قال تعالى
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(يسن 82)

وأما عبارة "إن الله أمره بين الكاف والنون، فإذا قال لشيء كن فيكون" فهي عبارة يرددها كثير من المسلمين تفسيرا للمراد من الآية الكريمة، وتبسيطا وترجمة لمعناها، وتعبيرا عن قدرة الله عز وجل التي لا تحدها حدود زمان ولا مكان.

وأما الانتقادات التي بتنا نسمعها مؤخرا لهذه العبارة فهي في اعتقادي مجرد اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، فالأستاذ الدكتور محمد اسحق الريفي يقول إن "المشكلة أنه لا يوجد أي شيء بين حرفي الكاف والنون حتى نقول أن أمر الله بين الكاف والنون، كما أن في هذا القول تحديد وحصر لأمر الله بطريقة ما، أضف إلى ذلك أن العبارة "بين الكاف والنون" أو شبيهها لم تذكر في الحديث الشريف أو الآيات الكريمة"، ويضيف قائلا "لذلك أرى أن هذه العبارة التي كثيراً ما نسمعها في خطب الجمعة والدروس الدينية لا أصل لها، وهي خطأ شائع علينا أن نحذر المسلمين منه".

وأما الشيخ العلامة محمد بن عثيمين – رحمة الله عليه – فقد تطرق إلى هذه المسألة في أحد شروحه حين قال: "أودّ أن أنبّه على كلمة دارجة عند العوام، حيث يقولون (يا من أمره بين الكاف والنون) وهذا غلط عظيم، والصواب: (يا من أمره بعد الكاف والنون) لأن ما بين الكاف والنون ليس أمراً، فالأمر لا يتم إلا إذا جاءت الكاف والنون لأن الكاف المضمومة ليست أمراً والنون كذلك، لكن باجتماعهما تكون أمراً"، ويضيف رحمه الله معلقا: "فالصواب أن تقول: (يا من أمره -أي مأموره- بعد الكاف والنون) كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس:82-83)".

وأما عن أصل هذه العبارة فأغلب الظن أنها مقتبسة من أبيات شعر منسوبة إلى الإمام علي رضي الله عنه يقول فيها:

لا تخضعن لمخلوق علي طمع *** فإن ذلك وهن منك في الدين
واسترزق الله مما في خزائنه *** فإنما الأمر بين الكاف والنون
إن الذي أنت ترجوه وتأمله *** من البرية مسكين ابن مسكين
ما أحسن الجود في الدنيا وفي الدين *** وأقبح البخل فيمن صيغ من طين
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *** لا بارك الله في دنيا بلا دين
لو كان باللب يزداد اللبيب غنى *** لكان كل لبيب مثل قارون
لكنما الرزق بالميزان من حكم *** يعطي اللبيب ويعطي كل مأفون

لا أرى شخصيا أي خطورة أو أي خطأ في العبارة المذكورة المستندة إلى الآية الكريمة، وأميل إلى الاعتقاد بصحة الأبيات المذكورة بأعلاه، وبأنها الأصل الذي جاءت منه هذه العبارة المأثورة.

فالمتأمل في الآية الكريمة وفي التفاسير المختلفة يراها تجمع على أن السياق يفيد أن أمر الله وفعله إنما يكون مرة واحدة، من غير تدريج ووقت كأمور الناس، وأنه لا يحتاج في تحقيقه إلى تأن ومهل أو إلى تعدد وتكرار الأمر، وإنما هو يتحقق بكلمة كن كلمح بالبصر كما قال تعالى في الآية 50 من سورة القمر: " وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ".

وأما قول الشيخ العلامة محمد بن عثيمين – رحمة الله عليه – من أن ما بين الكاف والنون ليس أمراً، وأن الأمر لا يتم إلا إذا جاءت الكاف والنون لأن الكاف المضمومة ليست أمراً والنون كذلك، لكن باجتماعهما تكون أمراً"، وأن الصواب أن يقال: (يا من أمره -أي مأموره- بعد الكاف والنون) ففيه تكلف لأنه يوحي بأن أمر الله يحتاج إلى تريث وتمهل بدليل قوله "بعد الكاف والنون"، فأمر الله جلت قدرته لا يحتاج تحقيقه إلى زمان حتى لو كان قصيرا جدا كلمح البصر، حيث إن التشبيه في الآية الكريمة " وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ" ليس المقصود منه مساواة وقت تحقيق الأمر بالوقت اللازم لتحقيق اللمح بالبصر بل إن المقصود به أن الأمر الإلهي لا يحتاج لتحققه إلى مكان ولا حركة ولا زمان مهما كان قصيرا، وذلك لأن التشبيه باللمح بالبصر هنا كناية كلامية، ولأن المكان والحركة والزمان إنما تحققت بأمره تعالى.

كلمة "كن" كلمة مكونة من حرفين لا ثالث لهما، فهي أقل الكلمات حروفا، وهي على عكس الكلمات التي تزيد عن حرفين لا تحتوي حروفا بين حرفيها الأول والأخير، أي ليس هناك شيء بين الكاف والنون، وبالتالي فإن انعدام ما بين الكاف والنون يعتبر كناية أخرى عن انعدام الزمن اللازم لتحقيق أمره سبحانه وتعالى، ولذلك يبدو لي أن عبارة "إن أمره بين الكاف والنون" عبارة صحيحة، وأنها ربما تكون التفسير الأمثل والأقصر والأفضل لقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

والله أعلم،

منذر أبو هواش

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي