد حسن الزيات
    مشفوعة بدراستى لكل مقطع على حدة

    أهكذا قضى الله أن نمخر في عباب الحياة
    مدفوعين في ظلام الأبد من شاطئ إلى شاطئ،
    دون أن نملك الرجوع إلى ملجأ،
    أو الرسو ذات يوم على مرفأ؟
    ** ليس فى الأصل شىء عن قضاء الله، بل يتساءل الشاعر: أولن يستطيع هو وحبيبته أن يلقيا بمرساتهما ولو يوما واحدا فوق محيط الزمن؟ كذلك ليس فى القصيدة إشارة إلى أى ملجإ يرجعان إليه، بل الحديث عن دفع الحياة لهما على الدوام إلى شواطئ جديدة يحملهما الليل السرمدى دونما رجوع، أيا كان هذا الرجوع دون تعيين المكان الذى يرجعان إليه، وإن كان المقصود الإلحاح على الشعور بالألم جراء جريان الزمن وانقضاء كل شىء دون أمل فى عودة ما فات وانقضى من أوقات السعادة والهناء. وبالمثل لا يوجد فى القصيدة أى حديث عن المرافئ، بل كل ما هنالك هو تمنى الشاعر لو توقف الزمن به هو وحبيته بدلا من هذا الاندفاع الذى يحملهما حملا فوق أمواج الحياة ولا يعطيهما فرصة للتمهل والتقاط الأنفاس. فالمترجم إذن يعكس عقيدته الإسلامية حين يتحدث عن قضاء الله الذى لا مرد له، مما لا وجود له فى النص الأصلى.

    انظري أيتها البحيرة!
    ها هو ذا العام قد كاد يشارف تمامه،
    وأنا وحدي بجانب أمواجك الحبيبة
    أرتقب عبثًا عودة جوليا إليها،
    جالسًا فوق الصخرة التي كنت ترينها جالسة عليها!
    ** أولا: يقول الشاعر إن العام قد ولى لتوه (à peine)، لا إنه كاد يشارف تمامه، بما يدل على أنه لم يتم بعد. لا، لقد شارف تمامه وانتهى الأمر، إلا أن ذلك لم يحدث إلا قبل قليل. ثانيا: ليس فى القصيدة شىء عن ارتقاب الشاعر لحبيبته، فضلا عن أن يكون قد ذكر اسمها. وبالمناسبة فقد سماها على محمود طه: ألفير. وها هو ذا الزيات يسميها: جوليا. والذى فى القصيدة هو قول الشاعر إنه جالس الآن وحده على الصخرة التى كان ينبغى أن تعود جولى فتراها مرة أخرى، تلك الصخرة التى طالما رأتها البحيرة جالسة عليها. وقد قرأت للشاعر اللبنانى صلاح لبكى هذه الأبيات التى يخاطب فيها شاعرنا قائلا:
    يا وحيد الشعر من أي دجى* جئت هذي الأرض أو أي سماء؟
    عشت في الدنيا غريبا ملهما* نير الفكرة شأن الأنبياء
    هل تلاقيت و"ألفير"؟ وهل* هي ما زالت على عهد الولاء؟
    أم تراها أعرضت مذ أبصرت* في سما عينيك أظلال البكاء؟
    وهل العاشق في الجنة، يا* مؤنس العشاق، موصول اللقاء؟
    وفى هذه الأبيات يسمى لبكى حبيبة الشاعر: "ألفير" هو أيضا. والمعروف أنها كانت تدعى: "جولى شارل"، فتسمية الزيات لها باسم "جوليا" مفهوم إذن. ولكن ماذا عن "ألفير"؟ وإذا كانت ألفير هى فعلا جولى شارل، فهل كان هذا اسما آخر لها؟

    كذلك بالأمس كنت تهدرين فوق هذه الصخور المعلقة،
    وتتكسر أمواجك على جوانبها الممزقة
    ويقذف هواؤك الزبد على قدميها المعبودتين.
    ** لم يقل لامارتين إن البحيرة كانت تهدر فوق الصخور المعلقة، بل تحت الصخور العميقة، وشتان هذا وذاك. ثم إنه ليس مما يسوغ فى الذوق العربى وصف الصخور بأنها ممزقة، إذ التمزيق إنما يكون للورق والملابس وما أشبه، أما الصخور فتوصف بأنها مكسورة أو مثلَّمة أو محطمة أو متآكلة مثلا. ومعروف أن الفرنسية تستعمل الفعل: "déchirer" للتمزيق والكسر معا. كذلك فالشاعر لم يقل إن الصخور كلها متثلمة، بل جوانبها فحسب. وفوق هذا فليس الهواء هو الذى يقذف بالزبد، بل الريح. ولو كان الزيات ينظم ترجمته شعرا لكان له بعض العذر. أما وهو يترجم نثرا، وكان ضليعا فى الفرنسية، فليس له مندوحة من الأعذار.

    أتذكرين ليلة كنا فوق صفحتك بين الماء والسماء
    نجدف في سكون وصمت،
    وقد ضرب الله على آذان الطبيعة وختم على أفواه الخليقة،
    فلا نحس حركة ولا نسمع ركزا
    غير إيقاع المجاديف على أنغام الموج؟
    ** فأما التجديف فى صمت فمفهوم ومقبول، ولكن كيف يمكن التجديف فى سكون، والسكون إنما يعنى عدم الحركة، على حين أن التجديف لا يمكن أن يتم دون حركة؟ واضح أن الزيات قد استخدم الكلمتين بمعنى واحد مع أنهما غير مترادفتين. ثم إن لامارتين لم يقل إن الحبيبين كانا يجدفان، بل كان كلامه عن المجدفين الموجودين على سطح البحيرة بوجه عام. كذلك فقوله إن الله قد ضرب على آذان الطبيعة وختم على أفواه الخليقة قد يوحى بأنه لم يعد فى الدنيا كلها أحد أو شىء يصدر صوتا أو يسمع شيئا، ما دام مترجمنا قد ذكر الطبيعة والخليقة كلها فلم يستثن منها شيئا. ولا أظن هذا هو المراد من كلام لامارتين، فقد حدد نطاق ذلك بالمحيط الذى كان يشمله هو وحبيبته لا غير، إذ قال: "au loin". ومعنى هذا أنهما، فى نطاق ذلك المحيط الذى كان يمتد حولهما إلى بعيد، أى إلى ذلك المدى الذى تستطيع آذانهما أن تلتقط أى صوت يصدر فيه، لم يكونا يسمعان شيئا إلا صوت المجدّفين. ثم إن الشاعر لم يحدد الوقت بــ"الليلة" بل بــ"المساء". كما أنه لم يقل إن الحبيبين كانا فوق سطح البحيرة بين الماء والسماء، بل قصد أنه لم يكن هناك صوت يُسْمَع بين الماء والسماء (أو إن أردت الدقة: على صفحة الماء وتحت السماء) سوى صوت المجدّفين.

    وإذا بصوت لا عهد للآذان بمثله ينبعث من ضفتك الجميلة،
    فشق حجاب السكون، وأطلق لسان الصدى.
    وهناك أنصت الموج، وأصغى الهواء.
    وأخذ هذا الصوت الحبيب إليّ يساقط هذه الكلمات:
    ** أرى أن الصوت لم يأت من ضفة البحيرة، بل من القارب نفسه، ثم ترددت أصداؤه فى كل مكان على الشاطئ. وهذا واضح على الأقل من وصف الشاعر للصوت بأنه حبيب إلى نفسه، فهو إذن صوت حبيبته. وإلا فمن يا ترى ذلك الذى كان يغنى ويناشد الدهر أن يقف جريانه حتى يتملى السعادة التى هو فيها؟ لا أظن الشاعر كان يقصد راعيا أو صيادا مثلا يغنى على الشاطئ، وإلا لما نعته بأن صوته حبيب إليه، ولا كان معقولا أن يتجاهله تماما فلا يشير إليه طوال القصيدة ويتركه هكذا مجهَّلا. ثم إن تركيب البيت يدل على أن الصوت قد تردد صداه على شاطئ البحيرة لا أنه هو نفسه صادر من الشاطئ. ولقد فسر د. خليل الموسى الأمر بأن الشاعر "قد سمع صوتا غريبا في داخله" (د. خليل الموسى/ هجرة النصوص وجماليات القراءة والتلقى- قصيدة "البحيرة" نموذجا/ مجلة "الموقف الأدبى"/ دمشق/ كانون الأول 2006م)، وهو تفسير مبعد فى النُّجْعة، إذ لا يصف شاعر فى العادة صوتا كهذا بأنه حبيب إلى نفسه، كما لا يمكن أن يكون لمثل ذلك الصوت المعنوى أى صدى تردده الجبال والوديان فى كل مكان حول البحيرة، فضلا عن أنه من غير المعقول أن ينشغل الشاعر عن حبيبة الفؤاد الجالسة قبالته أو لصقه فى القارب بما يدور فى خواطره من أفكار تتجسم على هذا النحو العجيب الذى يشبه أن يكون هلوسة مرضية. كذلك لم يصف الشاعر الضفة بأنها جميلة، بل بأنها مسحورة، أى سحرها الصوت الفاتن الجميل. وأما قول المترجم إن صوتا قد "شق حجاب السكون" فليس له وجود فى الأصل، بل هو زيادة من عنده أضفت على الترجمة النكهة التى تتلاءم مع سياق الكلام والوصف. كما أن الأصل يخلو من قوله: "وأصغى الهواء"، إذ ليس فيه إلا أن الموج قد ألقى السمع وانتبه.

    أيتها الأرض قفي دورانك!
    وأنت أيتها الساعات قفي جريانك!
    ودعينا نتمتع بعاجل لذاتنا، وننعم بأجمل أيام شبابنا"
    ** فى الأصل: "أيها الزمن، كف عن الطيران، وأنت أيتها الساعات السعيدة توقفى عن الحركة"، فلا خطاب من الشاعر إلى الأرض البتة، أما الساعات فليست الساعات بإطلاق، بل الساعات السعيدة على وجه التحديد. ثم إن بقية المقطع تقول: "دعينا نستمتع باللذات السريعة التى تتيحها لنا أجمل أيامنا". ولا أظن المترجم قد أخطأ هنا، بل حاول أن يقتنص إيحاءات النص فأضاف إليه ما ليس فى ألفاظه وحروفه، مما يكمن بين السطور.

    إن كثيرا من صرعى الحياة وفرائس البؤس
    يتضرعون إليك أن تسرعي بهم
    لتخففي من كربهم،
    فاستجيبي إليهم،
    وكري مسرعة عليهم، وخذي مع عمرهم الذاهب ألم عذابهم الواصب،
    واتركي السعداء والناعمين غارقين في غفلات العيش وظلال الأمن!
    ** مرة أخرى لم يكتف الزيات بترجمة النص كما هو، بل أضاف ما رأى أنه يأتى بالمعنى العميق الذى فى بطن الشاعر بإشعاعاته وإيماءاته. لقد قال لامارتين مثلا: "إن كثيرا (كثيرا بما فيه الكفاية: Assez de) من البائسين يتضرعون إليك"، أما عند الزيات فنقرأ: "إن كثيرا من صرعى الحياة وفرائس البؤس يتضرعون اليك أن تسرعي بهم لتخففي من كربهم، فاستجيبي اليهم". فانظر الفرق بين الأصل والفرع. أما قوله: "وكرى مسرعة عليهم" فليس دقيقا، إذ المقصود أن تعدو الأيام من أجلهم، أى أن تأخذ شقاوتهم وتعاستهم وتمضى بها بعيدا عنهم، وتتركهم فى حالهم. ونفس الشىء نقوله فى عبارة المترجم: "اتركي السعداء والناعمين غارقين في غفلات العيش وظلال الأمن". ذلك أن كل ما قاله الشاعر هنا هو: "أما السعداء فانْسَيْهم".

    على أنني، واويلتاه، كلما لججت في الطلب
    لج الزمان في الهرب، فأنا أتمنى عليه المنى فلا تحقق،
    وأستزيده البرهة اليسيرة فلا أوفق.
    فسألت هذه الليلة أن تكون أطول وأمهل،
    ولكن السؤال خاب،
    وبازي الصبح قد افترس غراب الليل!
    ** ليس فى النص: "واويلتاه"، وكذلك ليس فيه "كلما لججت فى الطلب..."، بل الذى فيه هو أنه "عبثا ما أطلب من الزمن أن يملى لى فيما أنا فيه لحظات أخرى، فهو يفر منى ويهرب. ولقد قلت لليل: أبطئ وأبطئ. إلا أن الفجر سوف يطلع مع ذلك ويجعل الليل بَدَدًا". وانظر كيف استعان الزيات بمحفوظه من التراث فذكر افتراس بازى الصبح لغراب الليل، وهو ما يمكن فهمه وإساغته، أما الذى لا يمكن فهمه فهو تنكبه للزمن المستقبل إلى الزمن الماضى فى قوله إن بازى الصبح قد افترس غراب الليل، فى حين قصد الشاعر أن الزمن لن يُرْعِيَه سمعا أو يحقق له مطلبا، بل سوف يمضى فى طريقه بذات السرعة التى كان يمضى بها ويأخذ معه الليل فيما يأخذ.

    فلنتساق إذن كؤوس الهوى دهاقا،
    ولنقض مآربنا عجالا،
    فليس لسفينة الإنسان مرفأ، ولا لخضم الزمان ساحل:
    إن الزمان ليتدفق، وإنا مع تياره نمر ونمضي!
    ** واضح من العبارة اقتباس المترجم لقوله تعالى فى سورة "النبأ" عن أهل الجنة: "وكأسا دهاقا"، وإن كان قد جمع "الكأس" تعبيرا عن شدة لهفة الحبيبين للسعادة وحرصهما على أن يذوقا منها لا كأسا واحدة بل كؤوسا وكؤوسا مترعة كلها حتى الحافة. وهو اقتباس فى محله تماما، إذ الشاعر يحس أنه هو وحبيبته فى الفردوس ينعمان، وإن كان فردوسا عابرا ليس من طبيعته الخلود، ومن ثم نسمعه يناشد الزمن أن يمنحهما مزيدا من اللحظات، لكن دون فائدة، كما نسمعه يناشد حبيبته أن يسرعا فيستمتعا بالساعة التى هما فيها قبل أن تفر منهما هاربة بين أطواء الزمن حيث لا عودة.


  3. #3
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    05/07/2007
    المشاركات
    44
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي

    حضرة الدكتور ابراهيم عوض
    شكرا لك على هذه المتابعة الرائدة في بابها
    ويبدو أن هناك ترجمات أخر لهذه القصيدة التي تمثل
    أوج صعود الرومانتيكية .
    لقد كان حظ هذه القصيدة كبيرا , فقد ترجمها عدد من الكتاب ،
    ففضلا عن احمد حسن الزيات 1925، هناك ترجمة لـ ابراهيم ناجي ، والدكتور نقولا فياض،
    ومحمدمهدي البصير 1938 وعبد الرزاق حميدة 1948
    ومحمد اسعد ولاية ، وهناك من ترجمها عن لغة وسيطة ،
    ونعني بذلك ترجمةعلي محمود طه 1926واحمد امين زكي
    والشاعر محمود المحروق 1955 .

    مع خالص التقدير
    كامل عويد العامري


  4. #4
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    05/07/2007
    المشاركات
    44
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي

    حضرة الدكتور ابراهيم عوض
    شكرا لك على هذه المتابعة الرائدة في بابها
    ويبدو أن هناك ترجمات أخر لهذه القصيدة التي تمثل
    أوج صعود الرومانتيكية .
    لقد كان حظ هذه القصيدة كبيرا , فقد ترجمها عدد من الكتاب ،
    ففضلا عن احمد حسن الزيات 1925، هناك ترجمة لـ ابراهيم ناجي ، والدكتور نقولا فياض،
    ومحمدمهدي البصير 1938 وعبد الرزاق حميدة 1948
    ومحمد اسعد ولاية ، وهناك من ترجمها عن لغة وسيطة ،
    ونعني بذلك ترجمةعلي محمود طه 1926واحمد امين زكي
    والشاعر محمود المحروق 1955 .

    مع خالص التقدير
    كامل عويد العامري


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي

    الأستاذ العامرى، سلام الله عليك ورحمته وبركاته، وبعد فكل ما قلته صحيح، وإنى لمدين لواتا بنَسْخ معظم تلك الترجمات التى ذكرتها سيادتك على كاتوبى منذ فترة. ثم عن لى فجأة منذ يومين أن أدرسها، وبدأت بالزيات. وهأنذا أثنى بترجمة سعيد محمد الجندوبى التونسى، وإن لم تورده واتا بين مترجمى بحيرة لامارتين. وسوف تجد دراستى لترجمة الجندوبى هنا فى هذا المنتدى بمشيئة الله. ولك تحياتى وتقديرى


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •