المريد

[ابراهيم عثمان]

بقلم: إبراهيم عثمان



المريد
تظهر في الخلاء شجرة وقد ربط الى جذعها بحبل غليظ رجل في عنفوان الشباب، وقد ظهرت عليه علامات العياء والغضب والقلق والتشنج والى جانبه يقف رجل ميسور الحال، وهو يلقي بخطبة عصماء في الهواء الطلق..وغير بعيد عنهما يظهر شبح رجل يحمل بيده جمرة مشتعلة وهو يحاول أن يتسلل الى الشجرة ليشعل فيها النار.

رجل :- ( وهو يلوح بيده في الهواء الطلق أيها الرجال حتى يطلع علينا النهار، يجب علينا أن نبدأ رحلتنا بخطوة نحو الانتظار..وهذا لأن عدالة السماء لن تتحقق بالانتظار..ولكي نكون نحن من يملك هذا الحق (يضرب بقبضته في الهواء من جديد) هذا الحق الذي يعطينا الحق في الانتظار.. يجب علينا أن لانرضى بأكثر من الانتظار، لأن في الانتظار انتصارنا للانتظار، وانتصارنا على الانتظار.
تصفيق خيالـــــــــــي.
الـمــــريد:- آه ياسيدي.. هل تريدني أن اصحو من النوم لاجد نفسي مقيدا بحبل غليظ الى جذع شجرة، وقد اشتعلت فيها النيران..دعني أهرب يا سيدي.. دعني أرحل عن هذه المدينة التي تحرق
أبناءها بالنار وهم نيام.
الصوفـي:- لن يـحدث هذا أبدا أيها الغبي.. تريث قليلا حتى نعرف على الأقل وجهة الريح التي يقال عنها هذه الأيام، أنها تحمل معها نارا سعيرا وتسافر.
المريد:- لقــد انتظـرت طويلا يا سيدي.. انتظرت مجيء الفصول الأربعة
فصلا فصلا.. راهنت على الفرج بالأرض والسماء.. زرعتها قمحا وشعيرا وفاكهة ونخيلا..ثم جلست كيوغي متدرب لتتأمل الأشياء القبيحة التي تربي الوجدان على العصيان لقبحها، ولنبذ
الناس للذي يتصف بها.
[ صمت ]
انتظرت بزوغ نجمة من كبد السماء، تشع من كوكب بعيد عن هذه الأرض (يتوقف..يحاول أن يتذكر ) كانت عيناي قد أخذتا على التحديق في هذا الفضاء الرحب، حتى أحس بالراحة وبألم الراحة.. غتسل بانفعاليهما الجنوني.. هذا الانفعال الذي سيكسر أحلام الرجال العظام..
[ وقــفــــة ]
كنت أفعل ذلك بدافع الفضول والغباء، لعلني أكشف عن كوة أو فرجة أتسلل منهما الى هذا الكوكب الجميل المغري، لأرسم على سطحه أحلام الرجال الذين أشعلوا النار في أجسامهم، ثم تركوها تلتهم
أعضاءهم ومشاعرهم وأفكارهم.
[ يتمدد على الارض.. ثم يوجه عينيه الى السماء الزرقاء، ويجهش بالبكاء ].
لكن عيني كما تراهما من مكانك هذا، أبتا أن تسقطا.. ظلتا معلقتين في الفضاء الرحب بشعرة يقال أنها تملك تاريخا حافلا بالموت
(صمت)
كان رجالها عندما يشتد بهم الحنين الى الموت يحرقون أنفسهم، ثم يرفعون سيوفهم عالية ويلوحون بها في السماء، ليبدوا لعبتهم الشيقة المفضلة.
الصوفــــي:- (بغضب) قلت لك لن يحدث هذا أبدا.. ألا تريد أن تفهم..أن كل ما ترويه هو مجرد تجربة لهروبك دائما الى الامام.
الـمريد:- ( وهو يدور حـــول سيده ) أنت تتعبني يا سيدي.. تريدني أن أعتاد الانتظار، وعندئذ سأحرق بالنار.. سأموت قبل أن أشيع الحرارة والدفء في هذه الديار.
الصوفي:- (ضاحكا) حلمك مشروع يا سيدي لكن ليس قبل أن تحترق، وتتفحم ثم تنحل في تربة هذه الأرض المباركة.. هذه الأرض التي حل فيها الحق، لتكون شاهدة على من يرفعون راية الظلم فوق
ربوعها. ستكون شاهدا على رجالها ونسائها وشبابها وأطفالها يوم الحشر.. سيسألون الواحد تلو الآخر، وفي حضورك عما قدموه لهذه الأرض التي تفوح منها رائحة الشهداء، ورائحة الدماء وأخاف أن لا
تجد ما تجيب به عن أسئلتهم المحرجة (وقفة) يومها سيدقون أجراس الخطر، وسيرفعون في وجهك المشانق والمحارق.
الـمـريــد:- أجـــراسهم تخيفني يـا سيدي، ومشانقهم ستعدم مشاعري وأفكاري، ثم تتولى أعضائي عضوا عضوا، ومع ذلك تطالبني أنت بالانتظار.. تريدني أن أحترق.. تريدني أن أظل هنا واقفا طول
الوقت. أعد الدقائق والساعات والأشهر والسنوات حتى أبرهن على حسن انتظاري. هذا مستحيل يا سيدي. هذا عته وجنون.
الصوفي:-(يدور حول المريد وهو يضرب بعصاه على الارض) اذا كنت حقا تريد أن تكون جديرا برضائي، يجب أن تظل صامدا في انتظارك.
الـمريد:- ( بقـــرف ) لكن الى متى وأنا انتظر ياسيدي؟ لقد نفذ صبري، وبدأت أعصابي تنهار، وشعر رأسي يتساقط ويتطاير في الفضاء.
الصــوفـي:- حتى تتحرك الجبال وتقبل عليك الصحارى والبحار.
الــمريد:- (ضاحكا) أنت تؤمن في مثل هذه الخرفات يا سيدي.
الصوفـي:-(بثقة) لقد صدقت في الماضي خرافات كثيرة..قيل لي وقتها ان
هذا لـمن سابع المستحيلات أن تتحقق مثل هذه التنبؤات الخرافية ومع ذلك لم أفشل، ولم أنهار. كنت أدرك جيدا بأنني سأنتصر حتما عن طريق الانتظار.
الـمــريد:- (بتهكم نقدي ) هـذا عندمـا كـان الانسان يعتقد في السحر، ويعتقد بأن الأرض تدور مرفوعة على قرن ثور.
الصوفــي:-(بعنف) تلك هي الحكمة أيها المجنون. هيا عد الى جذع تلك الشجرة حتى يأذن لك الله، وتقبل عليك الجبال والصحارى والبحار.
الـمـريد:- لكن حكمتك هذه قد فندها العلماء، وأثبتوا أن الارض تدور حول الشمس، وتدور معها الجبال والصحارى والبحار، دون أن تلتقي، أو تتصادم.
الصوفـي:- ( بعنف حاد ) مثل هذه النظريات ابتدعها أناس لا علاقة لهم بأرضنا ولا بأهوائنا وأجوائنا وطقوسنا.
الـمــريد:- (بعناد ) الأرض ثبت وأنها كروية الشكل، وأنها تدور حول الشمس دورتين. دورة للموت وأخرى للحياة.. تهب بها الرياح، وتغرقها الأمطار في أوحالها، فتخرج أثقالها فصبحان الذي قال: إذا
زلزلت الأرض زلزالها "1" وأخرجت الأرض أثقالها “2” وقال الانسان مالها “3” يومئد تحدث أخبارها “4” بأن ربك أوحى لها “5" يومئد يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم "6" فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره "7" ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "8". “ صدق الله العظيم".
الصوفـي:- أنت تهــرف. تريد أن توهــم نفسك بأنك تعرف في مجردات الأشياء، وفيما تقدس منها وتعالى الى السماء، وفيما يخرج من الأرض من أثقال وحمم.
الـمـــريد :- وهل هناك حقيقة غير هذه الحقيقة يا سيدي ؟
الصوفــي:- ( بتشنج) الحقيقة الوحيدة بالنسبة لأمثالك هي: الانتظار.
الــمـريـد:- لكن الى متى؟ فأنت لم تقنعني بأفكارك بعد !
الـصوفــي:- (مقاطعا) دعنيى أشرح لك ما يمكن أن يفيدك ويزيدك ثباتا
واقتناعا بأن الحياة انتظار.
الـمـريـد:-(ثــائرا )ماذا ؟ تريدني أن أبني حياتي على الانتظار، كما فعل
صمويل "بكيت" ببطله "غودبيرا يجب أن تظل على الانتظار، لأن أجدادك انتظروا طويلا. وفي
النهاية ظفروا بانتظارهم.
المــريـــد:- (يتقدم ثم يعود الى الوراء ) دعني أذهب ياسيدي، وسأترك لك نصبي في الانتظار.
الصوفي:- غبـي أنت لأنـك لا تعرف قيمة انتظارك هنا فوق هذه الأرض الموعودة بالتأجيل والانتظار.. جدك الأول كان ثورة انتظار وجدك الثاني كان امتدادا لهذا الانتظار. أما جدك الثالث فقد أنجب من
صلب الانتظار انتظارين " انتصاره للانتظار، وانتصاره على الانتظار.
الـمـريـد:- وتريدني أن أستمر في الانتظار حتى يقال عني: ورث أزمــة انتظار حادة عن أجداده وأبائه. وقبل أن يرحل، وعد أهله بالعودة، فظلوا ينتظرونه لسنوات طويلة، لكنه لم يعد، ولم يثمر انتظارهم ذلك
الانتصار الموعود.
الصـوفـي:- (غاضبا ) قلت لك أنك تخلط بين فلسفة الانتظار التي ناد بها صمويل بكيت “ في مسرحيته” في انتظار غودو “و” غبريال غراسيا ماركيز “في” لارسائل للكولونيل " ( يضحك ) هذا الكولونيل المتقاعد الذي ظل ينتظر وصول رسالة تشعره بتسوية وضعيته كمحارب قديم أحيل على التقاعد.وعندما يئس من
الانتظار..راح يسلي نفسه بإعداد ديكه لإنتصاراته المقبلة.
الـمريــد :- الانتظــار واحــد فــي كــل زمـــــان ومكان، و المهتمـــون
بتأليف القواميس على اختلاف لغاتها يعرفون الانتظار بأنه اشتقاق من الثلاثي نظر وانتظره واستنظره، أو ترقبه، توقعه، تأنى عليه، طلب النظرة منه، وغيرها من الاشتقاقات الأخرى.
الـصوفــي:- (ضاحكا) أرأيت كيف أنك لا تميز بين الانتظار الذي يقوم على ذلكم الحلم الخرافي الجميل، والانتظار بمفهومه اللغوي والفلسفي.
الـمــريـد:- ( مرتعدا من شدة الخوف ) أنا خـائف يـا سيدي (يرفع يديه ويسير دون أن يلتفت أو ينظر هنا أو هناك ) أنظر الى يدي أنهما ترتعدان من شدة الخوف ( يدور حول الشجرة ينظر الى الحبل )
خائف أن أصحو ذات يوم، فأجد نفسي مقيدا بهذا الحبل الغليظ الى جذع شجرة وقد اشتعلت فيها النيران ( يتوقف. يصوب نظرات حاقدة نحو سيده
أنت ما زالت هنا تفلسف الانتظارعلى طريقة الفلاسفة الوجوديين ( يضحك ) تذكرني بـ: ماتيو بطل"سارتر: في " دروب الحرية" وهو يجرح نفسه بسكين في إحدى أقبية " مونتبرناس"، ليعبر عن وجوده بقلب كوجيتو "ديكارت" " أنا أفكر اذا أنا موجود " الى: " أنا أجرح نفسي اذا أنا موجود"
الـصـوفــي:- ( بغضب) هل وصل بك وبــاء الاغتراب الى الشــك في نيتي ووطنيتي أيها الرجل الذي لم نره طوال عشرتنا له متذمرا أو ناقما أو نادما.
الــمريــد:- (خائفا ) أبدا ياسيدي.. أردت فقــط أن أتعلـم منك كيف أفلسف المواقف، وهذا لكي أتمكن من الدفاع عن فلسفتك في الانتظار عن طريق هذا الكوجيتو:"أنا أنتظر اذا أنا موجود".
الصـوفـي:- (بفرح )الآن فقط استطيع أن أمنحك ولائي وبركاتي.
الـمـريـد:- حتى عندما أعلن عن كوجيتوي الخاص والذي يقول:"أنا أنتظر إذا
أنا أحتضر "
الصوفـي:- (بغضب شديد) أنت في رتبة المريد..والمريدلايحق له أن يتبنــى المواقف الفلسفية التي تعبر عن وجوده، لذلك ووفقا لقواعد المريدوية، وقواعد الانتظار، ستربط الى جذع تلك الشجرة، ثم أشعل
فيها النار، لكي تكون عبرة لكل الذين يريدون أن يتمردوا عل أوامرنا بالانتحار.
الـمـريـد:- هل تريد أن تخلف العهد..وتلحق العار بتـــاريـخــك الصوفي والوطني ياسيدي؟
الصوفـي:- (بـحنــــق شـديـــد) العار أهون وأريح لرجل مثلي.. تعلــم أن لا ينتظر من مريد تربى في حظيرته، أن يحول أوامره للانتظار الى كوجيتو للأنتصار.
الـمـريــد:- ولكنك ستتهم عمدا بأنك حرقت مريدا تربى في حظيرتكم، ونادى بأفكاركم، وعمل على تحقيق أحلامكم وأوهامكم ياسيدي.. وستسفه لأنك لم تتحل بصوفية الوفاء لهذه الجبال التي
قهرت "شال" و "بيجار".
الصوفــي:- يبدوا أن الانتظار جعل لسانك يطول، وكلامــك يقترب من الوصول، لذلك سأدعو حاجبي أن يأمر حراسي بأحكام الأقفال، ودق الطبول حتى يحضر السياف ومعه قاضي غرفة الجنايات، ليلقي بمرافعة عصماء تنعيك بين الأموات والأحياء.
الـمـريـد:- (باستهزاء) ليكن يا سيدي. لكن ليس قبل أن أنتحر، وأطعم أفكارك عن الانتظار للدود والتراب، أو أقدم نفسي جيفة للكلاب.
الصــوفــي :- ( يحدق بعيدا في الافق ) هذا المريد المتمرد يريد أن يلحق بي
الضرر قبل أن ينتحر.[يأمر حراسه بأن يطوفوا في أنحاء المدينة ليجمعوا القضاة والسياف للتشاور واقناع الناس.. يسمع دق الطبول من بعيد.. تتعالى الاصوات في شوارع المدينة.. تشتعل النيران في تلك الشجرة التي ربط الى جدعها بحبل غليظ رجل من هذه المدينة. تسمع أصوات الناس وهي تردد في بكاء وعويل ]
الصوت 1: الصوفي لم يقتل.
الصوت 2: المريد لم يحتضر ولم ينتحر.
الصوت 3: ( يتســــاءل في حــيرة وبكـــاء ) اذا من الذي نهب واختلس وقتل؟.
الصوت 4:(وهو يتقدم بخطى وئيدة نحو الجمع) قل من يكون ذلك الشبح الذي اشعل نار الفتنة بيننا، وتركنا نتجادل ونتقاتل؟
الصوت 5: أين أختفى؟ أني لا أراه أين ذهب ؟ .
الصوت 6: هيا نركب المحيطات والبحار، لنبحث عنه بين الكبار والصغار.
الصوت7: أيها الرجال النار في الاشجار، فماذا نفعل بكلامنا عن الانتظار والاحتضار والانتحار، والنار تحرق انتصارنا على الاستعمار تحرق جزائر الشهداء جزائــــر الثوار.
يســـــدل الستــــــــــــار.

[الحاج بونيف]

الأخ الفاضل إبراهيم عثمان
السلام عليكم ورحمة الله تعالى
رمضان كريم
كنت قد قرأت هذه المسرحية الرائعة لك في مكان آخر ..
مررت للترحيب
خالص التقدير والود.